د. علي المرهج
وهو طبيب لبناني في الجامعة الأمريكية في بيروت، وهذه الجامعة تعتمد على المناهج الحديثة بالإضافة إلى دراسته في فرنسا ومن ثم انتقل من بيروت إلى مصر حيث أن التيار العلماني قد تشكل من وجود الشخصيات السورية واللبنانية.
يعقوب صروف وشبلي شميل) وأحدثوا تطورا في تيار الحركة العلمانية أكثر من المصريين، حيث أن الفكر العربي كان في حالة من السبات والسكون وقد كان شبلي شميل يعتقد أن الحركة هي من أساسيات التطور الاجتماعي وأن النقطة الأساسية في التيار العلماني هو فصل الدين عن الدولة. وأكد على ضرورة عدم التفريق بين شخص وآخر من حيث العرق والجنسية والقومية وغيرها ويجب أن يعامل الجميع بنفس المعاملة.
درس شميل الطب في المعهد العالي التابع للكلية البروتستانتية السورية وتابع دراسته للطب بباريس قبل أن يستقر بمصر. دافع عن العلم ووجد في طريقاً ناجعاً لتخليصهم من التخلف وسؤ الإدارة والفساد الذي تفشى في الدولة العثمانية.
تأثر بآراء بنظرية التطور الدارونية وبشراحها وأهمهم هكسلي وسبنسر وبوخنر الذي ترجم له كتاب”فلسفة النشوء والإرتقاء".
تبنى فكرة وحدة الكائنات الحية وتكونها من المادة بطريقة عفوية، وهذه المادة وجدت منذ الأزل وستبقى إلى الأبد.
يمثل الإنسان في فكره قمة تطور المادة، ولا يزال يسعى لإستكمال قواه الذاتية، وتنمية قواه العقلية، والإستعاضة عن النزاع بالتعون والإكراه بالتنظيم الإداري، والسعادة الخاصة إلى سعادة عامة.
إقترح شميل أن يكون تديننا للعلم الطبيعي بديلا عن الديانات القديمة، وأن يكون دين العلم هو الدين الجديد الذي تُبنى عليه معارفنا وعلومنا الإنسانية.
دافع شبلي شميل عن الفلسفة المادية والعلم المادي متأثراً بنظرية دارون في التطور ووحدة الكائنات الحية و أن الإنسان مثله مثل الكائنات الحية تطور بمرور الزمن وتطور من كائنات وحيدة الخلية الى كائنات ثنائية الخلية ويشارالى ان الانسان حسب نظرية التطور هو و القرد من فصيلة واحدة ولكنه مر بمرحلة أكثر تطورا، فصار هذا الكائن الحي (الإنسان) في شكله اليوم.
ان الحياة كما يراها شميل وفقاً لتأثره بنظرية التطور محكومة بالصراع ثم البقاء للأصلح مع امكانية ان يتحول الصراع الى تعاون، مخالفا في ذلك أستاذه دارون، متأثراً بالفكر الماركسي وتحديداً بمفهوم الاشتراكية كونه من الأقلية المسيحية مثل بطرس البستاني وسمير مراش ويعقوب صروف لأن المسيحيين أقلية في مجتمع أغلبيته مسلمة تحكمه حكومة إسلامية. لذلك كان جلهم من دعاة تبني العلمانية وضرورة الفصل بين الدين والدولة، فضلاً عن تأثر البعض منهم بدعوة الماركسية إلى الاشتراكية التي يتساوى فيها الجميع إقتصادياً وسياسياً ولا تمييز بين المواطنين فيها أمام القانون.
كما نقد شبلي شميل وضع الدولة العثمانية التي كانت تسمى بـ (الرجل المريض) وإنتمى لحزب”تركيا الفتاة". فضلا عن رفضه ونقده للاستعمارالغربي.
أما موقفه من المرأة فإنه يعتقد بأنها أقل من الرجل من الناحية الفسيولوجية وبذلك تكون أقل منه علمياً. وهذا مما يُنقد عليه كثيراً لتمييزه بين الرجل والمرأة وتأكيده أفضليته عليها.
