أسمهان.. إذا حكت!!

أسمهان.. إذا حكت!!

محمد التابعي
صحفي عربي راحل
صحفي امريكي جاسوس لالمانيا!
بدأت اسمهان او الاميرة آمال الاطرش تروي قصتها منذ غادرت مصر في يوم 25 مايو سنة 1941 فقالت:
لم يكن القطار قد ابتعد كثيرا عن القاهرة حتى خيل لي ان حنادث الايام الثلاثة الماضية كانت حلما.. وقد افقت منه الان فقط!.. وسألت نفسي هل انا جننت؟.. والا فكيف قبلت هذه المهمة؟! وكيف رضيت او اورط نفسي في عمل لا خبرة لي به؟..

ولاول مرة مذ قابلت مستر سمارت ادركت خطورة العمل الذي انا قادمة عليه وجسامة الخطر الذي قد اقع فيه.. بل وتمنيت لو استطعت ان اعود الى القاهرة واعدل عن هذه الرحلة ولكن كيف! هذا مستحيل الان! واردت ان اهرب من نفسي من افكاري السوداء فانتقلت الى عربة الاكل.. وجلست وحدي الى مائدة ولكني لم ابقَ وحيدة طويلا.
فقد اقبل رجل واستأذن هل اسمح له بالجلوس في المقعد الخالي اماماي وسمحت له طبعا، وقدم نفسه اليّ على انه صحفي امريكي.. وان اسمه (ف) (ذكرت لي آمال اسمه ولكني اكتفي بذكر اول حرف فقط لاسباب سوف يدركها القراء فيما بعد).
قالت آمال:
وبدأ مستر (ف) يحدثني عن الحرب ومجراها وتطوراتها، وعن الشرق الاوسط، وانه يسافر الى لبنان لانه يتوقع قريبا وقوع احداث هامة، ثم سألني فجأة: (ألست من رأيي)؟
ووجدت نفسي اقول نعم! ولكني في نفس اللحظة تنبهت! وتذكرت نصائح مستر سمارت ونصائحك، واحسست ولا ادري كيف، ولعلها اعصابي المرهفة ان جلوس الرجل معي الى مائدة واحدة لم يكن مصادفة!.. بل كان امرا مقصودا..! وان حديثه كان يرمي لغرض.. وهو ان يستدرجني في الحديث.
دارت هذه الخواطر في رأسي ثانية او ثانيتين!
هذا والرجل يتحدث ويسألني ولكني وقد تنبهت اعتذرت بالجهل وعدم احاطتي بتفاصيل سير الحرب من عدم الاجابة، و(بأبتسامة) ولم اكن كاذبة في اعتذاري فانت تعرف خيرا من سواك انني لا اقرأ الصحف وانني عمري ما اهتممت بتتبع سير الحرب!
ومضت تقول:
وانتهينا من تناول طعام العشاء ووصلنا الى القنطرة.
وكان في رأسي سؤال اخافني وهو هل الرجل يعرف المهمة التي اسافر من اجلها؟! وهل هو يتبعني خصيصا؟ وهل هو جاسوس؟ ولحساب من يعمل؟ لحساب المحور.. ام ترى الانجليز هم الذين ارسلوه ورائي ليراقبني؟ فقد كنت قرأت في بعض الروايات ان هناك جواسيس يتجسسون على جواسيس بينما الكل يعملون لهدف واحد ويخدمون مصلحة واحدة!
ولكني اطمأننت قليلا عندما رأيت ان مستر (ف) لم يحاول ان يلازمني في محطة القنطرة او يجلس معي في قطار فلسطين.
ولكني لما نزلت في الصباح في محطة اللد وجدته واقفا على الرصيف وكأنما كان ينتظرني.. وتقدم مني وحياتي وتمنى لي سفرا سعيدا ثم قال انه سيواصل سفره بالقطار الى حيفا..وفعلا عاد وركب القطار.. قالت آمال:
هذا الصحفي الامريكي مستر (ف) كان من وكلاء المحور كما عرفت فيما بعد!.. هل تذكر انني ارسلت اليك مرة برقية عن سفري الى انقرة؟.
