مير بصري.. رؤية عراقي

مير بصري.. رؤية عراقي

فاروق صالح
انه مؤرخ الفكر العراقي في القرن العشرين؛ درج في كتاباته عن العراقيين على «الحقانية”و«الإنصاف”و«الرؤية الواضحة».
وهذه قيم فكرية، وشيم معرفية، وافكار علمية. اتقن مير بصري ادراجها في كتبه عن العراق والعراقيين.

يغلب على مؤلفاته التراجم والتأريخ للرجال سواء في مجال السياسة او الأدب او الاعراق كما فعل في كتابيه: «اعلام الكرد» و«اعلام التركمان»!! ولكنه ابدع وتألق في كتابيه: «اعلام السياسة في العراق الحديث”و«اعلام الأدب في العراق الحديث”كذلك.
اذ رسم عن السياسيين العراقيين، صورهم الفكرية - في الكتاب الاول - سياسياً ودبلماسياً وعسكرياً وحربياً منذ الملكية الى عام 1958م. وذلك بسقوط نوري السعيد الذي طالما قبض بيد من حديد على وكالة وزارة الدفاع حتى شكل الوزارة وتمسك بوزارة الدفاع الى مصرعه في جنوب بغداد مسحوقاً من قبل الجماهير سنة 1958م.
ان مير بصري يتخطى حاجز السياسة الى الأدب وهو يؤرخ للسياسيين، ويتخطى سور الأدب وهو يتحدث عن رجال الأدب الى السياسة والقانون والتربية والثقافة. وبذلك وفي ذلك يبدع بقلم الاديب وبقلم الدبلماسي او القانوني ان صح التعبير. وفي رأيي المتواضع لم يمر بالعراق الحديث مؤرخ جامع وشامل بالتأريخ والادب، شخص متميز مثل مير بصري - على الاختلاف في ما قد فيه اختلاف اذ انه من يهود العراق -.
وعمل المفكر الإنسان قد يكون للناقد رؤية فيه. فأنا لا اكتب عن هذا الكاتب جزافاً اذ ادعو القارئ الى النظر في ما كتب، ولا اريد من هذا القارئ الإمالة او التعصب: «وفوق كل ذي علم عليم». يقول احد الدارسين لعلم التاريخ: «التاريخ يعد اول مسجل بشري، او عمل بشري مسجل - بشكل او بآخر - يجمع التجربة البشرية بمختلف انواعها ومفاهيمها، وهو الاطار الذي ضم جميع الفكر البشري بنشاطاته الدينية والوجدانية، والاجتماعية والمادية.. الخ».

فالنص المنقول هذا يوضح سواسية الكتابة التسجيلية للتاريخ لكل مفكر بشرى أياً كان. طالما كتب مثل هذا المؤرخ، ولعل ابن العبري صاحب «مختصر الدول» قريناً للكاتب بصري في التناول التأريخي للناس من الاعلام، ومن البلدان والدول، حكماً واسلوباً يزيدك ان العراق في فترة زمنية كان ذا زخم حضاري وبالذات ايام الملكية سواء من النواحي السياسية او الفكرية او الاجتماعية او الزراعية والتجارية. هذه الاجواء اوجدت الفكر التأريخي ان يتحرك ليسجل الاحداث ويترجم للاعلام وهو ما فعله كوركيس عواد في «معجم المؤلفين العراقيين». وباقر امين الورد في «معجم العلماء العرب». وحميد المطبعي في «موسوعة اعلام العراق في القرن العشرين». وعبدالله الجبوري في «معجم اعلام العرب» بمن فيهم العراقيون وسواهم.
وهناك مؤرخون من العراق أرخوا للتاريخ القديم مثل جواد علي ومحمود شيت خطاب. هؤلاء اثروا الفكر التاريخي الحديث بما كتبوه من تسجيلات معرفية وثائقية على الخط التاريخي الصادق، والطريق الروائي للتاريخ امانةً وعلماً وثقة. ويأتي مير بصري في اطار العلماء بالتاريخ المعاصر للعراق، اذ انه خصص قلمه لهذا المجال من تاريخ العراق الحديث، ولا نكاد نراه في الكتابة ذا هوى سوى في العراق والعراقيين! وهو حدث في الشأن العراقي الادبي والكتابي: والتاريخي يشكل رؤية عراقية من خلال كتبه المذكورة هنا وكذا كتابيه: «اعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث”و«واعلام الوطنية العربية» وهما متممان لاعلام العراق كلهم في العصر الحديث علماء وادباء وساسة ومفكرين وغيرهم. وما يميز كتبه عن هؤلاء قوله:
«عرفت شخصياً بعض الشخصيات التي ترجمت لها.. والتي لعبت دوراً في السياسة والحكومة العراقية، فاقتبست منهم معلومات مفيدة.
منهم محمود صبحي الدفتري، وروفائيل بطي، ومحمد رضا الشبيبي ومحمود الملاح «الخ» اعلام السياسة في العراق الحديث ص 311.
ذلك ان المؤلف مير بصري - كما يقول الدكتور جليل العطية في تقديمه: «ينفرد عن كل كتاب التراجم العرب بنقاء العبارة ورشاقة الاسلوب، وتوخي الايجاز غير المخل. ولا ابالغ اذا قلت انه يمتلك كل المواصفات التي يحملها العلماء، وهي الحيدة والتواضع والموضوعية».
اعلام الوطنية العربية لمير بصري ص18، 19 ط .
وهذا حديث يتوخى النقد النزيه، والوصف الصادق، والتوجيه المنصف فقد مضى الأستاذ مير بصري وهو يؤلف عن اعلام العراق دون ان ينتظر من يدمحه او يعطيه كلاماً. اما والدكتور العطية قد قال ما قال فإن من حقه ذلك خاصة ومير بصري قد استحق ذلك عن كفاءة واستحقاق.
ومن المناسب ان ندع شيخ المؤرخين العراقيين في العصر الحديث الدكتور عبدالعزيز الدوري يؤطر لنا معرفة التاريخ بمناسبة الحديث عن تلميذه مير بصري: «يلقي علم التاريخ ونظرياته اهتماماً خاصاً من المؤرخين في السنوات الأخيرة، وذلك لاهميته الكبيرة في البحث التاريخي وفي اتجاهاته. ولم يعد النقاش يقتصر على كون التاريخ علماً أو ادباً، او بالاحرى حول نسبة التاريخ الى احد فرعي المعرفة الاساسيين، بل اتجه الرأي الى اهمية التاريخ كموضوع حيوي لذاته، له اسسه وطرائق بحثه واهدافه، وله خطورته الخاصة بين حقول المعرفة، حتى اطلق بعضهم على العصر الحديث «عصر التاريخ».

