جريدة (كناس الشوارع) ومحاكمة صاحبها في العشرينيات

جريدة (كناس الشوارع) ومحاكمة صاحبها في العشرينيات

محمود كريم الموسوي
فـي أهمية الصحافة ودورها الفاعل وسط الجماهير نستذكر قول القائد نابليون بونابرت : (إنني أوجس خيفة مـــن ثلاث جرائد أكـثر مما أوجس خيفة مـن مائة ألــف مقاتل)، وهو بذلك لايعني ثلاث صحف تحديداً، وإنما يعنــي قــوة الـوعي وتأجيـــــج المشاعر الذي بإمكان الصحف الثلاث أن تبثه بين الجماهير ليعادل قوة مائة ألف مقاتل مدججين بالسلاح في ساحة معركة،

وللقارئ العزيز أن يتخيل ذلك، بل علـــى القارئ أن يسحب ذلك على نفسه، ويقدر مدى تأثير الصحافة، في رؤيته لأحداث المجتمــع، وكيفية معالجتها.
وإذا كان تأريخنا الأدبي، قد حفــــل بأنواع متعددة من (الأدب الساخر)، و(أدب النديم) و(الفاكهة الأدبية) وغيرها، والتي تهدف إلــى تحريك الذاكرة، وتنشيط الفكر باسلوب فكه، ليس لغرض الضحك والإضحاك، وإنما من أجـل التــــوعية والتنــوير، فان لصحافة الهزل والفكاهة، دوراً فاعــلاً فــي اختيار الكلــمات الساخــرة والتعليقات اللاذعــة ذات الشحنات المـــؤثرة فــي نفسية أفــراد المجتمع فـــي مخلتـف اتجاهاتهـــم ومستوياتهم وعقائدهم.
وبين صدور أول جريدة في العراق، جريدة (زوراء) عام 1869 م، وصدور أول جريدة هزلية (مرقعة الهندي)عام 1909 م، في البصرة، أربعين سنة كافية لأن تنجب صحفيين، لهم القدرة من أن يطوعوا الطرفة، والكلمة الساخرة، إلى نقــد لاذع للمساوئ، مع تأشــير المحاسن، لترسيخها فـي بناء المجتمع، البناء السليم المتطــور، باسلوب هزلي ضاحك، يأخذ تأثيره في نفس المتلقي، ويعلق في ذهــنه لـــترديده فــي التجمعات، والمحافل، منتشراً بسرعة.
وكان الصـحفي ميخائــيل تيســـي (1895م ــ 1962م)، واحــــداً مـــن أولئـك الصحفيين، الذين سخّروا الأسلوب الهزلي الساخر، إلى نقد لاذع هادف.
بدأ ميخائيل تيسي، حياته الصحفية بنشر مقالاته النقدية الساخرة، باســم مستعار هو (كنّاس الشوارع) في جـــريدة (دجـــلة) لصاحبها ومديرها المحامي داود الســـعدي الصادرة في بغـداد فـي 25/ 6 / 1921م، وجريدة (الرافدان) لصاحبها سامي خـوندة الصادرة فـي بغداد في 26 / 9/ 1921 م، والتي احتجــبت عــن الصدور نهائياً فــــي 23 / 8 / 1922 م، بعد أن أغلقت (6) مرات، وقد تميز ميخائيل تيسي، باسلوب نقدي اجتماعي ساخر.
في عام 1922 م، أصدر ميخائيل كتاباً بعنوان (ماهية النفس ورابطتها بالجسد) وقد أشارت مصادر، إلى انه ترجمة من الانكليزية، لكاتب انكليزي، لتمكنه من اللـغة الانكليزية وثقافته، وقد أثار الكتاب زوبعة لما يحمل من أفكار تجاه الـدين حتى وصلت إلى صدور فتوى بتكفيره، وتعرضه للسخرية فظهر على غلاف مجلة بغدادية التعليق (في بغداد ظهر مبدأ جديد اسمه المبدأ التيسي).