قلت: نعم وكنت انتظر حتى تنتهي من حكايتك واسألك عن السبب ولكنك لم تسافري؟ قالت: كلا، لم اسافر، او لم امكن من السفر.. ولمستر (ف) علاقة بكل هذا.. هل احكي لك القصة الان او اتركها الى ان يجيء دورها؟.
قلت: كما تشائين..
قالت: اذن اتركها الى ان يجيء دورها.. واستأنفت الحديث فقالت:
كومودور باص يعطيها تعليماتها واول الف جنيه!
وركبت من اللد سيارة الى القدس، ونزلت في فندق الملك داود ولم تمض على وصولي ساعة حتى زارني رجل انجليزي كان يلبس سترة سلاح الطيران البريطاني واسم الرجل (باص) وهو برتبة (كومودور) ورحب بي ودعاني لتناول الشاي معه في نفس اليوم.
وحول مائدة الشاي حدثني طويلا عن (عملي) واكد على ضرورة الحذر الشديد في كل خطوة اخطوها ونصحني ان اسيء الظن بكل واحد.. وهنا سألتها،|: وهل قلت له شيئا عن الصحفي الامريكي؟
قالت: كلا خطر لي اولا ان افعل ولكنني عدلت.
سألتها، لماذا؟
قالت: لم اكن اعرف ساعتئذ انه يعمل لحساب المحور، وكان يحتمل ان يكون جاسوسا لهم هم.. للانجليز! على كل حال لم اقل شيئا عنه لكومودور باص..
واستأنفت حديثها:
وطلب مني باص ان استريح اليوم واستعد للسفر غدا الى عمان، وهناك سوف يلقاني من يسهل لي دخولي سوريا خلسة من حدود شرق الاردن وكان من المهم جدا كما فهمت من باص ان اصل الى جبل الدروز واجتمع بالامير حسن وزعماء الجبل قبل ان يعرف الفرنسيون بدخولي سوريا..
وكان باص يعرف ان للمحور جواسيس وعيونا في مصر، وكان من المحتمل او على الاقل من الممكن ان يكونا عرفوا السبب في سفري وارسلوا الى سلطات المحور في لبنان وسوريا ينبهونها الى الغرض من زيارتي لجبل الدروز.
وطلب مني باص ان اؤكد لزعماء الدروز ان الحلفاء سوف يرسلون جيشا لطرد حكومة فيشي واعوان المحور، وان جيشهم هذا انما يدخل سوريا ولبنان لتحريرهما من كل سلطة اجنبية وان اؤكد لهم كذلك ان النصر النهائي في هذه الحرب للحلفاء!
الى اخره.. الى آخره..
وانا اختصر هنا كثيرا من كلام آمال الاطرش تفاديا من تكرار كلام سبق للقراء ان عرفوه وسمعوه اثناء الحرب عن قوة الحلفاء ولماذا سيكون النصر لهم في النهاية، وعن اغراضهم من هذه الحرب.. الى آخره..
قالت آمال:
وقبل ان يتركني باص في المساء دس في يدي مظروفا وقال ان فيه الف جنيه لمصاريفي انا الشخصية.. وان الذي سوف يلقاني في عمان سوف يقضي اليّ ببقية التفاصيل..
تدخل سوريا خلسة!
وفي اليوم التالي سافرت الى عمان فوصلت اليها بعد الظهر، وانقضى اليوم ولم يتقدم الى احد..
ومضى صباح اليوم التالي ولم يتصل بي احد..
وبعد الظهر دعيت للتليفون وكلمني المجهول بلغة فرنسية ركيكة وفهمت منه انني يجب ان اكون مستعدة بحقائبي بعد نصف ساعة. وفي الموعد المحدد كنت جالسة في ردهة الفندق وحقائبي القليلة حولي واقبل خادم يقول ان سيارة تنتظرني امام الفندق ومشيت الى السيارة..
