الحاج زاير وشعرية الاغتراب

الحاج زاير وشعرية الاغتراب

د. عبد الإله الصائغ
لايحتاج الشعر الشعبي لدى الأمم كافة الى شهادة لكي يدخل وجدان التلقي وميدان الشعرية! فلقد اسس مبدعو هذا الضرب شعرية قصائدهم من تراب ارضهم واغنيات شعبهم وذائقة متلقيهم! وبخصوصية الشعر الشعبي العراقي الجزل فقد ظل منهلا عذبا لشعراء الفصحى! ومن يظن ان اللغة العربية ستكون في خطر من نسائم الشعر الشعبي وعبقه فهو يمينا لايفقه شيئا عن اللغة العربية

ولا الشعر الشعبي! فهذه اللغة التي نتكلمها ونسميها الفصحى لم تكن فصحى في وهلتها الأولى بل كانت لهجة محلية تتكلمها قريش حسب! وثمة لغات عربية الى جانبها لاتقل خطرا عنها ولا تقل على راي علماء اللغات عن الثلاثين! والمعلقات السبع او التسع التي زعم انها علقت على استار الكعبة وكتبت بالذهب الأبريز كانت علميا قصائد من الشعر الشعبي عهد ذاك! محاولتي هذه تنطوي على حميمية لشعر اهلنا! وتوكيد على ان الشعر الشعبي كان ومازال متفوقا على شعر الفصحى (كذا) بشعريته العالية المؤثلة على الصورة الحارة والعبارة الموحية والنغم الخلاب! والمجاز المعجز!!

مدخل اول :
من يوم فركَاك جسمي من صدودك عود
هيهات عكَبك يسلّيني نديم وعود
كلما أعذْل النفس روحي تكَـلِّي عود
لي صاحبن كَط محَّد كَال إله لوله
وحياة من بالمهد جبريل إله لوله
لو ما يكَولون واعرف بالحجي لوله
جنت احجي ويَّاك لا جن بالزبيبه عود.
2/
* يقول المستشرق جاك بيرك :

