بعض أساليب الإنتاج الزراعي في شعر الحاج زاير

بعض أساليب الإنتاج الزراعي في شعر الحاج زاير

كـــامـــــل داود
لقد تبوأ الحاج زاير (1860–1919) مكانة شاخصة في وجدان محبي الشعر الشعبي العراقي ولم يحظ شاعر من مجايليه بمثل الذي حظي به، والذي قال عنه جاك بيرك انه شكسبير الشعر الشعبي العراقي،
فقد امتدت شهرته على مدى أكثر من قرن والناس تتداول إشعاره شفاها وتتمثل بغزله وتهكمه ومراثيه كما هو الحال في الأدب الشعبي الاصيل لكل مبدعي الشعوب.

وقد لا يجانب الصواب من يزعم إن النص الشعبي مجرد جسم يرتبط بآصرة وعلاقة بالتراث وبالمجتمع، وان هذا النص لا بد له يوما من التواري في ركام التاريخ ، حتى وان قيّض له راوٍِ يمسح عنه ما غشيه من تراب السنين ويجلي عنه صدأ الأيام ويكسو الرميم من عظامه بعنفوان الحياة، ولكن هذا يبقى مجرد زعم عند مقابلته بتراث (الحاج زاير الدويج) وذلك ببساطة أن المتداول منه يحمل أهمية كبرى، فليس من السهل على المخيال الشعبي أن يحتفظ بالغث والسمين معا، سيما وان الشاعر قد نبغ في مدينة النجف المعروفة بصرامة وصعوبة شروط
(إجازتها) لشعرائها، فما بالك بشاعر قروي معدم نزح به والده من (برس) تلك القرية الهامدة بين الحلة والنجف إلى المجتمع النجفي الذي كان يهزأ من القروي ولا يراه إلا مشروعا للتندر والانتفاع .
ومن الجانب الاخر كان الوالد مزهوا بطفله المعجزة سواء بحافظته المذهلة اوبصوته الرخيم،الامر الذي جعله يتساءل في قرارة نفسه هل يصلح موهوب مثل هذا لغير قراءة التعازي الحسينية؟ وكان الجميع يشاطرونه الرأي فذهب به للتعلم في كتاتيب النجف الدينية. ولم يلبث الوالد قليلا حتى فارق حياته وعندها فارق (زاير) كتاتيبه لينغمس في رحلة العمل والشقاء.وتقلب في مختلف المهن في المدينة فلم تزده الا ضياعا وسغبا ولم يتسطع ان يقاوم نداء الريف فقرر ان يجرب حظه في العمل الزراعي بمختلف أساليبه المعروفة والتي رسمت حدودها التشريعات العثمانية في قانون الأراضي عام 1858 حيث جهد مدحت باشا في تطبيقه بهدف تفكيك المنظومة الاجتماعية العشائرية وكسر شوكة الشيوخ كثيري التمرد في العراق وكان في ذلك مدعاة لأولئك الشيوخ أن يضموا الحاج زاير الى صفوفهم ويكون (مهوال) العشيرة، وان كان الحاج زاير يرى في ذلك غضاضة وشرطا قاسيا ولكن لا بديل يغنيه عن ذلك حتى وان يتنصل الشيخ عن منحته فهو في وضع يتطلب التروي والمناورة (كالولي دبّرت العٍشَة كلتلهم الدٍهَنة تعوز) ويبدو ان لذلك حدود، فغالبا ما تثور ثائرة الشاعر وينساب الشعر من فمه متهكما وجارحا كما في هذه القصيدة :
ديرة عبادي صدك ميشومة
حجي زاير باع بيها هدومة
والتي يذكر فيها (الشكارة) وهي هدية من الشيخ الى شخص ما لقاء منفعة عينية او معنوية و(الشكارة) تمثل الناتج الزراعي لمساحة محددة فيقول الحاج زاير في ذلك :
ال الك خيطين عندي بهل شلب وبالمحلة كال الك هالچومة
ومن الواضح هنا ان الحاج زاير يسخر من مكرمة الشيخ الذي وعده بوفرة من الشلب حيث يكني عن تلك الوعود قائلا:
(تالي طلعت كفتي مثلومة)
ولا يشط بنا الظن الى ان الشيوخ على هذا الديدن من التسويف والمراوغة،فقد تكون منحهم سخية خاصة عندما يكون الممنوح سيدا (يرجع نسبه الى الرسول الكريم ص) فالحالة هذه نكون ازاء حنكة سياسية يروم من خلالها ذلك الشيخ الظهور بصورة الورع المترجي (شفاعة الرسول واله ص) الامر الذي يزيد من سطوته ونفوذه ويعزز مشيخته في العشيرة :
كاع سيد ارحيم هالمطيها
غير بحرك ما سكه بعاليها
وقد تتطلب بعض الاعمال الزراعية الحاجة الى عدد كبير من الايدي العاملة فيلجأ الملّاك الى طلب (العوانة) وهي جهود مجانية تقدم بأسلوب السخرة (من غير اجور) كما في هذا المقطع والذي يهزء به الحاج زاير من رداءة قطعة من الارض الزراعية :
لو مرزت هاي الكاع ازرعلك ام سبع ذراع
افلاليحنة هواي سباع وما يحوج العوانة
ولا مندوحة من القول ان الحاج زاير قد جرب صنوف العمل الزراعي الاخرى ومن ذلك اسلوب (الضمان) والحقيقة ان هذا الاسلوب اكثر وجاهة وعزا ولكنه يشتمل على مخاطرة كثيرة لأن الضامن يدفع مبلغ من المال لقاء جني المحصول لذلك الموسم، ويبقى تحت رحمة الظروف الطبيعية المؤثرة على كمية المحصول ونوعيته، ويظهر ان الشاعر لم يجني سوى الخيبة من (ضمانته) فيقول مؤنبا شريكه الذي ورطه فيها :
لصل مهدي وأجرنه من إذانه واذچرنـه على هاي المهانه
واكلهاللي عكس وياه زمانه يخسر لو ضمنله الفين بستان
اما في هذه القصيدة فيقول مخاطبا احد سائليه عن ارباحه في عمله هذا :
اظمانتي كلش خوش
محصولها ترس الحوش
لو جايني وكت الطوش لميتلك حلانه
ولم يختلف الحاج زاير عن بقية الضامنين والذين يبحثون عن الربح من تلك الضمانات فيستغلون الايدي العاملة الموسمية الرخيصة والتي غالبا ما تكون من النساء الفقيرات اللواتي يعملن في بساتين النخيل، وقت جني التمر ويطلق عليهن اسم الطواشات ومفردها (طوّاشة) ويبدو ان احداهن قد (احدثت) بصوت مسموع فاثار ذلك مخاوف الحاج زاير من الخسارة المترتبة على هذا الفأل السئ فقال متهكما:
يزاير كوم تمرك كبر افراشة
زادت بركته بمدفع الطواشة
ان سوء حظها او (سوء غذائها) قد اوقعها في شباك لسانه، ومثلما افرغت ريحها، افرغ الحاج زاير لواعجه ونفث احزان خساراته المتلاحقة مخاطبا بل فاضحا تلك الطواشة البائسة :
اكعدي اكعود يم طنه
اكعدي كعود ونهابچ
نعلت امچ عله الجابچ
حركتي البيت بأطوابچ
الماي منين اجيبنه