ووضع الخادم حقائبي فيها.. واخذت مقعدي الى جانب السائق ولم يكن في السيارة احد سواه.. وكان السائق ضابطا انجليزيا شابا، ومن صوته عرفت انه هو الذي حدثني بالتليفون وانطلقت بنا السيارة الى طريق الشام.. واثناء الطريق راح الضابط الشاب يذكر لي اسماء زعماء الدروز ويسألني بعد كل اسم هل اعرف صاحبه؟ وطبعا كنت اعرفهم جميعا فهم اقاربي وابناء عشيرتي.. ثم اخذ يسأل عن حالة كل منهم المالية والاجتماعية.. وهل هو رجل طموع او فنع؟ وهل هو ممن يمكن الركون اليهم والى كلمتهم!
وانتقل الضابط بعدها الى امراء وزعماء البادية ورؤساء القبائل الضاربة في صحراء سوريا ولكن معرفتي بهؤلاء كانت قليلة جدا فلم اكن اعرف منهم سوى اميرين او ثلاثة اما هو الضابط فكان يعرف اسماءهم جميعا وكان ملما بكل شيء عن كل واحد منهم..
ودام حديثنا في هذا الموضوع اكثر من ساعتين استطعنا ان (نغربل) هؤلاء الامراء والزعماء وان نختار منهم تسعة وهم الاكبر مقاما والاوسع نفوذا في الجبل والبادية وكان على رأسهم طبعا زوجي حسن الاطرش..
واخيرا بدأ الضابط يذكر اسماءهم واحدا بعد واحد.. وهو يسألني : مارأيك؟ هل تظنين انه يقنع بخمسمائة جنيه في الشهر؟ وكنت اقول : كلا! مستحيل! على الاقل الف جنيه..
هذا بينما كنت اعلم ان فلانا هذا يفرح جدا بخمسمائة جنيه.. بل يرضى بمائتين! ولكن لم لا اجعل هؤلاء الزعماء العرب ينتفعون بالاموال البريطانية التي كانت تنفق بالملايين!
ويتناول الضابط زعيما آخر او رئيس قبيلة ويقول: وهل تكفيه الف جدنيه؟
واقول انا: كلا هذا رجل قوي وغني، والف جنيه لا تملأ عينيه على الاقل الفان وهكذا..

انا حمارة كبيرة
وتوقفت اسمهان في روايتها وضحكت وهي تقول:
كم كنت حمارة كبيرة!
وضحكت انا وقلت: الرجوع الى الحق فضيلة! ولكن ما سر هذا الاعتراف؟
قالت: كان في امكاني ان احتفظ لنفسي بعشرات الالوف من الجنيهات، فقد كنت انا الوساطة الوحيدة في ايصال هذه المبالغ الى امراء وعماء البادية، وكان الضابط الانجليزي المذكور يزورني كل شهر مرة في فندق (اوريان) اي الشرق في دمشق ويقول: لقد احضرت لك سجايرك اللاكي سترايك..
ويناولني (خرطوشتين) سجائر ملفوفتين بالورق، ولكن لم تكن هناك شجائر بل رزم من اوراق البنكنوت!
وكان الامراء والزعماء يترددون على الفندق واقابل كل واحد منهم على انفراد واناوله المبلغ المخصص له، وكما قلت لك فان معظمهم كان يقنع بل ويفرح بنصف ما كنت اعطيه اياه، ولو انني كنت فعلت ذلك واحتفظ لنفسي بالفرق.. وهزت كتفيها وقال: ولكنني كنت حمارة كبيرة!..
ثم كانما تذكرت امرا لانها ضحكت وقالت:
عملتها بس مع زوجي حسن الاطرش.. قلت: زوجك؟!
قالت: نعم.. في احدى المرات كان علي ان اعطيه نصيبه وهو الفان من الجنيهات ولكنني لم افعل، وتركت دمشق وسافرت الى بيروت، والامير حسن لايزال يعتبر هذا المبلغ دينا عليّ حتى الان!

تقابل زوجها حسن الاطرش
وعادت اسممهان الى روايتها واستأنفت الحديث.. وانا اغفل بعض التفاصيل التي لاضرورة اولا اهمية لها.
