كيف أكتشفت مدينة نمرود الأثرية؟

كيف أكتشفت مدينة نمرود الأثرية؟

سعيد الديوه جي
مؤرخ موصلي راحل
كانت عملية اكتشاف الاثار العراقية في الموصل وانحائها من الاحداث التاريخية التي هزت الاوساط التاريخية في انحاء العالم. لقد استطاع البريطاني لايارد وصديقه الموصلي هرمز رسام من تقديم خدمة جليلة للتاريخ الانساني باكتشافهما اهم اثار الحضارة الاشورية في نينوى.. الثيران المجنحة ومكتبة اشور بانيبال والابنية والرقم المختلفة.. هل يمكن اغفالها عند الحديث عن تاريخ البشرية.. انها حكاية الجهد والتفاني والاخلاص.

كان أوستن هنري لايارد الشاب الانجليزي الذي كان عام / 1845م / في سن الثامنة والعشرين يعمل في السفارة البريطانية في القسطنطينية، وكان يتردد على الشرق الأوسط منذ عام / 1840م / عندما افترق في فارس عن رفيق السفر الذي خطط معه أصلاً لرحلة إلى سيلان براً، ثم اشترك في سلسلة مغامرات عادية في عالم القرون الوسطى لرجال القبائل البختيارية على الحدود الفارسية العثمانية، وكان يتردد بين حين وآخر على بو شهر على الخليج العرب أو بغداد، وفي تلك السنوات اطلع لايارد إضافة إلى إتقان التحدث باللغات المحلية على الحياة السياسية في المنطقة، وكان ذلك كله مفيداً لسفير بريطانيا في لدى الباب العالي في القسطنطينية.
أرسل لايارد إلى القسطنطينية يحمل توصية من العقيد تيلر المقيم الممثل لشركة الهند الشرقية في بغداد، وبقي في خدمة السفير على نحو غير رسمي حتى عام / 1845م / عندما وصلت أنباء اكتشافات بوتا، ولا بد أن شعوره بالإحباط كان شديداً فقد تكون لديه طموح بالكشف عن التلال الآشورية العظيمة، وكتب إليه بوتا الذي سمح لصديقه لاياردبالإطلاع على رسائله ورسومه، وهي تمر عبر العاصمة العثمانية يحثه على القدوم إلى بلاد مابين النهرين”ولنلهو لهواً أثارياً في خورسباد”.
أخيراً وافق سيرستراتفورد كاننغ نفسه في خريف عام / 1845م / على دفع مبلغ لإجراء بحث أولي في تل نمرود وإرسال لايارد وكيلاً خاصاً له. لم يكن هذا بحاجة إلى تشجيع، وبعد أن أمضى / 12 يوماً / في رحلته من القسطنطينية إلى الموصل جهز في
/ 8 تشرين الثاني / طوافة في دجلة ليتوجه إلى نمرود متظاهراً بمرافقة مقيم بريطاني اسمه هنري روس في إحدى رحلات الصيد المعروفة، وقد كانت تلك إحدى الذرائع المختلفة التي فرضت على المنقبين كافة في بلاد الرافدين في القرن الماضي... لم يتوقف المسؤولون العثمانيون عن مراقبة عمليات لايارد وزملائه ومن خلفوه. كما زاد صعوبة الأمر التنافس بين الدول الأوروبية، وقد كتب لايارد نفسه”لم تكن الروح المتنورة والحرة التي أظهرها السيد بوتا هي الروح السائدة لسوء الحظ”، وسرعان ما أصبح واضحاً أن السرية التي أحاطت مهمة لايارد الآثارية الأولى كانت مبررة، وكشف اليوم الأول من التنقيب في قمة تل نمرود عن ألواح جدارية كبيرة تحمل كتابات مسمارية في جزأين مختلفين من التل.
وبعد مرور أسبوع واحد توجه لايارد إلى الموصل حيث وجد أن الباشا مطلع على أنشطته، ولكن رغم جهود السيدرويه الذي خلف بوتا لم يمنع لايارد من العمل، واستطاع إرسال رجال آخرين للاشتراك في التنقيب، وأخيراً حقق آماله في / 28 تشرين الثاني / حيث عثر في القصر الجنوبي الغربي على ألواح نحتت عليها مشاهد معارك، ونعرف اليوم أن تلك الألواح كانت قد نحتت في عهد آشور ناصر بال الثاني، ونقلت في وقت لاحق من القصر الشمالي الغربي ليعاد استعمالها في قصر جديد شيده أسرحدون، وهكذا عثر لايارد أخيراً على دليل بأن نمرود غنية بالآثار أسوة بما عثر عليه بوتا في خورسباد.
في الليلة نفسها وصلت أوامر من الباشا بإيقاف عمليات لايارد إلا أن هذا استطاع أن يبرر العملية الأولى التي عهد إليه بتنفيذها، وفي حين واصل بهدوء الكشف عن الألواح فقد صبر في انتظار أخبار اكتشافات جديدة ووصول فرمان من القسطنطينية، وقد وصل هذا الفرمان فعلاً في / أيار 1846م / غير أن المال كان مشكلة أخرى، ويبدو أن كاننغ لم يرغب بالتخلي عن سيطرته الشخصية على العملية بتدبير قيام الحكومة البريطانية بتقديم الأموال اللازمة، ولذا نجدلايارد يكتب إليه يلتمس منه إرسال المال الذي يحتاجه، ولم يحصل من الحكومة على أكثر من ألفي باوند، ورغم أن لايارد بذل قصارى جهده لتحقيق أقصى النتائج من أقل نفقات ممكنة إلا أنه أعرب عن اشمئزازه الشديد من المعاملة التي عومل بها بسبب قلة المبلغ، وأسلوب وثيقة وزارة الخارجية التي كلف بالمهمة بموجبها.
