تعايشت فيه تيارات وأشكال وموضوعات: الثابتُ والمتحوّل في الشعر الفارسي المُعاصر

تعايشت فيه تيارات وأشكال وموضوعات: الثابتُ والمتحوّل في الشعر الفارسي المُعاصر

هاشم شفيق
للشعر الفارسي القديم تأريخ من النور الذي لا يتوارى بسهولة، كونه كُتبَ ليكون خالداً ومستمراً ومنغمساً بضوء قطرته الأبدية، كشعر حافظ الشيرازي وعمر الخيام وفريد الدين العطار، وغيرهم من العمالقة الأوائل. أما الشعر الفارسي الحديث، فهو وريث لهذا الإرث العريق، وهو يشكل الاستمرارية الطبيعية لهذ الموروث الكبير، من عطاء الأسلاف،

وضوئهم الذي تركوه كدرب مدهون بالنور للأجيال المتلاحقة من الشعراء، وهم كثيرون، أبدعوا وابتكروا وأضافوا للقديم أشكالاً متقدمة وحديثة، تطورَّتْ وتبلورتْ بشكل ملحوظ، لتكون لافتة في عطائها الذي لا يقل عما قدمه السابقون من فن وإبداع خلاق في حقل الشعر الفارسي، هذا الشعر الذي لم يَخْلد للقديم، كونه إرثاً يجترّه ويكررّه في ثيمات، وقوالب موسيقية متكررة، وقافية موحدة وسياق معلوم، بل ثار على التقليدي والنمطي والمكرّس، لكيما يُجدِّد في الأساليب والأشكال والقواعد، ويطرح مفاهيمه المعاصرة، تلك التي تستطيع مواكبة الحداثة العالمية ومضاهاة المحيط الاقليمي، ولا سيما الشعر العربي، فثار الشعراء الجدد، في الخمسينيات من القرن المنصرم، على الشكل المتوارث والكلاسيكي التقليدي، المتعارف عليه بالعمودي، المُقيَّد بالعروض والبحور واللازمة الإيقاعية للقصيدة، وكان الأقرب إليهم ولحذو حذوهم في مسألة التجديد، هم الشعراء العرب، وبخاصة الشعراء العراقيين، الجار التاريخي، في حالات السلم والحرب، فمالوا الى التأثر بتجربة الرواد العراقيين، ملتزمين بالطريق الحديث للقصيدة، تلك التي تجدَّدتْ على يد نيما يوشج ومهدي إخوان ثالث، ومن ثّمَّ أحمد شاملو وسُهراب سِبهري وفروغ فرخ زاد، لتنضاف لذلك الجيل أجيال جديدة، مستمرة في العطاء الباهر والخلاق والمثير حتى هذه اللحظة من الأزمنة الشعرية الحديثة.
ولعلَّ جديد هذا الشعر هو صدور انطولوجيا بالعربية، ترجمة مريم العطار، وهي شاعرة تتقن العربية والفارسية، وقدمت أكثر من كتاب في مشهد الشعر الفارسي الحديث، مترجمة فروغ فرخ زاد، وهي من الشاعرات البارزات والمؤثرات في سياق الشعر الفارسي الحديث. وها نحن نقرأ ترجمتها الجذابة لشعراء متنوِّعين، ومن تيارات ومدارس وأجيال مختلفة، تألقتْ وعُرفت في سماء الشعر الإيراني الحديث والمعاصر.
ومثلما هو سائد في الشعر العربي، أي وجود تيارات وأنسقة وأشكال فنية وجمالية وإبداعية تتعايش جنباً إلى جنب، كالشعر الكلاسيكي المعروف بالعمودي، وله رواده وشعراؤه ومعجبوه، هنالك ايضاً الشعر الحديث المكتوب وفق التفعيلة والشرط الوزني، وثمة الحر الخالي من الأوزان الشعرية، ولكنه يعتمد الإيقاع النفسي والروحي والحياتي، لنسقه المنسجم مع إيقاع العصر وتحولاته التاريخية والفكرية والأنطولوجية.
في ضوء هذه الرؤية، تشكل وجود هذا الكم من شعراء إيرانيين خلاقين، بكل معنى الكلمة، يمتحون من أفق شعر عميم ووثير ومتعدد، وفي ظل هذا السياق ستطالعنا في هذه المختارات الشعرية، أسماء شعراء لافتين، وهم في سن صغيرة، إنهم كوكبة نضيرة، لشعراء شبان جدد، مُبهرين بصياغة نصوص منيرة، ودالة في زاوية تناولها للموضوع، والفكرة، والصياغة الجمالية الجديدة، تلك المتأثرة دون شك بالشعر العالمي وشعر الجوار العربي، ولكنها دون أن تفرِّط بنَفَسها الخاص، وشرطها الوجودي المتميز والمتمكن، وطريقة تفكيرها، واستبطان أقانيم العمق التاريخي، لهذا البلد المتميز بعطائه الشعري، الغني بموضوعاته الفلسفية ورؤيته العرفانية وصفاته الاستاتيكية الأخرى، الفنية والتعبيرية والأسلوبية.