((الحاج زاير وهو أكبر شاعر شعبي في العراق وقصائده تدوي على كل الشفاه منذ جيل في بيئة تلهبها محبة أهل البيت!! حدث بعد وفاته أن ظهر في الحلم وحين سألوه كان مختبئا وراء صمته لكي يحافظ على السر!! وكان التوافق بين إيمانه الجماعي ومغامرات حياته الخاصة مع دوي اشعاره يعكس اندماج المكان والزمان!! وكان إلهام الشاعر الحاج زاير يهبط عليه في اي مكان حتى لو كان بين اخوانه وبالطبع كان يرتجل المقاطع الصوفية في حب اهل البيت بالدفق الذي يوجه فيه النداءات الأنيقة الى فتاة عابرة!!)) إ.
* ويقول الأستاذ حسن الأسدي :. هو أشـعر شعـراء الحسكة على الإطلاق وشعره صورة ناطقة لحوادث عصره وتقاليد مجتمعه وسيـرة مواطنيه! والجيل الذي عاصره والجيل الذي تلاه يردد بإعجاب وفخر أشعاره التي يجد فيها كل شخص ما يوافق طبعه ويلائم غرضه وهذه هي ميزة الخلود التي تمتع بها سلفه المتنبي إ.هـ.
* أما كبير مؤرخي العراق السيد عبد الرزاق الحسني فيقول :
الحاج زايرأسرع شعراء عصره بديهة! وينشد القصيدة التي تبلغ المئة بيت ارتجالا وفي آن واحد فيخال السامع أنه كان يحفظها منذ مدة دون إعمال فكره! وله اليد الطولى في الموال والأبوذية والمربع والميمر إ.هـ
وكان الشاعر الشهيد رائد حداثة الشعر الشعبي العراقي ابو مخلص الأستاذ عزيز السماوي طيب الله ثراه مجذوبا بالحاج زاير! فهو حين يطرب يغني زهيريات الحاج زاير! ويفرض علينا نحن اصدقاءه ان نصغي بخشوع حين يجود الزهيريات والابوذيات الزايرية! مرة قال احد اساتذتنا في كلية التربية المسائية (دار المعلمين العالية سابقا) وكان استاذا سلطوياً متغطرسا : شعر الحاج زاير عسكورة الشعبي نموذج للتخلف والانحطاط! فنهض ابو مخلص وهو يرتعش وكنت همست له : عزيز عبرها من اجلي اكَعد! فلم يصغ عزيز لرجائي فقال للاستاذ اولا ينبغي ان نعرف ان مصطلح التخلف لايساعدك على اتهامك هذا! فهل اتفق الدراسون على مصطلح التخلف وعن دلالة الانحطاط! هل نحن متخلفون مثلا ام متحضرون؟ هذا الصف الذي نحن فيه يا استاذي شهد عمالقة الأساتذة وكبار المناضلين المتحضرين مثل محمد مهدي البصير ومصطفى جواد وطه الراوي وكانوا يكلفون الطلبة لكي يبحثوا عن مخطوطات الشعر الشعبي كما يبحثون عن مخطوطات الشعر الفصيح فتخرج على ايديهم كبار المبدعين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي! فهل سيتخرج منا جيل كذلك الجيل؟ ولم ينتظر عزيز السماوي جواب الدكتور الذي انبهر بثقافة عزيز السماوي وقوة حجته فحمل كتبه وخرج وقال لي صائغ خلص دروسك وآنة انتظرك في سرجون.
اما صديقي الشاعر الكبير الأستاذ شاكر السماوي فقد اهدى أنفس دواوينه – إحجاية جرح – مطلع ستينات القرن العشرين الى الشاعر الحاج زاير!! وكان السماوي معجباً أيما اعجاب باعتداد الحاج زاير بنفسه في قوله : والناس كَالت مجنون ابعكَلي اقنعت بس آنه ولهذا فقد اهدى الشاعر شاكر السماوي ديوانه الشهير – إحجاية جرح – الى الحاج زاير!!. ويرى الأستاذ شاكر السماوي أن الحاج زاير مثابة إمام الشعر!! و الشعراء ليسوا سوى زوار في صحن زاير إ. هـ

وقال السيد محمد جمال الهاشمي :
وزاير في الشعر أنشودة
غنى بها البادي مع الحاضر
هلهل في قيثاره مطربا
أيامه في لحنه الساحر
ورثاه صديقه وتربه وحافظ شعره السيد علي القصير بن السيد محمد بن السيد عبودي المرعبي الحسيني من قرية السادة آل بو اذبحك قرب مركز الحلة (والقصير جدي رحمه الله فوالدي هو السيد علي بن حمود بن علي القصير).
إذا امعنت في لوح المصائر
وجدت الخلق للمجهول سائر
وآية قولنا علم فِطَحْلٌ
بسبك الشعر يدعى حجي زائر
فقد وهب القصيد مذهَّباتٍ
وأبكاراً خوالد في الضمائر