قالت: واخيرا وصلت الى الجبل (تقصد جبل الدروز) وكنت متهيبة جدا من مقابلة العائلة وخصوصا الامير حسن بسبب ما نشر في بعض المجلات المصرية عن زواجي ببدرخان ونحن الطرشان نعده عارا ان تتزوج الفتاة من رجل غريب خصوصا اذا كان يقل مقاما عنها (كذا)! والمجلات المصرية مقروءة في سوريا وفي الجبل، وفعلا سألوني عن حكاية زواجي هذه فكذبتها وقلت انها كذبة مختلقة من اكادذيب مجلات مصر.
وعلى العموم استقبلني كبار الاسرة استقبالا طيبا، وقد تاثرت حقيقة من حسن استقبال الامير حسن وقد احسست في الحال انه لايزال يحبني،، ولعل هذا الحب هو الذي سهل على مهمتي لانني لم اجد صعوبة في اقناعه بصواب الانضمام الى الحلفاء والتخلي عن تأييد حكومة فيشي.
ولكنه طلب مني ان اعود زوجة له. وابدى استعداده لان يطلق في الحال زوجته التي كان تزوجها بعد طلاقي منه.. ولم يقلها صراحة ولكني فهمت انه يجعل عودتي اليه شرطا لقبوله ماجئت من اجله، اي شرطا لنجاحي في مهمتي،،، قالت آمال الاطرش ولعلها ارادت ان توجز وتمر سريعا بهذا الفصل من روايتها حتى لا اناقشا في تناقض برقياتها التي ارسلتها اليّ والتي كانت ارسلتها الى اسرتها في القاهرة.
قالت: ولا اطيل عليك، وارسل حسن ودعا زعماء الطرشان للاجتماع بي وتولي عني شرح مهمتي.. واقناعهم ثم بعث بالرسل ودعا بعض زعماء قبائل البادية.. وفي الوقت نفسه بادر الى طلاق زوجته لكي يثبت لي انه جاد في طلب عودتي زوجه له!
ومع انني استعنت بالكتمان والحذر الا ان خبر وجودي في الجبل وخبر (نشاطي) السياسي ومقابلاتي لبعض امراء وزعماء البادية وصل الى مسامع السلطات الفرنسية وعيون المحور في سوريا ولبنان.
قالت: ولعل الصحفي الامريكي مستر (ف) هو الذي ابلغ عني، ولو انه اقسم لي فميا بعد انه بريء من هذا.. وعلى كل حال فقد جاءني الامير فاعور، وهو احد امراء البادية وهو صديق لاسرة الطرشان، يحذرني ويقول ان السلطات الفرنسية توشك ان تصدر الامر بالقبض على واعتقالي وانه يجب على ان اهرب واغادر سوريا على الفور.. وهنا قاطعتها وذكرت لها خلاصة البرقية التي كانت نشرتها جريدة المصري وفيها ان المصري وفيها ان السلطات الفرنسية هي التي طلبت منها مغادرة البلاد وانها، اي آمال اضطرت بعد هذا ان تهرب على ظهر جواد!
قالت: هذا غير صحيح ولو كانت السلطات الفرنسية هي التي طلبت مني مغادرة البلاد فلماذا اهرب على ظهر جواد؟ كان يمكنني في هذه الحالة ان اغادر البلاد علنا وبالطريق العادي ما دامت السلطات هي التي طلبت مني ذلك.! كلا.. الحقيقة هي ان الفرنسيين ارادوا ان يقبضوا علىّ ولهذا هربت..

تهرب متنكرة في زي عبد!
وتطوع الامير فاعور بتهريبي من سوريا ومرافقتي بنفسه الى حدود فلسطين.. وتنكرت في زي عبد من عبيد الامير! وطليت وجهي ويدي بدهان اسود اللون.. ولبست ملابس العبيد الذين في خدمة امراء العرب.. ولففت رأسي وشعري بالكوفية والعقال وركبت جوادا وسرت وراء جواد الامير فاعور!
