الحاج زاير الدويج شاعر عراقي بنكهة نجفية

الحاج زاير الدويج شاعر عراقي بنكهة نجفية

وسام البصري
ولد الحاج زاير بن عسكورة بن علي بن جبر المسلماوي سنة 1860م في قصبة برس – بورسيبا - المحاذية لبابل
والمقاربة للنجف وهي منطقة عميقة القدم، حيث جاء به ابوه الى النجف الاشرف ليدرس في مدارسها الدينية (مدرسة القوام في محلة المشراق).

عندما اصطحب عسكورة صغيره (زاير) الى النجف وفتح عينه في جنتها، كانت ذروة المسافة التي بلغها بعد جفنيه في تلك اللحظة، ليرى مدينة لا تكل من الاحتفالات ولا تمل فتبتكر افراحها واتراحها، وحتى المآتم الحسينية كانت تعد شيئاً من المباهج للصبي، فيرقب المعالم الشاهقة والشناشيل والازقة الضيقة، والثريات المتدلية من الصحن والمساجد والاسواق.

مما جعله يتعلق بها وهو في حالة المقارنة بين (برس) و(النجف)، حيث كان يعاني من جشع الريفيين الساكنين في برس وتخلفهم من خلال نبش القبور والقصور للعثور على النقود والحلي، دون الاهتمام الى ارثها التاريخي واقامة مردوك الذي انتصر على تياما في ملحمة التكوين، كما ان الناس فيها يتحدثون عن النمرود الذي تمرد ورمى السماء بالمنجنيق من زقورته فصعق وغارت قصوره تحت الارض.
ولكن موت والده جعله يترك الدراسة ويلتجئ الى العمل ليعين عائلته، فابرز مهنة كانت استخراج الماء من الابار، ومن القابه (زاير البرسي) و(زاير الدويج)، وبعدها التزم بالحضور الى مجالس العلم والمجالس الدينية، فكان لها الفضل الكبير في صقل موهبته الشعرية فضلا عن تزويده بالثقافة الدينية، فكان يرتجل الشعر ارتجالا، وذلك ما اثار الشكوك في نفوس الاخرين، فقاموا بأختبار تلك الموهبة عدة مرات من خلال الطلب منه بكتابة موضوع معين او قافية معينة، ولكنه دائما ما كان يثبت لهم ان الشعر اسهل لديه من الكلام العادي.
ونظرا للبداهة والارتجال ودقة التصوير، كان للحاج زاير الكثير من المباريات الادبية والتي يكسبها دون منازع، ما جعل شيوخ العشائر يفخرون بان نديمهم الحاج زاير، كما اصبح بعد ذلك مهوالا لعشيرة ال فتلة في تجمعاتهم وعراضاتهم، فاهدي قطعة ارض خصبة استطاع الدويج ان يقتات منها، كما تزوج ارملة احد السادة ولها بنت وحيدة، فرزق منها ببنت لتكون لديه بنتان احداهما من صلبه والاخرى بالتبني.
اما في عام 1869 وعند صدور قانون التجنيد الالزامي،اكره الشاعر على سوقه للخدمة العسكرية وسير الى الخليج العربي وبالتحديد الى قطر حاليا وخدم في قلعتها، فكان كلما يصعد سور القلعة المكلف بحراستها يتوجه الى العراق فيبث شجونه اليه، ليبكي بذلك جميع رفاقه، حتى قيل انه اصيب بمرض الحنين، وفي اثناء مروره بالحجاز ادى مراسم الحج ليلحق به لقب الحاج منذ ذلك الوقت.
ولشدة حنينه الى وطنه توسط له بعض الضباط العرب لنقله الى العراق فكان لهم ما طلبوا، فرجع الى بغداد لأكمال خدمته العسكرية، وفي عام 1914 وبعد الاحتلال الانكليزي سيق للخدمة العسكرية ثانية بوصفه جندي احتياط، ولكنه لم يقبل بالتنكيل العثماني بأهالي النجف والحلة لذا فر من الخدمة العسكرية.
وبعد اعلان الحوزة في النجف الاشرف حالة الجهاد لطرد المحتلين، قام ليلتحق بمحمد سعيد الحبوبي الذي قاد المجاهدين الى الشعيبة مرورا بالسماوة والناصرية، فاختفى مع بعض رفاقه عندما انهزمت تلك الحملة ليصاب بضعف بصره،
نظم الدويج بكل اشكال الشعر الشعبي العراقي منها الابوذية والدارمي والقصيدة والطرفة والابوذية بالقريض والزهيري بالقريض واقتباس من القرآن الكريم والشعر العربي وتضمينه في شعره ولما يتميز به من سرعة بديهة وتجربة خصبة ونضوج المفردة اللغوية وابداعه في استخدام الجنسات وثقافته التي لاتعكس حاله الامي وشعره المتشح بالطرافة ورسم الصورة المليئة بالاعجاب وتوضيفه المثل بالصورة الذكية جدا،
وكذلك اجادته للشعر الحضري والريفي، ما جعله يحصد شهرة واسعة مقارنة بغيره من الشعراء الشعبيين وحظى بعناية النقاد والباحثين كدراسة الدكتور الصائغ عن التناص والاغتراب في شعره، ومنحوه لقب متنبي الشعر الشعبي، ومن الجدير بالذكر ان العلامة حسين محفوظ قال بحق الدويج:
(لو استمع ابو الطيب المتنبي لروائع وإبداعات الحاج زاير، لأنتفض قائما من قبره ينفض التراب عن جسمه، ليؤدي تحية الإعجاب والتقدير لهذا الشاعر الشعبي الأمي الملهم)