..نعم هو الحاج زايربن الحاج عسكورة بن علي بن جبر من قبيلة بني مسلم نسبة الى ابي المكارم مسلم بن قريش بن بدران بن مقلد العبادي!! وبنو مسلم فخذ من قبيلة طفيل العربية المنتسبة الى طفيل بن عامر القيسي وتقطن بنو مسلم على ضفاف الفرات فرع الهندية ضمن منطقة نبي الله ذي الكفل!! وقد زار والده مدينة النجف التي كانت وما لبثت قبلة كل قروي طموح!! هذه المرة اصطحب عسكورة معه صغيره (زاير) وزاير فيه عبق التيمن بزيارة مرقد علي كرم الله وجهه , فمعنى اسم زاير عند اهل الفرات هو الذي زار العتبات المقدسة او انه موعود بزيارتها!! زاير الصبي الذي يرى النجف اول مرة فيفتح عينيه على وسعهما مندهشا من مدينة تبتكر أفراحها وأتراحها ولا تكل من الاحتفالات ولا تمل!! زاير يرقب المباهج التي تفتقدها قصبة بيرس!! حتى المآتم الحسينية بالنسبة للقروي هي شيء من المباهج!! يرقب المعالم المبنية بالطابوق كما بهرته الشناشيل والأزقة المفرطة في الضيق وأضواء الثريات المتدلية في الصحن والمساجد والحسينيات والسوق الكبير!! واصوات الباعة في سوق الخضار تلك التي تحاكي الغناء! وحركة النساء في الأسواق او الأزقة او العتبات بعباءآتهن السود (العراقيات) والملونة (غير العراقيات)!! تعلق الصبي زاير بالنجف المدينة العبقة بالعلم والشعر والجهاد وهو يصطنع مقارنة بينها وبين قرية برس التي تنام مبكرة وتصحو متأخرة!! بيرس او بورسيبا القصبة الزراعية الآيلة الأطلال وقد عانت زقورتها وقصورها وكنوزها من جهل الريفيين وجشع تجار الآثار الذين كانوا ينبشون القبور والتلال والقصور للعثور على قطع النقود والأواني والحلى الذهبية والفضية والنحاسية أما آجرها فيبنون منه البيوت وزرائب الحيوان! ناسين انها كانت موضع اقامة مردوك الذي انتصر على تياما في ملحمة التكوين وكان طعامة يأتيه ساخنا لأن الناس تصطف خطا من بابل الى بورسيبا وكل سابق يسلم اللاحق طعام مردوك فيصل بهذا البريد البشري بوقت قياسي!! فضلا عن ان الناس يتحدثون عن ملك اسطوري تمرد على الله ورمى السماء بالمنجنيق من زقورته فصعق وغارت قصوره تحت الأرض والناس تدعوه النمرود!!! في هذه القرية المنسية اطلق الحاج زاير صرخته الأولى وابصر النور لأول وهلة ذات شتاء من عام 1860 ويبدو ان مخايل موهبة قول الشعر بدأت مبكرة في حياته فقد كان وهو طفل يأخذ ألألحان القروية ويؤلف عليها كلمات من عنده فيجن جنون السامعين لهذا الطفل المعجزة!يعطونه لحنا ليمتحنوه فيصوغ كلمات من عنده وعلى البديهة!! وقد صقلت النجف مواهبه وعمقت إحساسه بأهمية موهبته!! يقول جاك بيرك : (.... وكان التوافق المؤثر بين الأيمان الجماعي ومغامرة حياته الخاصة ودوي اشعاره يحقق له حتى النهاية اندماجا يدل على المكان والزمان!وكان الهام الشاعر يهبط على الحاج زاير وهو بين اخوانه! وفي احدى الجلسات البكائية التي يتفجعون بها على المصائب التي توالت على علي بن ابي طالب وأولاده قام زاير وارتجل شعرا مؤثرا ثم القى مقاطع صوفية......... وها هو الحاج زاير وقد اضحى جنديا في نهاية العهد العثماني!! فأرسل الى حامية قطر! وهناك كان ينفس عن حزنه بتنهدات بلغ من تناسقها وعمقها ان جعلت رفاقه المجندين يتحلقون حوله مما حمل القيادة على الإشفاق عليه وصرفه الى منزله..... وها هو يعود الى السفر عام 1914 وكانت العودة مناسبة لنظم الأغاني حول مواضيع بطولية!! ولسوء الحظ يهاجم الأنكليز البصرة فيتقدم العلماء الصفوف على راس معركة الدفاع ضد اعداء الدين ويضطر الحاج زاير بعد استنكاره لإنسحاب العثمانيين... يضطر الى الإختباء في الكوفة ثم يعود للظهور في بغداد! ويراه الناس في جامع الحيدر خانة حيث يدعوه احد السادة الى الحرب المقدسة وكان ذلك كافيا لإثارة قريحة الشعر عند الحاج زاير! فهو يتهيج من هياج الناس فيرتجل مرة اخرى عواطفه النبيلة في شعر مؤثر..... ولكن صورة الحاج زاير لا تقتصر على الملامح المثالية فقط فهو اسير رغبات ذات خصوصية!!! فعند عودته من حامية قطر الى بلده وهو يعيش في وئام مع الفتى اليافع الوسيم واسمه هادي!! وقد مات هذا الحبيب غيلة فحامت الشكوك حول الحاج زاير ووجهت اليه تهمة قتل صديقه الفتي هادي!! وكانت هذه المفارقة الماساوية مناسبة لوضع اشعار جميلة تقارنه بالشاعر ديك الجن الحمصي فهو الآخر متهم بجريمة قتل مزدوجة ارتكبها بحق صديقته وحبيبته عندما فاجأهما يخونانه فقتلهما واحرقهما وصنع من رمادهما كأسين يشرب منهما بالتناوب مغنيا عواطغه.......

