الحاج زاير الدويج أيقونة الشعب العراقي الشعرية الحية

الحاج زاير الدويج أيقونة الشعب العراقي الشعرية الحية

إبراهيم الجبين
قصائد الحاج زاير الدويج أداها كبار أهل الطرب في العراق وقرأها قراء المقام وكان على رأسهم القبنجي ويوسف عمر وآخرون.

يكفي أن تذكر اسمه أمام متذوقي الشعر، حتى تتداعى سلسلة طويلة من القصائد الرقراقة متنوعة الأوزان والاهتمامات، يظنها الناس من سحيق التراث الشعري الشعبي العراقي، ولكن صاحبها لم يكن سوى الحاج زاير.

وكان لتلك الهالة الوهاجة من الضوء الممتدة من البصرة جنوباً إلى ما كانت تسمى بـ”الحسجة”شمالاً على ضفاف نهر الخابور، عبوراً بحوض الفرات العظيم، دورٌ كبير في خلق وإنتاج شعراء مؤثرين، لم يكن عدد من كتب منهم بالفصحى إلا القليل، وغالبيتهم كتبت بالعاميات العربية المنتشرة والمختلفة في بيئات تلك المنطقة، مئات من السنين، عاش هذا الإقليم بمذاهبه وطوائفه، دون أن يختل توازنه، وكان مما يحفظ توازنه ذاك شاعرية الحب والحياة.

الحاج زاير الدويج، واحد من شعراء عاشوا في الفضاء ذاته، ورغم ظهور التيار القومي العربي في عشرات السنين التي شكلت شطراً كبيراً من القرن العشرين، إلا أن العراق كان من بين بلدان عربية قليلة قدّرت عالياً قيمة الشعر الشعبي، وسمحت بكتابته بحروف خاصة، بينما أهملت بلدان أخرى هذا الفن، وعدّته عدواناً على العربية، حتى عاش بين الناس وفي صدورهم مثله مثل كل المكبوتات التي سحقها وطمسها النظام الرسمي هنا أو هناك، ليترك مشاعر أخرى تحلّ محلها من بدائيات الانتماءات الطائفية والعرقية المتعصبة.

عالم القرن التاسع عشر
زاير بن علي بن جبر الدويج المسلماوي، زاير البرسي أو زاير الديك، ولد في برس في الفرات الأوسط المحاذية لبابل والقريبة من الحلة، في العام 1860 وسط عشيرة الشريفات من طفيل القيسية، ودرس في النجف في مدرسة القوام، عرف اليتم لاحقاً فحرمه من متابعة دراسته، ليدخل سوق الحياة والعمل حفاراً لآبار المياه، ولكن هذا لم يجعله ينقطع عن كنف العلماء ومجالس الذكر والحسينيات، وهي من كانت تقوم برعاية المجتمع في ظل مرحلة من التخلف المؤسساتي ضربت المشرق العربي، بعد ازدهار وانحطاط.

القرن التاسع عشر، لم يكن كثير الاختلاف عن القرن العشرين وقرننا هذا، كان الوافدون من أصحاب المصالح الكبرى يقتربون، بعضهم يشتغل في المجتمع، وبعضهم يطالب بحماية الأقليات، بعضهم يرسل الجيوش، كما في أحداث طوشة النصارى في بلاد الشام، وبعضهم يحفر قنوات على الأنهار لنشر المذهب الذي يرغب بنشره، وكان الناس في مجالسهم يحفظون ذاكرتهم المعرفية وهوياتهم الثقافية، فكانت عصيّة على التغيير والاختطاف، فلم يكن لدى أيّ من مثقفي الشيعة موقف من أي شاعر عربي سني من أي زمن، كما لم يكن لدى السنة موقف من المتنبي الشيعي، كان الكل حمولة ثقافية للكل، وكان زاير أحد حافظي الشعر العربي الفصيح والشعبي، إضافة إلى قدرته على أداء ذلك الشعر غناءً، ويقال إنه ابتكر لحناً خاصاً به في أوساط النجف، عرف لاحقاً باسم”الزايري”.

