عندما استقبل محمدعلي باشا الكبير الامير بشير الشنهابي امير لبنان

عندما استقبل محمدعلي باشا الكبير الامير بشير الشنهابي امير لبنان

بمناسبة زيارة البعثة اللبنانية لمصر اخيراً، وافانا صديقنا الاستاذ كريم ثابت بهذه المعلومات الطريفة، وقال انه استخرجها من مخطوطة الامير حيدر احمد الشنهابي المسماة "كتاب الغرر الحسان في اخبار انباء الزمان" كما طبعتها حكومة الجمهورية اللبنانية في سنة 1922.
* كان سفر الأمير بشير من لبنان الى مصر بحراً، ورافقه في رحلته نجلاه الامير خليل والامير أمين. وكان بمعيته أربعة وتسعون رجلا من رجال حاشيته، وقد مكثوا في البحر خمسة أيام.

* رست سفينتهم عند بوغازي دمياط، وعند نزولهم الى البر، ذهبوا الى مكان كان يدعى "الخان الجديد" فقضوا فيه ليلتهم، وفي صباح الغد استأنف الامير السفر الى دمياط.
* كان حسن أغا متسلم دمياط من أكبر اعوان محمد علي باشا الكبير، فأكرم الامير واحاطه بما يليق بمكانته، وانزله في دار رحبة، ثم انتظر ورود تعليمات من محمد علي باشا.
* كان محمد علي باشا في الاسكندرية يومئذ فجاء منه كتاب بعد سبعة أيام الى حسن أغا يدعو فيه الأمير بشير الى التوجه الى القاهرة، ويقول إنه أمر كنخداه باستقباله بالحفاوة الواجبة.
* وأمر محمد علي باشا في ختام الكتاب "بافهام الامير بشير بعد ما نهنيه بالسلامة إنه ما دخل الى الديار المصرية أحد اعز منه لدينا".
* واستغرق سفر الامير بشير ومن معه الى القاهرة خمسة أيام، وعلى أثر وصوله اليها زار كنخدا بك "فقام له على الاقدام وحياه بالسلام، وقدم له إكراما واعتباراً زايداً واجلسه بجانبه".
* وفي اليوم التالي ليوم وصوله الى القاهرة زار ابراهيم باشا في قصره "فالتقاه كذلك بكل إكرام واعتبار".
* وحيث ان إقامة محمد علي باشا في الاسكندرية كانت طويلة، أمر بدعوة الأمير الى الاقامة في بني سويف لاعتدال اقليمها وربما يعود الى القاهرة فيقابله.
* اقام الامير في دار اعدت خصيصاً له ولنجليه في "القشن" ولما قدم محمد علي باشا القاهرة أرسل في دعوته إليها، وأمر باعداد قصر له في جهة أثر النبي.
* وتمت اول مقابلة في قصر شبرا، وكان محمد علي باشا في الحديقة عند وصول الأمير ونجليه، فقابلهم بحفاوة وبشاشة عظيمتين بحضور المعلم حنا البحري اللبناني الأصل، وكان من رجال عزيز مصر المخلصين.
* وكان الكنخدا بك قد قال للامير انه إذا لم يدعه محمد علي باشا للجلوس فلا ينزعج ، فان العادة جرت بالا يأمر احداً بالجلوس، فلما دعاه محمد علي باشا للجلوس اعتذر، فكرر محمد علي باشا دعوته مثنى وثلاثاً واقسم بالله بانه لا بد له ان يجلس، فجلس وظل نجلاه واقفين.
* وبعد تقديم القهوة أوعز محمد علي باشا الى جميع الحاضرين بالانصراف، واختلى بالامير بشير فترة طويلة، ولما انتهى حديثهما – وكانت الشمس قد غربت – أمر باحضار الطعام ، واجلس لامير بالقرب منه و"تلطف معه في الكلام حتى ان جميع الحاضرين تعجبوا من ذلك اللطف".
* ومما قاله محمد علي باشا للامير بشير في تلك المقابلة: "انني بكل زماني ما طلبت من الحق سبحانه طلبا الا استجاب دعائي وقد طلبت ان اراك فلم يحرمني سبحانه وتعالى من ذلك، وقد رأيتك يا أمير بخير فاشكر افضال الباري على ذلك" فنهض الامير ودعا له.
* ولما آن اوان الانصراف، رغب اليه محمد علي باشا في ان يحضر اليه كل يوم، وكان الأمير بشير قد رجا من محمد علي باشا ان يتوسط لعبد الله باشا والي صيدا لدى الباب العالي ليصفح عنه فوعده ببذل وساطته.
* وبعد ايام ذهب محمد علي باشا من شبرا الى القلعة، وعقد ما كانوا يسمونه في ذلك العصر "ديوانا" بحضور جميع العلماء والقاضي والمفتي ونقيب الاشراف وبعض قواد الجيش، ثم أمر بدعوة الامير بشير، فلما دخل قابله بالتكريم ورحب به واجلسه بالقرب منه، وأمر له بالقهوة واخذ يحادثه بود عظيم، ثم قدمه الى الحاضرين منوهاً بمناقبه.
* ولما انصرف الجميع استبقى محمد علي باشا ضيفه الكبير نحو ساعتين، وعند انتهاء مقابلة اخرى نهض محمد علي باشا الى النافذة ليشاهد مراسم توديع ضيفه، فلاحظ ان الجياد التي قدمت له ليست مناسبة، فأمر بتغييرها وبتقديم أفخر منها.
* وبعد مدة جاء الرد من الاستانة بأن الباب العالي قبل وساطة محمد علي باشا وعفا عن عبد الله باشا والي صيدا، فلما افضى محمد علي باشا بذلك الى الامير بشير، قبل اعتابه ودعا له بدوام المجد والسؤدد.
* واستأذن الامير بشير في العودة الى لبنان، فقال له محمد علي باشا "اريد ان اتملى من رؤيتك قبل ذهابك من هذه الديار لانك صرت عندي بمعزة ولدي ابراهيم باشا، وهذا التعب والمراجعات الى الدولة هو لأجل خاطرك فقط لا لأجل عبد الله باشا".
* وبعد ايام سافر الأمير بشير ومن معه الى الاسكندرية، فابحروا منها الى عكا فيلقوها بعد ستة ايام، ومن هناك استأنفوا السفر الى لبنان.
***
ويعلم القراء ما حدث بعد ذلك، فقد تنكر عبد الله باشا والي صيدا لمحمد علي باشا وناصبه العداء، فلم ير عزيز مصر مندوحة عن مقابلة عداونه بالسيف، وكان حصار عكا الشهير، وهو الحصار الذي انتهى بكسر قوات عبد الله باشا، فاستسلم لابراهيم باشا، فارسله الى والده في مصر أسيراً.
أما الامير بشير فانضم الى محمد علي باشا من اللحظة الاولى مستنكراً مسلك عبد الله باشا، فكان عونا كبيراً له في حرب سوريا كلها، فربط لبنان بمصر برباط قوي لم ينفصم عراه على مر الأيام، وها هو مليكنا المعظم جلالة فاروق الاول حفيد محمد علي باشا الكبير يرعى هذه الرابطة الروحية بما يكفل لها البقاء في ظل عطفه الوارف، ايد الله ملكه، ووفقه الى تحقيق ما يرجوه لهذا الشرق العربي من مجد وعظمة ورفاهية.
الأثنين والدنيا /
كانون الثاني- 1944