شعرية الحاج زاير :
الشعرية هي بؤرة الجمال في الشيء!! أي شيء العمارة واللوحة والديكور والوجه والجسد والموسيقا والشعر... الخ هي ليست مقتصرة على الشعر وإن هيأ تماثل الحروف لنا ذلك!والشاعر لن يكون شاعرا ذا تمييز ما لم يكتشف مكامن الشعرية في قدراته! ومكامن الشعرية عهد الحاج زاير يحددها الجمهور!! لقد رفع الحاج زاير الذائقة الشعرية الشعبية وارتفع بها ثم ارغم شعراء عصره على ترسم خطاه لكي ينالوا مثلما ناله زاير!! لم نعد نتلمس الترهل والسذاجة في الشعر الشعبي قارن :
يا صاح عودي ذبل وبكل دوا مايصح
والدمع سال وجره من ناظري ما يصح
والنيب مثلي ابحنينه لو صحت ما يصح
من حيث مضروب مابين الجوانح تبن
بمعالج الروح سري لم اموتن تبن
لا تنهضم عل سبع لو صار علفة تبن
واليوم حتى التبن علف السبع مايصح
وما كانت ايقاعات الزهيري لترتفع مسلة في ذاكرة الناس لو لم يؤسس لها الحاج زاير تقاليد ثابتة لحمتها الإبتكار وسداها البهجة في اطار من اللوعة العميقة.. تلك التي ينزفها وعي الإغتراب الذي اتم مشواره رواد الشعر العراقي الحديث مظفر النواب وشاكر السماوي وعزيز السماوي وطارق ياسين وعريان السيد خلف واسماعيل كاظم الكاطع وزهير الدجيلي وهاشم العقابي واسماعيل محمد اسماعيل وفالح حسون الدراجي!! معطف الحاج زاير مثل معطف كوكَول!! فقد طلع من معطف الحاج زاير اساطين الشعر الشعبي قارن الحاج زاير.

ان البحث عن شعرية الحاج زاير يحيلنا الى شعره كافة فهو كما قال جاك بيرك شكسبير الشعر الشعبي العراقي فأنت مثلا قبالة الصور الفنية المتدفقة الحارة والموسيقا التي تساعد المعنى على السطوع وتجمله فضلا عن ولعه باستعمال الحواس الى اقصى شحناتها!! وسنرى انه يستعمل حاسة مكان اخرى وهو ما يدعوه النقاد تراسل الحواس! وسنرى انه يؤنسن النبات والحيوان والجماد بل ويؤنسن المجردات التي لا تتبع الحواس في سلوك يسمى الأنسنة أو التجسيد كما انه استعمل القناع واستثمر طاقات التناص بشكل مبهر حقا!!