وحتى هذا العهد تعرف مجالس الملوك والشيوخ والرؤساء، مناخ الشعر والقصائد عبر زوارها ومرتاديها، كما عرفته في الماضي، في زمن زاير، الذي أصبح معروفاً في تلك الأوساط، بفضل قصائده التي كانت قد بدأت تتميز وتظهر عليها بصمات خاصة لم يعرف لها مثيل من الموال والقصيدة المربعة والأبوذية والدارمي والقصيدة والطرفة والمساجلة والموازرة والزهيري وغيرها.

رحلة زاير إلى الخليج
طبق قانون الخدمة العسكرية الإلزامية في العراق، وتم سوق زاير مع السوقيات الجندية إلى حاميات العثمانيين في الخليج العربي، وفي طريقه تلك زار مكة وحجّ إليها، فحمل لقب الحاج، قبل أن يستقر في قطر، حيث كانت مهمته كجندي حراسة قلعة عالية، فكان كلما حانت مناوبته صعد إلى بروجها، ناظراً إلى الأفق الذي يفصله الخليج عن العراق، ليشتعل حنيناً لأرضه ومجالسه، ويتدفق شعراً حاراً حياً، من شعره ذاك على ضفاف الخليج”هب ريح الصبه واتكدر/جبريل كبر ويشوف/ ملاك السمه اصفوف اصفوف/أحاه ماني سليت/عندي عكل ما خليت/تدري يهادي ظليت/ مطروح الك واتفكر”، وبه وحده تمكن من إقناع الضباط بنقله من الخليج إلى العراق، بعد أن تزوّد بلهجات وبيئات وثقافات على ضفاف تلك البحيرة العربية المتنوعة التي عاش فيها زمناً، ليعود إلى بغداد مواصلاً خدمته العسكرية في بلاده. وفي العام 1914 تم سوقه من جديد، ولكنه هرب وتوارى عن الأنظار مختبئاً في الكوفة، بعد أن هاجم البريطانيون البصرة، ثم التجأ إلى بغداد ثانية ليبدأ نضاله ضد الغزاة من جامع الحيدرخانة، وليواصل رحلته الشعرية، حتى أصبح ظاهرة في العراق كله، دفعت المؤرخين إلى اعتباره واحداً ممن حملوا ثقافة ووعي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من الريف إلى المدينة، فقال عنه المستشرق الفرنسي جاك بيرك في كتابه (العرب تاريخ ومستقبل)”الحاج زاير هو أكبر شاعر شعبي في العراق، بل يعد شكسبير الشعر الشعبي العراقي، وقصائده تدوي على كل الشفاه”.

الحاج زاير الدويج يعدّ واحدا من أعظم شعراء الفضاء العربي في العراق الذي كان من بين بلدان عربية قليلة قدرت عاليا قيمة الشعر الشعبي، وسمحت بكتابته بحروف خاصة

دار الملوك
رحل الحاج زاير في العام 1919، في ذروة احتدام الأحداث والمتغيرات في العراق والمشرق، باقياً في قلوب الناس، مثله مثل كل أيقونات العراق، كالنهرين والمدن العريقة والنخل والأبلام. وقد تمت دراسته بعناية من قبل المثقفين والباحثين، فظهر له ديوان شهير عرف باسم”ديوان الحاج زاير”حققه ونشره الشيخ محمد باقر الأيرواني.