جمع تيسي مقالاته الساخرة، التــي كانت بتوقــيع (كناس الشوارع) وأصــــدرها بكتاب عنوانه (نقدات كناس الشوارع)، ثم أصدر رواية بعنوان (خيمة العدالة).
في الأول من نيسان 1925م، أصدر صحيفة بعنوان (كناس الشوارع)، يصفـها الأستاذ فائق بطي بكتابه (الموسوعة الصحفية العراقية) بأنها : (مـن الصحف المهمة في تاريخ صحافة الفكاهة والهزل).
وعن تسمية الجـــريدة (كناس الشوارع) ينقل لنا الأســـتاذ فائق بطي مـــن كتاب الأستاذ رفائيل بطي (الصحافة في العراق) المحاورة التي دارت بين الأستاذ رفائــــيل بطي وبين الصحفي ميخائيل تيسي فيقـــــــول تيسي : (أردت أن أختار شخصية آدمية كثيرة التجوال في شرايين المدينة وقلبها، دوارة تقترب من الأبواب، وتدخل البيوت، بيوت الفقراء وقصــور الأغنياء فلــم أجــد خيراً مــن كناس الشوارع، ثـــم وددت وأنا أعتزم الانتقاد، والحملة على العادات والنواقص في الناس والمجتمع، أن أختار اسـماً يوافقه حمل سلاح، للتهويش والضرب، ولسميت مكنسة مشهرة دائـماً، يحملها علــى كتفه، ويكنس بها وينظف، وقد يستخدمها للضرب والدفاع عن النفس عند الحاجة).
وأعلن الصحفي ميخائيل تيسي في العدد الأول من جريدته (كناس الشوارع) عن هدفـه من إصدار الجــريدة وخطـة عمله قائلاً : (خطتـي معلومة واضحة كالشمس فـي خامسة الليل، أحمل مكنستي وآخذ أتجول في الطرق والأزقة، فحيثما رأيت أحداً يأتي أمراً مخالفاً للذوق والشم والنظام والقانون والكمنجة، ضربته بمكنسة كافرة على رأسه فإن انكسرت المكنسة راحت من كيسي، وان انكسر رأسه راح من كيسه).
ويبدو إن مقالاته الساخرة، وتعليقاته الفكهة، كانت سبباً في تعرضه للاغتيال من قبل شخص مجهول، فقد كان يجلس في صيدلية (كرجي) في شارع الرشيد عند (عكد النصارى) عندما دخل الصيدلية شـخص ملثــــم وأطلق عــدة اطلاقات نارية باتجاهه، واحدة منها أصابت فخذه، وولى الجاني هاربا.
وبعد تعرض الصحفي الساخر تيسي للاغتيال، أغلق جـــريدة (كناس الشوارع) وأصدر نشرة روائية سماها (مرآة الحال) في 15/10/1926 م.
لم تستمر (مـــرآة الحــال) طويلاً، فبعد صدور أعداد قليلة منها، أغلقها ليصـدر جريدة (سينما الحياة) في 17/ 12 / 1926م وكانت جريدة أسبوعية، كتب في عددها الأول (ستكون وقـــفاً لخدمة العـموم وصوالحهم، اشـــتراكية بمعنى إن للجمــيع حـــق الاشتراك في تحريرها وإبداء آرائهم فيها مهما تناقضت المبادئ واختلفت المرامي فــي خدمة الشعب، اشتراكية بمعنى إن حقولها مفتوحة ومفتوحة لبذور أقلام الأدباء وبـنات أفكارهم) ولم تعمر طويلاً.
في 6 / 5 /1936م اصدر ميخائيل تيسي جريدة (الناقد)، وهي جـريدة هزلــــية أسبوعية ساخرة، وكان بيته الكائن في ألسنك مكتباً لها، ثم أغلقها في 26 / 2 /1939 قبل أن تكمل سنتها الثالثة في الصدور، كونه سأم الحياة الصحفية، وتفرغ إلـى الوظيفة إلى أن وافاه الأجل المحتوم عام 1962م.