مما يُؤخذ عليه أيضاً نقمته على العلوم الإنسانية لا سيما علوم اللغة والأدب والرواية والقصة والشعر ونظر لها على أنها كلام فاقد للمحتوى يهتم باللفظ دون المعنى، وعلى ما في هذا النقد من وجهة نظر تحتمل القبول لسيادة هذا النمط في حياتنا الثقافية والفكرية، إلا أنها في الوقت نفسه تهذب النفس والخلق وتمنحنا القدرة على تذوق الجميل والتمتع به وكا قال علي حرب”لا برهان من غير بيان”فالعلوم الطبيعية والتطبيقية تحتاج للغة سليمة حتى تصل للمتلقي.
ملخص فكر شبلي شميل هو: دعوته لفصل الدين عن الدولة، وتأكيده على أهمية مبدأ المواطنة.
نقده للفكر الميتافيزيقي والغيبي واللاهوتي بكل أشكاله وتمظهراته لأنه برأيه فاقد للمعن أو لا يمكن التحقق من صدقه أو كذبه كما أكدت الوضعية المنطقية.
يعد موقف شميل من الفلسفة موقفا رافضا إذ يقول"ان الفلسفة إن كان لها بعض معنى اليوم، فإنها ستصبح مبتذلة في مستقبل الايام، فالمستقبل اليوم للعلم، وللعلم العملي وحده فقط”، بمعنى أن شميل يرفض كل فكر ليس له إمكانية للتحقق من صدقها في ضوء التجربة والاختبار و(نسي شميل أن غاية العلوم الطبيعية ـ والقول لمظهرـ هي انتاج فلسفة طبيعية ولو سقطت أهمية الفلسفة لما شرح شميل فلسفته ليدعوها هو ذاته فلسفة.
يؤمن بٍضرورة اللحاق ومواكبة التقدم والتطور الحاصل في أوربا وضرورة الحوار مع الإفادة من علومها ومما وصلت إليه من تقدم في مناحي الحياة المدنية الأخرى.
هذه هي نقاط الخلاص للعقل العربي والفكر العربي كما يراها شبلي شميل
نقد اسماعيل مظهر لشبلي شميل
تأثر شبلي شميل بالفلسفة التطورية، فضلا عن تأثره بالروح العلمية التي سادت أوربا في القرن الثامن عشر، فكان ناقداً للشعر وكل ما يمت للأدب بصلة لأنه كما يعتقد”بعيد عن الحقيقة، قريب من الخيال”فثارضد الآداب والفلسفة الكلامية،”لأنها لاتستند الى شيء مما يقع تحت الحس، وغضب على المباحث اللاهوتية لأنها مثار العقيم من المناقشات ولأنها الباعث على التعصب...".
يعتد مظهر بأهمية النزعات الأدبية والكلامية، بل وحتى الفلسفية واللاهوتية كونها تدفع بإتجاه الانسان وحيويته بوصفها محركات للفكر كي يتطلع الى ماوراء المنظور،”فلكل أمة روحاً أدبية تظهر متجلية في كل دور من أدوار نشؤها وتطورها، فالعلوم الأدبية ربيبة الفكر الانساني...شأنها في ذلك شأن العلوم الطبيعية، ومحاولة إنكارها في الحقيقة إنكار لجهود الإنسانية طوال قرون عديدة”. وهنا نجد أن إسماعيل مظهر على النقيض من شبلي شميل فالآداب برأيه أساس العمران ومرجع الفضائل والإنسان يحتاجها كما يحتاج العلوم الطبيعية و"الانسان بطبعه متوثب الى إستيعاب المعاني الخفية...إن المعاني الأدبية وحب الجمال صفات نفسية ثابتة وأنها الباعث على الانصراف الى العلوم والخيال الذي كثيرا ما ينقلب الى منطلق صحيحاوالفرض الذي كثيراً مايصبح حقيقة واقعة".
موقف شميل من الأديان
يفسر شميل نشؤ الديانات في ضوء تأثره بالنظرية الدارونية اذ يرى ان”الديانات المختلفة كالانواع تنشأ من أصل واحد وتتحول بعضها من بعض وتنازع نظيرها، وكما ان الفائز في هذا التنازع هو الانسب للاحوال الخارجية، هكذا الفائز من الديانات ايضا هو الانسب لأحوال الزمان".