دلالة الإغتراب
يفاجأ الباحث في الأغتراب بحشد من المفهومات تأتلف تارة وتختلف أخرى وتتجاوز ثالثة وتنفتح على النظر التأسيسي رابعة!! نحن نحاول ايجاز دلالات الإغتراب في اطار الخلق الابداعي!! :
الإغتراب هو عشق التجديد / تغريب المتلقي وابقاؤه منفصلا حيث لا يحدث الإندماج الإنفعالي بالنص / الإغتراب عن الذات لحظة تشكيلها صورة للعالم / نقد الآخر الذي يعيش خارج الجلد / يجعل شيئا ما ملكا للآخر / إنعكاس لزيادة الوعي على السلوك والهيئة / شعور بخلل ما / نقص في المغترب يقابله اكتفاء او زيادة في الآخر / الإغتراب اسئلة غامضة بلا اجوبة / الإغتراب طغيان الحرية على منظومة استيعاب المبدع / فقدان الحرية نتيجة القناعات الفيزيقية او الميتا فيزيقية الجمالية والميتا جمالية / خوف من الموت او رغبة فيه / نهم للحياة اوزهد فيها!!. يقول هيراقليدس : الإغتراب يعني البحث عن النفس!! يقول ريلكة : إننا لا نحس بالألفة بشكل وثيق في هذا العالم المضطرب والمبدعون الكبار هم على وجه التحديد رجال لا يمثلون غيرهم!! وقد امر غوته فيرتر بالإنتحار وهو بطل اول قصة كتبها!! اما صيحة فاوست لغوته فقد وردت في رواية ستيبان وولف لهيرمن هسه (ثمة روحان يقطنان ويا للحسرة جسدي ويناضل كل روح منهما للتخلص من توأمه)!! دانتي في الكوميديا الأ لهية عبر عن اغترابه ومرارته فأدخل اولئك الذين يحتقرهم في الجحيم رغم انهم يحتلون الصدارة في مجتمعهم!! اجاثا كريستي في جزيرة الموت سلطت القاضي لكي يقتل كل مجرم افلت من العقاب مستغلا ثغرة في القانون!! القاضي قتلهم كلهم ليتخلص من احساسه الفادح بالإغتراب وانه يعيش بين مجرمين لم يقدر القانون على إدانتهم / الإغتراب موت الصبر وانبعاث الحلم المستحيل / الحنين الى الماضي / النص المغترب عمل شاذ كتبه شاذ لمجتمع شاذ / الغربة عن الطبيعة والمجتمع والأصحاب والذات / جزء من تصاعد المبدع في معراج النمو / الإغتراب كامن في كل الأزمنة والأمكنة والحضارات ولكن تعبيراته المختلفة / للإستعمار اثر كبير في خلق الإغتراب عند المبدع / المبدع يشعر انه غريب عن ارضه وحضارته ولغته وذاته ويجد نفسه سلسلة من الإستلابات تبدا باستلاب الحرية / هو تمرد على المكان والزمان والأهل!! عنترة مرضت نفسه لشدة إحساسه بالأغتراب ولم يشفِ نفسه الا اعتراف الفوارس به.

اما الحاج زاير فكان يشكو بتعبير هذا الزمان من كآبة حادة عبر عنها بضيق الصدر اي عجزه عن الإحتمال بسبب من احساسه الجاحم بأنه غريب لا يجد في الناس المواسي والناصر او المشفق!!

يا بلحسن ضاكَـ صدري والحشه حامي

من جور دهري عليَّ ابسطرته حامي

مامن مجيرن سواكم للدخل حامي

هل يوم كَـلَّتْ يحيدر حرفتي والحيل

والسمع مني ذهب بعد الظهر والحيل

عني توانو جفوني خلِّتي والحيل

وامسيت جتَّان ياحامي الحمة حامي.