ولعل النص المورود يحقق لنا الفكر التاريخي الذي انتهج نهجه مير بصري في كل كتاباته وجعل منها تاريخاً للعراق المعاصر وبالذات في مجال الترجمية.. ترجمة الاعلام والشخصيات سواء السنة والشيعة والاكراد والتركمان. وان ذلك يجعل من تاريخ هؤلاء موضوعاً حيوياً له اسسه وطرائف بحثه كما يقول الدكتور الدوري.
فالقارئ المعاصر مل الاطلاع على الاحداث ويود في حينه معرفة صانعي التاريخي وكتبته ومؤرخيه وشخصياته، الشيء الذي ركز عليه مير بصري في كتبه. وان في التاريخ تاريخاً للرجل والنساء بمختلف الطبقات والشخصيات والمجموعات المتميزة التي صنعت تاريخ الامة بمدار من نور.
وهناك ظاهرة الحسن في كتابة مير بصري اسلوباً وترجمةً وادراكاً لما وراء الشخصية العراقية التي يعرف بها او يترجم عن حياتها علمياً وعملياً ادبياً وفكرياً ثقافةً وانجازاً، فيأتي الحديث التأريخي والترجمة الحياتية غاية في الدقة والموضوعية والوضوح، فلا تكلف في السرد ولا خلل في الوصف ولا خروج في العبارة عن المعنى المقصود او الغاية المستهدفة. هذا التحسين الكتابي والتجميل التأليفي للشخصيات التي كتب هذا المؤلف عنها، هما من مبادئ وقيم المؤرخ، وتدلان - اضافة الى ذلك - على صفاء ونقاء فكره ومن الدلائل على ذلك ما قاله عن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه:
«شاهد الملك عبدالعزيز تقدم بلاده من حالتها البدوية في شبابه الى دولة واسعة الارجاء، غنية الموارد، ذات مقام مرموق بين الدول العربية وفي المحافل الدولية» الى قوله:
«وقد طالت الحياة بأبيه الامام عبدالرحمن حتى رأى دولة ابنه في اتساعها وازدهارها؟ ثم يورد قولاً للمؤرخ خير الدين الزركلي:
«قال الزركلي ان عبدالعزيز كان يرجع اليه - اي والده عبدالرحمن - في كل ما يهم من اموره، ويقف بين يديه اذا جلس موقف الخادم الى ان توفى». مير بصري كتابه اعلام الوطنية والقومية ص 155، 156 ط دار الحكم لندن الطبعة الاولى 1999م. وهذه رؤية عراقية نحو ملك شهم كعبدالعزيز، يسلط بها مير بصري، الضوء لقرائه، بقول قصير العبارات، لكنها ذات دلالة بلاغية حاسمة، تمر عبرها الفصاحة البيانية والادبية ممراً جميلاً ومعبراً رائداً بحيث يصدق عليها المثل القائل: «خير الكلام ما قل ودل».
وفي كتاب الأستاذ مير بصري استرسال بياني حينما يقتضي الكلام ذلك وهو الذي بشير البلاغيون اليه بقولهم صيغة مقتضى الحال. واضيف الى ذلك قولهم لسان الحال لا لسان المقال؛ وذلك في مواقف كثيرة للاعلام الذين كتب عنهم في جميع كتبه بلا مبالغة وانا اقول ذلك. وقد قيل لمحمد بن الحنفية ما البلاغة؟ فأجاب: ان تقول ولا تبطء وتتكلم ولا تخطئ».
وهذه مقولات ومير بصري عليها بلاشك. واستطاع ان يقف موقف المؤرخين الاشاوس في ما كتب من تاريخ العراق الحديث والمعاصر. ولله في خلقه شؤون.

عن موقع الحوار المتمدن