أحد أهم أسباب نشوء التدين، كما يرى شميل، هو حب الإنسان لذاته هذا الحب دفعه للبحث عن خلوده”وطالما أن الإنسان مدرك أنه جسد والجسد مصيره الفناء والموت، فإنه سمع همسا يقول له”لن تموت فإتبعني”فتصور أن هذا القول مصدره قوة عاقلة لها عليه سلطان مطلق فبعثه هذا الخوف على أن يتذلل لها، ثم تطرف إلى أن جعل هذه القوة روحاً ثم جعل الروح إلها ثم تصور إلهه كنفسه يغضب لما يغضب ويرضى لما يرضيه فنحر لها الهدايا وقرب القرابين، وتقرب لها بالمناسك والمشاعر وحلل وحرم ثم تأصل فيه هذا الميل بحكم الوراثة الطبيعية وإنتقل هذا التقليد الى نسله بحكم التقليد".
سبب آخر من اسباب نشوء التدين يراه شميل كامناً في طبيعة البناء النفسي والعقلي للناس اذ الغريب في هذا التكوين”أن الناس لا يصبرون على بيان الحقيقة بالأدلة والبراهين اذا كانت مخالفة لآرائهم غايرة لأهوائهم،بل ينقضونها بالقوة".
والنحل والديانات وماشاكلها أصلها واحد وقيامها في الدنيا إنما هو لعاملين حب الرئاسة في الرؤساء وإرتياح المرؤوس الى حب البقاء وكلاهما لما في الانسان من محبة الذات، فسطا دهاة الناس على ساذجي العقول فتسيد البعض وسيد على البعض الآخر.
لا يخفى أثر النظرية الماركسية أو حضور بعض رؤاها حتى وان كانت بشكل غير مباشر لاسيما في موقفه من الدين بوصفه ممثلا للنزعة الأرستقراطية ومكرساً لروح الطبقية إذ يقول شميل”الشريعة الا تقبل من ايدي الآلهة، بل من أيدي البشر، أي يجب ألا تقبل من أفواه الرؤساء والأمراء ولكن من لسان الصعاليك والفقراء حتى تكون أقرب الى الانسانية أي الى إقامة العدل الصحيح منها الى تنقيذ الأهواء والاغراض النفسانية".
فضل شميل العلم على الفلسفة التأملية التجريدية والدين لأن العلم”هو الذي يحرك العقول ويهزها ويوقضنا من سباتنا الذي نحن فيه". لذلك نجده منكراً للقول بوجود علاقة بين الإنسان والغيب، لأن جميع العاناصر المؤلف منها الإنسان موجودة في الطبيعة وجميع القوى التي فيه تعمل على حكم قوى الطبيعة. وما تمسك الإنسان بقوى غيبية سوى خضوعه لنوع من أنواع الأوهام، التي إن قويت وتمكنت من الإنسان سقطت قواه وفقد أسباب العمل. لهذا السبب نجده يقول”لا يصلح حال الأمة إلا كلما ضعفت فيها شوكت الديانات، ولا يقوى شأن الديانة إلا كلما إنحط شأن الأمة"..."ولو نظرنا إلى التاريخ برأينا من الدم سطوراً لو جُمعت لكانت بحوراً وما سببها إلا العداوات التي أثارتها الأديان".
في ضوء موقف شميل هذا من الدين نجده يحاول تفنيد أهم أركانه، فهو ينكر أن تكون هناك قوة عاقلة مدبرة للكون والعالم، الأمر الذي يترتب عليه إيمانه بقوة المادة والطبيعة على الإيجاد اذ يقول شميل”أن الإنسان هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة، وهذه حقيقة لم يبق سبيل الى الريب فيها اليوم ولو أصر على إنكارها من لا يزال مفعول التعاليم القديمة في ذهنه رسوخ النقش في الحجر. فالإنسان يتصل إتصالا شديداً بعالم الحس والشهادة وليس في تركيبه شيء من المواد والقوى يدل على إتصاله بعالم الروح والغيب"، ونجده في موقع آخر نجده يتسائل بالقول : كيف جاء تصور القول بوجود قوة أبدعت العالم من لا شيء، وهذا التصور لا تبرره الحجة الكبرى بأن لكل علة معلول، وقد فاتهم أن في هذا الدور المتسلسل لا بد لهم من الوقوف عند نقطة يثبتون فيها الوجود بمعجزة"، واذا كان من المقرر أن القوة لا تقدر أن تظهر إلا بالمادة، فلا تكون القوة اذاً سوى الصفة المتصلة بالمادة وكل صفات المادة كائنة فيها جوهرياً".