ربما لم يجد في مدينته الفاضلة النجف الأشرف ذلك المثال الذي رسمه في مخياله ايام صباه وفتوته!! فمجتمع المدينة يهزأ من القروي مهما كان من شأنه!! والمنافسة بين الشعراء على النجومية تنحدر الى الحضيض فهل اكثر من ان يتهمه خصومه ومن خصومه سوى الشعراء! يتهمونه بالإنحراف الجنسي مع صديقه هادي!! بل ويتهمونه بقتله ويحرضون اهل هادي لكي يقتلوا الحاج زاير بدم هادي!! ولكن الله اظهر براءة زاير قبل ان يهدر دمه!! وهناك عشرات المآسي التي تعرض لها الحاج زاير من الغوغاء الذين حاربوه في رزقه وجمهوره وعرضه! انتصر الحاج زاير على خصومه اخيرا بعد ان تساقط شعره واعشوشت عيناه واحدودب ظهره ومات قبل الستين معدما!! وقد اضطر الى الغناء في مجالس الأعراس والنواح في مجالس العزاء وهو الذي عرف عنه إجادته في الضرب على آلة الرق خلال غنائه مما يبعث الطرب وشدة الأنفعال وسط سامعيه!! بل غنى اشعاره بمقام خاص به ابتكره لنفسه عرف فيما بعد بمقام الزايري الناس الطيبون يعشقون الحاج زاير ولكنهم لا يمنحونه سوى الدعم المعنوي ما المادي فكأنهم صم بكم عمي!! وخصومه يسرقون القوت من فمه والفرح من قلبه! اية معادلة هذه؟؟ وبعد ان ساء حاله رغم ملايين العشاق لشعره التفت اليه صديقه الحاج مجهول شنتة زعيم آل فتلة وطلب اليه ان يكون مهوال آل فتلة اي شاعرهم الخاص بهم الذي لا يمتدح سواهم!! شرط قاس ولكنه يضمن للحاج زاير حياة مناسبة تغنيه عن سؤال الغوغاء!! ورضي زاير بطلب الحاج مجهول فحصل على قطعة ارض زراعية خصبة هدية من آل فتلة لشاعرهم الذي ستحرم من موهبته القبائل الأخرى!! وكان كثير التردد على قرية السادة البو اذبحك والمبيت في بيت زعيمها وقتذاك السيد علي القصير بن السيد محمد بن السيد عبودي المرعبي الحسيني (والد جد عبدالإله الصائغ) ثم مال قلبه الى ارملة حسناء فتية كانت تحب شعره وتحنو عليه بل وتحبه!! فهي تعاني وابنتها الصبية من عزلة قاتلة واغتراب مدمر فالأرملة تقر في بيتها الى ان تموت وإلا سلقتها النساء بألسنة حداد واتهمنها مع الرجال!! فبادلها الحاج زاير الحب بحب جارف اغلق عليه الفضاء فبات لا يطيق فراقها!! فتزوجها بمساعدة وهبة من السيد المرعبي وعطف على ابنة زوجته من زوجها الأول كما لو انه ابوها الحقيقي وليس زوج امها!وما ذا نتوقع من طيبة وحنو وإنسانية الحاج زاير؟! وقد انجبت له الأرملة إبنته الوحيدة التي تعلق بها بيد انه لم يقلل من حنوه على ابنة زوجته!! فهما بنتاه معا وقررا السكن في قرية ابو ذهب التابعة للمشخاب! وليس بيدنا معلومات كافية مع الأسف عن زوجة زاير وابنته الوحيدة وابنته بالتبني!! بل نحن لا نملك معلومات كافية عن ام الحاج زاير واشقائه! مع انني زرت الأماكن في النجف والكوفة وقرية السادة والمشخاب املا في العثور على وثائق عن الحاج زاير كما شافهت كبار السن الذين قاربوا عصره وزعم احدهم انه رأه وهو يقوم بدور الرادود في عاشوراء! لكن شيخوخته الطاعنة وذاكرته الممسوحة وهذيانه احيانا فوت علي فرصة الأفادة منه بله تصديقه!! كما شافهت قريبه العالم الكبير البروفسور سامي سعيد الأحمد اول من ترجم ملحمة جلجامش عن السومرية وهو في الثمانينات من عمره وقت المشافهة!! وشافهت