وكانت رحلة شاقة طويلة ومتعبة فقد اضطر الامير ان يسلك في بعض اجزاء الطريق طرقا ودروبا غير مألوفة ولا معروفة عند حراس الحدود!.. ولقد مررنا بين آونة واخرى.. ببعض الاستحكامات التي اقامها الفرنسيون.. ولم انس مهمتي فاجتهدت ان اسجل في ذاكرتي كل ماتقع عليه عيناي من تجمعات للجند.. واوكار المدافع.. وجسور او كباري انشئت هنا وهناك في بعض الممرات بين الجبال.. والحصون الصغيرة ومخازن الذخيرة الى آخره..
قالت: وانا احب ركوب الخيل.. ولكن للرياضة! ولكني عمري ما ظننت انني سأكره الجياد وركوب الجياد الى هذه الدرجة..
وعندما عبرت اخيرا الحدود، ودخلت فلسطين كنت احس ان وسطي انقطم! بعد ان امضيت على ظهر الجواد ليلة وبعض يوم!
وودعت الامير فاعور وشكرته.. وفي مساء اليوم التالي كنت في القدس.. ودخلت فندق الملك داود! وكم كانت دهشة موظفي الفندق عندما طلبت منهم ان يقودوني الى الجناح الذي كنت اقيم فيه!
ذلك لاني دخلت الفندق وانا كما انا.. اي سوداء في زي العبيد!
وبعد ان اغتسلت وابدلت ثيابي ارسلت في طلب كومودور باص. ورويت له كل ما فعلته في سوريا، ونتيجة احاديثي ومقابلاتي مع الامير حسن الاطرش وزعماء الجبل والبادية.. ثم قصصت عليه تفاصيل هربي وذكرت له مالاحظته طول الطريق وسجلته ذاكرتي عن الحصو التي شيدها الفرنسيون على قمم بعض الجبال.. الى آخر ماذكرته لك..
وسر الرجل جدا وضمني الى صدره وهو يقول:
مرحى! احسنت صنعا يابنيتي!

زواجها بالامير حسن الاطرش
وبعد ذلك ببضعة ايام تحرك جيش الحلفاء وتخطى حدود فلسطين الى سوريا ولبنان،، والباقي تعرفه مما نشرته الصحف ومن برقياتي فقد عدت في اعقاب جيش الحلفاء الى دمشق. وسكتت قليلا قبل ان تقول: وارسلت لك برقيات عن رغبة الامير حسن في ان اعود زوجة له،، ونصحتني انت بالقبول..
قلت: نعم وحسنا مافعلت!
قالت: على كل حال كان الاحتفال بزواجنا فخما جدا.. واعطاني الامير حسن يومها الفي جنيه.. وضحكت انا وقلت: ثم اخذت منه الفي جنيه اخرى!
ابتسمت رحمها الله وقالت:
نعم. وهل كثير ان يكون مهري اربعة الاف جنيه!

اسراف وسوء تدبير..
وهنا عادت السيدة امينة البارودي من طوافها بالمحال التجارية ومعها سيدة نهضت آمال وقبلتها وقدمتني اليها! وقالت السيدة انها تعرفني من قبل ان تراني لكثرة ما سمعته عني من آمال والسيدة واسمها شفيقة هي ارملة المرحوم فخري بك النشاشيبي وقد قتل بعد ذلك بنحو شهر واد في احد شوارع بغداد اثناء زيارة له لعاصمة العراق وقيل ان القاتل من اتباع سماحة مفتي فلسطين، لان فخري النشاشيبي كان من الد خصوم المفتي كما انه كان متهما بأنه من اصدقاء الانجليز ومؤيدي السياسة البريطانية في فلسطين..
وقالت السيدة شفيقة ونحن حول مائدة الغداء موجهة سؤالها اليّ:
هل نصحتها؟
قلت: فيم؟
قالت: سمعت منها ان (عيبك) الكبير في نظرها هو اسرافك في نصحها.. ولكن عمرها ما كانت في حاجة للنصح كما هي الان.. قلت: انصحها في ماذا؟
قالت: في اسرافها الجنوني،، كأنما المال يحرق راحتيها فهي تريد الخلاص منه بأسرع مايكون!