الموقف من الدين بين شميل ومظهر
من خلال ما تقدم يمكننا أن نستنتج موقف كل من شميل ومظهر من الدين، فموقف شميل هو الرفض للدين وإن كان يعترف بأن الإنسان كائن اجتماعي، أما مظهر فإنه وإن كان يتفق مع شميل في أن الإنسان كائن اجتماعي، إلا أنه لا يتفق معه في الموقف من الدين إذ يرى مظهر أن الإنسان كائن مُعتقد بفطرته، أي أنه ذو عقيدة بصحة شيء وبطلان ما ينافيه، فالإعتقاد الفطري كما يرى مظهر"تكأة الدين، كما أن الخوف والجهل منشؤه”والجهل بأسباب حوادث الطبيعة يدفع بإتجاه بناء معتقد أزاء كل حادث من حوادثها و"أصل الدين فكرة مرتكزة على الاعتقاد".
يقول مظهر"نسوق الكلام في الدين من حيث هو حقيقة أدبية إرتكزت أصولها في صميم الإعتقاد الانساني، أفضت الى بلوغ حد فرق به بين الخير والشرمن تلقاء نفسه، نبحث به من حيث أنه صلة تربط بين الفرد والمجموع...”وطالما كان الدين هو التضحية بالنزعة الفردية لصالح المجموع وطالما كان سعيه أخلاقي لمعرفة الخير والشر، فهو بالتالي أحد أسس بناء الحضارة الإنسانية والنظام الاجتماعي”وأنك تجد في النظام الاجتماعي قوتين متاضدتين تتنازعان بقاءه، قوة مفرقة وقوة مؤلفة، فالقوة المفرقة يمثلها عقل الانسان الفرد المحب لذاته، والقوة المؤلفة يمثلها المعتقد الديني يستمد مما بعد عقلية الفرد وتنحصر وظيفته في أن يحتفظ في تطور الجماعات بإخضاع مصالح الأفراد ومطامعهم لصالح الكل الاجتماعي، الذي هو أكبر من مصلحة الافراد، وأطول بقاء. وإن الدين في ذاته ضرب من ضروب المعتقد يهيء الإنسان بوازع ما بعد عقليته يضبط سلوكه نحو المجموع، إذا تعارضت مصالح الفرد ومصلحة المجموع".
من هنا يتبين لنا أن مظهر يتعامل مع الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية صرفة بعيداً عن أبعاده الغيبية واللاهوتية وهو ضرورة من ضرورات الفكر الإنساني وجزء أساسي من طبيعة الوجود البشري لذلك نجد مظهر يعطي أولوية للدين بوصفه شريعة أدبية ويهمل فكرة أن الدين قائم على الاعتقاد بقوة مدبرة حكيمة عاقلة سرمدية لا تدرك حقيقتها العقول البشرية، ويرى أن هذه الفكرة هي ليست جوهر الدين، وإنما جوهره مثلما ذكرنا سابقا التمييز بين الخير والشر وتنمية القوة المؤتلفة التي تقوي الصلة بين الفرد والمجموع.
ختاماً: يتبين لنا أنه قد حملت الأفكار العلمانية أفكاراً جديدة في ميادين الاجتماع وتنظيم الحياة، فضلا عن إضفاء طابع فلسفي شمولي يشرح تطور الكائنات الحية. نعني بذلك الأفكار الدارونية حول نظرية النشوء والارتقاء التي دافع عنها كل من شبلي شميل وإسماعيل مظهر بقوة. كما دافعا أيضا عن الإشتراكية التي اعتبراها مذهباً اجتماعيا قائما بذاته. حتى أنه عبر عن الإشتراكية بكلمة اجتماعية وهي ما يرافق العمران. والإشتراكية هي المذهب الذي يحقق المساواة بين الناس وبذلك تتحقق سعادتهم وهذا هدف فلسفي بحد ذاته.