الشاعرين الكبيرين شاكر السماوي والمغفور له عزيز السماوي وشافهت الزملاء رشاد علي عودة وجواد الشمس والشيخ صادق الخاقاني والشيخ احمد الشيخ محمد السماوي وهم معنيون بالحاج زاير ولكن معلوماتهم عن اسرته ليست ذات بال ومما اغلق الأمر هو ان الحاج زاير لم يذكر احدا من عائلته في شعره!! نعم هناك خبر متواتر مؤداه ان والد الحاج زاير تمنى على ولده ان يكون عالما دينيا او خطيبا حسينيا فأدخله مدرسة القوام في محلة المشراق بالنجف ليتعلم مقدمات القراءة والكتابة وشيئا من الأجرومية والفيتي ابن معط وابن مالك والمنطق ومقتل الحسين واهل بيته (مقتل ابي مخنف)!! والدراسة وقتذاك تتطلب تفرغا تاما فإذا مات ابوه ترك زاير المدرسة والدراسة معا واشتغل عتالا وحفارا ينقب عن الآبار وهو عمل شاق ومخاطر الموت بالأختناق فيه معروفة!!
!! واخيرا وبعد عياط وشياط وشفاعة من قريش اكتشف في نفسه موهبة الشعر وعرف اثر كلماته في نفوس النجفيين خاصة والفراتيين عامة!! والحاج زاير سليل اسرة حرز الدين ووارث امجاد جيل الرواد الذين ظهروا اواخر العهد العثماني امثال الشاعرة الكبيرة فدعة الزيرجاوية والشاعرين محمد نصار وعباس الجاحي وبينه وبين جيل الوسط مثله الشعراء : هتلوش وكَنين الخزاعي وولده حميد!
يبدو ان منطقة الفرات الأوسط مما يبعث على قول الشعر ونماء الخيال فظهرت الوان من الشعر! أهل المدن اختصوا بالشعر الشعبي والعامي واختص اهل القرى والأرياف بالشعر العامي واختص الساكنون في منطقة الحسكة (الحيرة – الديوانية – السماوة) بشعر الحسكة وتلفظ كاف الحسكة جيما بهيئة CH وبرع الحاج زاير بكتابة الأنماط الثلاثة!! بل انه كتب شعرا نبطيا اقتبس صوره ومفرداته ونبره واوزانه من اعراب باديتي النجف والسماوة المتاخمتين لبادية الحجاز حاضنة الشعر النبطي!! وهناك ملاحظ أُخر قوامها ان دارس شعر الحاج زاير لا يكاد يجد اثرا في شعره للأحداث السياسية والإجتماعية الدامية التي حدثت في عصره وهو ابن النجف بالتبني الذي احب النجف هذه المدينة التي قادت بكفاءة عالية النضال ضد المستعمر والنضال ضد التخلف والجهل! هذه المدينة التي شكلت اول جمهورية في العصر الحديث!! ونرجح استنادا الى معايشتنا لمفردات هموم الحاج زاير من خلال البحث والمشافهة والتنقيب الميداني!! نرجح ان يدا حاسدة ظلامية امتدت الى جل شعره واتلفته والى الأبد بسبب ان شهرة الحاج زاير ونجوميته لم تموتا معه ولم تدفنا في قبره!! بل ظل وهو ميت يقود حداثة الشعر الشعبي وموواويل الإغتراب التي راج سوقها بعد النكسات التي منيت بها الحركة الوطنية بعامة والنجف بخاصة! بل ان طبيعة التراجيديا الكربلائية متوحدة مع ايقاعات الإغتراب وذلك ما سنراه لا حقا! لله در الحسد بين المبدعين!! قتل المبدعون الصغار موهبة الحاج زاير بمحاصرته وبث روح اليأس في قراراته!! وحين مات لبثت تركته من الشعر المدون والذي ملأ الدفاتر الكبار لبثت في بيته وبمتناول كل يد عابثة!! فالشعر الذي وصلنا من الحاج زاير لا يزيد بأي حال من الأحوال عن ربع شعره!! فأين بقية شعره!!؟


ملتقطات من بحث طويل بعنوان (الحاج زاير عسكورة وشعرية الاغتراب)

عن مدونة الدكتور عبد الامير الصائغ الالكترونية