وهنا قالت اسمهان:
لم يحدثني في شيء غير هذا مذ حضر!
قالت شفيقة: وهل حدثته انت عن لعبك القمار في بيروت؟..
ثم التفتت الى تقول قبل ان تتمكن اسمهان من اسكاتها: لقد التف حولها في بيروت بعض السيدات وذكرت اسماءهن وهن من سيدات وآنسات اكبقر الاسر اللبنانية الشهيرة العريقة يتملقنها ويدعونها لسهراتهن وحفلاتهن ويحطنها بمظاهر الاجلال والاكرام!.. والمجنونة تظن ان هذا كله حبا في سواد عينيها وماهو الا طمع في مالها لانهن علمنها لعب البوكر وهي لاتفهم شيئا ولن تفهم شيئا في لعب البوكر والنتيجة هي انهن يربحن منها في كل سهرة مئات الجنيهات.. فهل يعجبك هذا الحال؟
قلت طبعا لا، ولكن لعله يعجبها هي! ومضت السيدة شفيقة واسمهان ساكتة لاتجيب مضت تقص على تفاصيل تصرفات لها تدل على الغفلة وسوء التدبير، ومنها مثلا ان (صحفيا) خدعها واوهمها انعنده مشروعا صحفيا ناجحا لاصدار جريدة يومية رأس مالها الفان من الجنيهات فهل تشترك معه بنسبة النصف في مشروعه الناجح المذكور.
ودفعت له اسمهان الف جدنيه.. وصدرت الجريدة.. ثم احتجبت بعد اسبوعين اثنين!
الى اخره، الى اخره..
لاعجب اذن وهذا حالها اذا كانت انفقت خمسة عشر الف جنيه في خمسة شهور!!
واخيرا تكلمت اسمهان فقالت انها ليست (مغفلة) كما نظن بل هي تفهم وتدرك كل شيء ولكن!..
و(يعني) لفظ او تعبير لبناني ممكن ان تعني به كل شيء اي شيء ولاشيء، ولعلها ارادت منه هنا ان تقول انا اعرف انهم يضحكون عليّ ويبتزون مالي ولكن ماذا يهم مادمت اجد في هذا تسلية لي!.
ثم مضت اسمهان تقول ان كثيرين من وجهاء القوم وكبار التجار يقصدونها لكي تتوسل لهم في مسائل معينة عند السلطات الانجليزية او الفرنسية وخصوصا عند الجنرال كاترو الذي يحبها كابنته ويعطف عليها كثيرا،، ويعدونها بانهم سوف يدفعون لها مبلغ كذا او يقدمون لها هدية كيت اذا نجحت وساطتها..
قالت: وكثيرا ما نجحت وساطتي في المسائل التي كلفوني بها وجنوا هم منها ارباحا طائلة ولكن قليلين جدا منهم هم الذين وفا بوعدهم لي..
.. وان تاجرا وماليا كبيرا معروفا في لبنان ومصر وانا اغفل هنا ذكر اسمه وكان صاحب ومدير شركة كبيرة للاستيراد والتصدير وقد ورد اسمه في الكتاب الاسود الذي نشره مكرم عبيد باشا تقرب اليها هو والسيدة زوجته.. بل وجعلته زوجته من نفسها اشبه بوصيفة للاميرة آمال الاطرش تتولى عنها استقبال ضيوفها وتنظم لها حفلاتها وتلازمها في غدوها ورواحها..
واخيرا فاتحها التاجر المالي الكبير في موضوع تكوين شركة بينها وبينه برأس مال قدره مائة الف جنيه.. على ان لاتدفع هي شيئا ما لانه سيتولى هو عنها دفع نصيبها في رأس المال! وطلب منها في مقابل هذا ان تتوسط له عند الجنرال كاترو في مسائل معينة.. وهي مسائل تجارية بحتة ذات قيمة مالية كبيرة..
قالت: ولم يخطر ببالي وقد رأيت من آيات صداقته وصداقة زوجته لي ما رأيت انه يضحك عليّ، وتوسطت فعلا له عند كاترو وقضيت له حاجته.