رأى الحاج زاير في العراق، إنسانه وترابه وثقافته، ما لا يراه كثيرون اليوم، فدار السلام التي سمّاها دار الملوك، كانت قد شحبت في زمنه، ولم يكن يُسرجها سوى تلك الأًصوات التي حفظت الهوية ورسختها، يقول الحاج زاير”دار الملوك أظلمت عكب الضيا بسروج/وتميت اكت الدمع اعله الوجن بسروج/وأخيل لمن تردت واضلت بسروج/والكدش أصبح لها عزم شديـد وباس/والزين دنك على جف الزنيـم أوباس/والشهم لو عاشر الأنـذال ما هوباس/ من جلة الخيل شدوا عل جلاب سروج”.
يصف زاير عالمه، وصفاً ينظر في التفاصيل، فيرى الإنسان إلى جوار المتغير من البيئات والأحداث، ويرى القيم إلى جانب العواطف، تنظم هذا موسيقى خاصة على الإيقاعات الشعبية التي تألفها الأذن في الشارع، بنبرة متعالية على الانحطاط الذي كان قد بدأ يسري في جسد الأمة.

وصف من درسوا ظاهرة الحاج زاير الشعرية، وعلى رأسهم الباحث عبدالإله الصائغ شعر زاير بأنه امتداد حتمي للشعراء القدامى من مالك بن الريب إلى أبي فراس الحمداني، فها هو زاير يقول ما عدّه الصائغ تناصاً مع قصيدة شهيرة لأبي فراس قال فيها”أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا/ تعالي أقاسمك الهموم تعالي”، ويقول زاير”نحل جسمي وتظل روحي تعالي/هبطنه والنذل بينه تعالي/ يا جاره الدهر ما انصف تعالي/نخلط همومنا ونجسم سوية”، أما تناصه مع مالك بن الريب فلا يخفي نفسه حين يقول مالك”خذاني فجراني ببردي إليكما/فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا/وخطا بأطراف الأسنة مضجعي/ وردا على عينيّ فضل ردائيا”، إذ يقول الحاج زاير”وحك التين والزيتون والمن/اجروحي الطابن امن اسنين ولمن/السدر والجفن والكافور والمن/كَبل طرت الفجر يسرون بيه”.

الصيحات القديمة
عرفت عوالم الشعب، وكذا طبقات المثقفين أصوات زاير في كل مراحلها، فكان حاضراً في كل تجديد، واستند إليه كل شاعر كتب بالعامية بعده، وعلى رأسهم الشاعر الكبير مظفر النواب، الذي لم يتوقف يوماً عن ذكر الحاج زاير لا سيما تلك الصيحات التي كانت تصل من زاير مثل قوله”يا صاح عودي ذبل وبكل دوا ما يصح/ والدمع سال وجره من ناظري ما يصح/والنيب مثلي ابحنينه لو صحت ما يصح/من حيث مضروب ما بين الجوانح تبن/بمعالج الروح سري لم اموتن تبن/لا تنهضم للسبع لو صار علفه تبن/واليوم حتى التبن علف السبع ما يصح”.

الحاج زاير رحل عن العالم في العام 1919، في ذروة احتدام الأحداث والمتغيرات في العراق والمشرق، لا يزال باقيا في قلوب الناس، مثله مثل كل علامات فارقة خالدة كالنهرين والمدن العريقة والنخل والأبلام. وقد تمت دراسته بعناية من قبل المثقفين والباحثين، فظهر له ديوان شهير عرف باسم”ديوان الحاج زاير”حققه ونشره الشيخ محمد باقر الأيرواني
وأولئك الذين عبروا الممر العراقي من الدولة القديمة، إلى الجمهورية، والكفاح المسلح، والأيديولوجيات، ثم البعث والصراع والحروب والمنافي والاغتراب، حملوا معهم زاير، حيثما ذهبوا، وصارت رباعياته وخماسياته تنهيدات طويلة تخرج عفوية، في لحظات الحنين الطويلة، وطالما ردد المتناثرون في العالم كلام زاير”آنه الذي اليوم عودي من الحجي منجلي/يا مالك الروح أبكَه الياوكت منجلي/وما بين الأنذال أصبح ما هو كوتي ايصير/ واللي عكَبناه عنه يمتنع ويصير/آنه الذي دوم اسمي بالحصاد ايصير/ ومن جور الأيام أصبح منجسر منجلي”.
وكذا رائعته من الزهيري، وهو نمط شعري خاص، يتكون من سبعة أشطر، أول ثلاثة أبيات تنتهي بنفس القافية، وآخر ثلاثة أبيات تنتهي بنفس القافية، والأخير يرجع على وزن القافية الأولى، يقول زاير”تميت أحوم أعلى شوفك بس اروحن ورد/أبغي وصالك وروم من المراشف ورد/يا صاح ذجرك علي أبكل فريضه ورد/من حيث بسمك تتم أورودنــا والدعا/رضوان حسن الحواري أبوجنتك ودعا/الورد قدم لوايح وأشتكا ودعـا/ ويكَول أنت الورد جا ليش تشتم ورد”.