كما قال المستشرق الفرنسي جاك بيرك بحق الحاج زاير في كتابه (العرب تاريخ ومستقبل) :
(إن الحاج زاير هو اكبر شاعر شعبي في العراق، وشكسبير الشعر الشعبي العراقي، وقصائده تدوي على كل الشفاه منذ جيل في بيئة تلهبها محبة أهل البيت، حدث بعد وفاته أن ظهر في الحلم وحين سألوه كان مختبئا وراء صمته لكي يحافظ على السر،
وكان التوافق بين إيمانه الجماعي ومغامرات حياته الخاصة مع دوي اشعاره يعكس اندماج المكان والزمان، وكان إلهام الشاعر الحاج زاير يهبط عليه في اي مكان حتى لو كان بين اخوانه وبالطبع كان يرتجل المقاطع الصوفية في حب اهل البيت بالدفق الذي يوجه فيه النداءات الأنيقة الى فتاة عابرة).
أما كبير مؤرخي العراق السيد عبد الرزاق الحسني فيقول:
(الحاج زاير أسرع شعراء عصره بديهة، وينشد القصيدة التي تبلغ المئة بيت ارتجالا وفي آن واحد فيخال السامع أنه كان يحفظها منذ مدة دون إعمال فكره، وله اليد الطولى في الموال والأبوذية والمربع والميمر).
ويرى الأستاذ شاكر السماوي أن الحاج زاير مثابة امام الشعر، والشعراء ليسوا سوى زوار في صحن زاير.
وقال السيد محمد جمال الهاشمي:
وزاير في الشعر أنشودة غنى بها البادي مع الحاضر
هلهل في قيثاره مطربا أيامه في لحنه الساحر
ورثاه صديقه وحافظ شعره السيد علي القصير المرعبي قائلا:
إذا امعنت في لوح المصاير وجدت الخلق للمجهول ساير
وآية قولنا علم فِطَحْلٌ بسبك الشعر يدعى حجي زاير
فقد وهب القصيد مذهَّباتٍ وأبكاراً خوالد في الضماير
فهو من ورث الرواد الذين ظهروا اواخر العهد العثماني امثال الشاعرة فدعة الزيرجاوية والشاعر محمد نصار والشاعر عباس الجاحي وارتباطهم بجيل الوسط امثال هتلوش وكَنين الخزاعي وولده حميد.
وكانت تربطه علاقة حميمة مع الشاعر الحسيني عبود غفلة والشاعر الكوميدي حسين قصام فكان هؤلاء الشعراء الثلاثة كثيرا ما يتناقشون ويتطاردون في الشعر او يرتجلون ليجدوا جمهوراً غفيرا قد اصبح حولهم.
فكرس الباقي من عمره في خدمة آل البيت عليهم السلام،فذكر مصائبهم وكراماتهم وتوسل بهم راجيا شفاعتهم، فراحت حنجرته تقذف بالدرر في هذا الخصوص.