استمر التنقيب في نمرود بخاصة حيث كان القصران الأصليان يربطان بالقصر المركزي من عهد تجلات بلاصر،وآخرين في الربع الجنوبي الشرقي من التل. استمر العمل طوال عام / 1846م / وإلى صيف / 1847م / عندما أنفق لايارد بقية المبلغ على إجراء تحريات قصيرة في قلعة شرقاط (آشور) وقوينجق، وتضمنت شروط المنحة الحكومية البريطانية نقل المنحوتات إلى بريطانيا، وأرسلت في أثناء العمل ثلاث شحنات من أفضل المنحوتات من نمرود عبر نهر دجلة بالطوافة لشحنها إلى انكلترا من البصرة، وفي / أيار 1847م / صمم لايارد على بذل محاولة لشحن أحد الثيران المجنحة الضخمة، وكان بوتا قد أرسل بعض الثيران المجنحة إلى باريس، وإن كان قد نشرها لتسهيل نقلها، ورغم أن وزن تمثال ثور نمرود الذي اختاره لايارد زاد على / 10 أطنان / إلا أنه أفلح في سحب أحد الثيران المجنحة من قصر آشور ناصر بال إلى نهر دجلة، ووضعه مع تمثال أسد على طوافة صنعها لهذا الغرض صناع جيء بهم من بغداد، وعاد لايارد إلى لندن بعد ذلك بفترة قصيرة عن طريق إيطاليا وباريس، وقوبلت نتائج تنقيباته بإطراء شديد، وأكمل في فترة قصيرة كتابه”نينوى وآثارها”الذي حقق له انتصاراً شعبياً استحقه إذ أنه إضافة إلى إظهاره اتقاناً علمياً للخلفية التاريخية فقد وصف مشاكل التنقيب ورحلاته بأسلوب واضح ممتع يؤكد نوعية انجازه في تنفيذ رغبات الحكومة البريطانية في تلك الزاوية من الشرق الأدنى، وبعد صدور الكتاب، وعرض المنحوتات والآثار الأخرى في لندن أصبح واضحاً أن الرأي العام يطالب بإجراء تنقيبات أخرى. وهكذا وفي عام / 1849م / رغم أن قلق لايارد قد جعله يعود إلى القسطنطينية عضواً في لجنة الحدود التركية الفارسية فقد أعيد إلى بلاد آشور مع مبلغ / 3000 باوند / مكنه أخيراً بحماس مرة أخرى.
كان لايارد قد أفلح في تحديد مواقع ألواح منحوتة في تل قوينجق وهو تل القصر الرئيس في نينوى نفسه وعاد إلى المكان نفسه، وكذلك إلى مواقع التنقيب القديمة في نمرود، وشرع في الكشف عن الغرف الواحدة بعد الأخرى في القصر الجديد الذي شيده سنحاريب.
كانت الألواح المنحوتة تختلف عن تلك الألواح التي عثر عليها في نمرود وخورسباد إذ كانت تصور مشاهد الانتصارات الملكية بتفاصيل دقيقة، واجتذب اهتمامه لوح معين على نحو خاص إذ يظهر فيه الملك نفسه جالساً في منطقة جبلية على عرش منحوت والأسرى أمامه، وكان فوق رأس الملك نقوش كتابي استطاع لايارد أن يقرأ معظمه قراءة صحيحة:
“سنحاريب، ملك بلاد آشور، جلس على عرشه ومرت أمامه أسلاب مدينة لاكيسو”لذا هنا كانت الصورة الفعلية للاستيلاء على مدينة لتشيش، كما نعرف من الكتاب المقدس التي حاصرها سنحاريب عندما أرسل قادته العسكريين لمطالبة الملك حزقيا بدفع الجزية، والتي كان قد استولى عليها قبل عودتهم، وهي دليل بارز يؤكد تفسير الكتابات، ويحدد الملك الذي أمر بنقشها بأنه سنحاريب.
كان ثمة فرق آخر بين قوينجق وموقعي نمرود وخورسباد. فقد توقف الاستيطان في قوينجق بسقوط الإمبراطورية الآشورية، وكانت النقوش البارزة مدفونة تحت تراكم سميك لاحق، وكانت نتيجة ذلك أن”تراكم التراب على الخرائب أصبح هائلاً تجاوز غالباً ثلاثين قدماً بحيث أن العمال.. بدأوا بحفر أنفاق بجوار الأسوار، وأنزلوا أعمد إسناد أحياناً لتمكين الضوء والهواء من الدخول.. كانت الممرات تحت سطح الأرض ضيقة ودعمت عند الضرورة إما بترك أعمدة من التراب كما في المناجم، أو باستعمال دعامات خشبية، وقد كانت تحف بهذه الدهاليز الطويلة المعتمة بقايا من الفن القديم، ومنها جرار مكسورة تبرز من الجوانب المتهدمة..”لم يكن ذلك إجراءً آثارياً مقبولاً، ولكن يبدو أن لايارداضطر إليه بسبب قلة المال لديه، وكانت إحدى نتائج طريقة الحفر هذا ما رواه ساعد لايارد الأيمن هرمز رسام عام / 1854م /:”ذات ليلة بينما كنت نائماً في خيمتي على تل قوينجق هبت عاصفة برد ومطر، وشعرت فجأة بأنني أسقط في حفرة مع السرير والخيمة وكل ما كان لدي...ويبدو أن خيمتي كانت قد نصبت فوق أحد الأنفاق الواسعة التي حفرت في زمن تنقيبات السير هنري لايارد والتي لم تعد تشاهد.".

عن كتاب تاريخ الموصل 1962