كان زاير، واعياً أو غير واع لذلك الدور، بحكم شعبويته، لكنه فعل هذا يوماً، فكان يخلط الحب الإلهي الصوفي والعشق البشري والحكمة في قالب واحد، وفي قطعة واحدة، فتخرج مثل هذه القصيدة”من يوم فركاك جسمي من صدودك عود/هيهات عكبك يسليني نديم وعود/كلما اعدل النفس روحي تكلي عود/لي صاحبن كط محد كال اله لوله/ وحياة من بالمهد جبريل اله لوله/ لو ما يكولون واعرف بالحجي لوله/ جنت احجي وياك لا جن بالزبيبة عود”، فعل هذا، وما يزال يفعله من خلال قصائده الحية في المجالس الحسينية والمسيرات، لا سيما قصيدته الشهيرة التي تتردد اليوم”جينا ننشد كربلا مضيعينها”، وقصيدته التي يقول فيها”يا بلحسن ضاك صدري والحشه حامي.. من جور دهري عليَّ ابسطرته حامي/ مامن مجيرن سواكم للدخل حامي/هل يوم كلت يحيدر حرفتي والحيل/والسمع مني ذهب بعد الظهر والحيل/عني توانو جفوني خلِّتي والحيل/وامسيت جتَّان ياحامي الحمة حامي”.

الصورة الجمالية التي يقدمها الحاج زاير فائقة الدقة، مليئة بالتفاصيل، أشبه بلوحة مسرحية أو سينمائية، كما في قوله”جم دوب أهج هاج ما جن الذرى ولفاي/امهجول ولا عاود الديرة هلي ولفاي/ما اطلب اديارهم طاري الفلا ولفاي/ هايم بالوهاد من يوم النوى بالراح/ مذهول مذعور حاير بس ادكَـ بالراح/ جنه وجانوا وجان إلنه الهنا والراح/لا جنه جنه ولا جنهم كَبل ولفاي”.

لا تنتهي قصائده عميقة المعاني رشيقة البناء والرصف والتراكيب، لا سيما تلك التي حاكى فيها الحاج زاير العتابا والمواويل القديمة للشيخ عبدالله الفاضل وأساطير البدو والأعراب”من يـوم فـركَـاك مـا لـذّن جفـوني بســنـــه/ياللـّي جبيــنك يشــع أعلـه البــدور بسـنه/صمصام لحظك طعن منـّي الضـمـير بسـنــه/ وخمـار شـوكَـك علي سيف المـودة شـهـر/لمـّـن شهـرني بحــالات الـتجــافي شـهــــر/إنتَ عليـك السـنه تمضي بحـسـبة شهــــر/وآنا علي الشهـر كل يـوم منـّـه بســـنه”.

وكذلك قصيدته التي أُدّيت كما أُدّي غيرها من مواويل ومقطوعات بحناجر كبار أهل الطرب من القبنجي إلى يوسف عمر وحتى سعدون”ما يوم جوي من غيوم الأسى منجلي/دوّرت منجى لغيري وماشفت منجى لي/لاني لهلي ولاحبيبي ولانه المنجلي/ولاني عرفت ياخلك مسكن لهم باي دار/ومن كل الاركان هم تكاثر وبي دار/أني زرعت وحصدت وغيري الحصد بيدر/اسمي بحصادي ولاجن منكسر منجلي”.