تبدأ الأنطولوجيا الشعرية هذه، بشعراء معاصرين أحياء، فأكبر شعرائها ينتسب إلى مواليد 1950 ألا وهو الشاعر شمس لنكَرودي، وهو شاعر غزير ومنتج ومثقف لامع، صدرت له دواوين عديدة، من بينها « سلوك العطش» وهو ديوانه الأول، و«بستاني جهنم» و”بحار الشوارع «، و”قراءة شفاه سمك السلمون «، ومن الأخيرة نختار هذه الأبيات :
"لا أريد أن أفكر بشجرة
صنعوا منها مكتبة
وكرسياً هو أنا.
الشعر ـ لغة الطيور في حضرة سليمان،
عندما لا يكون في البيت نبيٌّ سواك".
ومن مجموعة”بستاني جهنم”وهي مجموعة مميزة، نالت شهرة واسعة، وحصلت على جوائز عديدة، وانتشرت في الأوساط الأدبية والنخبوية، فضلاً عن الأوساط الشعبية، نختار منها :
“تأخرت يا موسى
اعطِ عصاك لشارلي شابلن،
دعنا نضحك قليلاً”.
وننتقل الى شاعر آخر يقاربه في السن، هو عباس صفاري، وقد تميَّز بكتابة الشعر الغنائي لأغاني البوب، وهاجر الى أمريكا، وصدرت له عدَّة مجموعات شعرية أبرزها”الكبريت المبلل”ومنها نقتطف”:
"كنتُ وحيداً ولكنني لم أكن بوذا
ولم تكن في صدري زهرة بلورية،
في كلِّ سجن في العالم
وفي كلِّ مقبرة في العالم
لديَّ عزيز مسجون ومدفون،
كنت وحيداً".
ومن الجيل ذاته نقرأ للشاعر شهاب مقربين، وهو ناشر للشعر، وله عدَّة دواوين أهمها « على جانب الطريق رأيت بنفسج طفولتي الفائز بجائزة الشعر الفارسي الحديث، ومنه نقترح هذا المقطع :
“الثلج الذي تساقط، كان أنا
اجتمعتُ حولكِ، احتويتكِ، داعبتُ وجنتيكِ، قبلتُ كتفيكِ وسقطتُ
قطعةً… قطعةً قرب قدميكِ،
وضعتِ قدميكِ فوقي، صرت أكثر تماسكاً،
أكثر قوةً، سطع نوركِ فوقي فذبتُ”.
أما الجيل الأحدث والأجد، فهم الذين ولدوا في السبعينيات من القرن المنصرم، أو اثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وهم شعراء مغامرون وتجريبيون وشكلانيون، الى حد ما، وقد غزتهم مثل غيرهم من شعراء العالم التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، فسايروا الريح كيفما مالت، فكتبوا ما يناسب الزمن، والوقت الراهن الذي ميَّزهم عن غيرهم، بطفرته وصنيعه الآلي. هنا وفي الشعر الأحدث من هذه الموجة سنقرأ استعارة مفارقة، ورمزاً دالاً، ولغة باهرة ومثيرة، لا بلاغة زخرفية ولا توشيات صوفية وكنايات عديمة الجدوى، غير فاعلة في سياقها التعبيري، فشاعرة مثل كرناز موسوي، وهي مثقفة جامعة، أي شاعرة ومُخرجة ومُترجمة وناقدة، مواليد 1974، ستلفت نظرنا الى طريقتها في الكتابة الشعرية عندما تقول :
"فتشوا محفظتي، ما الجدوى؟
أسفل جيوبها هناك آه مخبّأة، تتكرر باستمرار،
دعوني وشأني، ربما أنام مع نبتة التوت، ولا أبالي». من ديوان « حافية القدمين إلى الصباح». ومن ديوان « أغاني امرأة دون إذن» وهو من الدواوين الجميلة الحافلة بالصورة نقرأ :
« لو ارتديت كل غيوم العالم، سيجعلونَ فوق كتفي رداءً آخر،
حتى لا أتعرى، هنا العتمة نصف قمر".
بينما نجد الجيل الأحدث سناً، مشاغله مختلفة، ونماذجه الشعرية، تميل الى التفصيل والمشهد اليومي، وتسعى الى توليد الابتكار من التلقائية والسائد والمتداول في الحياة اليومية، وجل هؤلاء الشعراء، لم يتجاوزوا الثلاثين من العمر، إنه الجيل الذي وِلد في الحرب، وربما نشأ وترعرع في سنواتها، سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية التي ابتدأت منتصف عام 1980 من الألفية السابقة، وبذا نستطيع أن نتلمس بسهولة أجواء تلك السنوات، وكيف ألقت بظلالها على هؤلاء الفتية من الشعراء، فها هو ميثم متاجي الشاعر والقاص يقول في قصيدة « لقاء بعد الحرب « هذه الأبيات التي تحمل دلالاتها ورموزها معها :
“كنتُ قد كتبتِ لي في الرسالةِ، إننا سنلتقي بعد الحرب،
ولهذا نجوتُ من كل التفجيراتِ، كان عطركِ معي،
الرصاصاتُ كانت تغيِّر طريقها
وتستقرُّ في قلوب التلال”.
وحين نقرأ لأصغر شاعر في هذه الأنطولوجيا المهمة، وهو بابك زماني، مترجم وشاعر وروائي، من مواليد 1989، فإنه يقول «
“حين أفكر بالحرب أصاب بجروح".
"أنطولوجيا الشعر الفارسي"
ترجمة مريم العطار
دار المدى، بغداد 2016
264 صفحة