ثم ابتسمت وهي تقول:
ولكنه لم يكتب عقد الشركة حتى اليوم! بل انقطع هو والسيدة زوجته عن زيارتي!..

الاميرة آمال الاطرش!
وفي المساء اقامت اسمهان او الاميرة آمال الاطرش حفلة استقبال في الصالون الكبير الملحق بجناحها الملكي! في فندق الملك داود.
وكان بين لمدعويين بعض كبار الضباط البريطانيين والاعيان وقناصل الدول الاجنبية في القدس ومعهم السيدات قريناتهم. ورأيت الاسراف الذي مابعده اسراف في الطعام والشراب. وقدمتني هي الى مدعويها على انني ((صديق عزيز على مصر)). ولكنني آثرت ان انزوي في احد اركان الصالون واتفرج وابتسم بيني وبين نفسي!
هذا هو الجو الذي تحبه اسمهان.. جو الفخفخة حتى ولو كان مزيفا لاصدق فيه! الجميع ينادونها بلقب (برنسس) ويعاملونها على انها اميرة.. وهي تتحرك بينهم وتتحدث الى هذا وذاك.. ثم تنتقل وتشمل بعطفها هذا وذاك! تماما كما تتصرف اية اميرة في مثل هذه الحفلة! وقبيل منتصف الليل نهضت الاميرة آمال الاطرش واقفة ايذانا بانتهاء السهرة!! وايذانا لضيوفها بالانصراف. ونهض المدعوون والمدعوات واقبلوا يستأذنونها في الانصراف ويشكرونها الى آخره!..
تماما كما يحدث في اي بلاط صغير!! هذا هو الجو الذي كانت تتنفس فيه آمال الاطرش ملء رئتيها وتحب ان تعيش دائما فيه.. المسكينة! ولاعجب اذا كانت جملة حسابها الاسبوعي او (فاتورة) فندق الملك داود وحدها كانت لاتنقص عن اربعمائة جنيه.. اربعمائة جنيه في الاسبوع الواحد وللفندق فقط؟!
واقمت في القدس خمسة ايام تحدثنا فيها كثيرا وقلت لها في صباح اليوم الخامس انني سأعود غدا الى مصر..
قالت: وانا ايضا سأعود الى بيروت ولكن هل سبق لك ان زرت تل ابيب؟.
قلت: كلا..
قالت: لا يليق اذن ان تغادر فلسطين قبل ان ترى تل ابيب كما انني اريد ان اشتري من هناك بعض الاشياء. ولما كنت سأعود الى مصر بالقطار من محطة اللد وهي قريبة جدا من تل ابيب قد اتفقنا على ان نمضي غدا الى تل ابيب ونمضي بقية النهار والليلة فيها.. وان استقل القطار في الصباح الى مصر.. وان تترك هي للسيدة امينة البارودي مهمة اعداد الحقائب على ان تلحق بها في تل ابيب بالسيارة ومن هناك وبعد سفري تسافران الى بيروت عن طريق حيفا والناقورة..
وذهبنا الى تل ابيب..
والاثر الذي تركته هذه المدينة انها اشبه بالمدن التي تشيدها ستوديوهات السينما في هوليوود ليلتقطوا فيها حوادث فيلم سينمائي معين فاذا ما انتهوا من التقاط المناظر.. هدموا المدينة وما فيها!
اي انها مدينة ولكنها لاتوحي الى النفس بشعور الثبات والاستقرار! ونزلنا في فندق جان ريمون الذي اختطفت منه ذات مرة عصابة ارجون زفاي ليومي بعض الضباط البريطانيين.
وقضينا السهرة في مقهى يقع تحت الفندق المذكور على شاطئ البحر. واقبل رئيس خدم يحيي (الاميرة) باحترام كبير ويمشي بين يديها الى المائدة المحجوزة خصيصا لها.
ولعل احترام الرجل لم يكن لها ولا للقب الامارة بقدر ماكان لسخائها المفرط في البقشيش فقد طلبت آمال من رئيس اوركسترا المقهى ان يعزف قطعة معينة.. ولبى الرجل طلبها.. ونفحته (الاميرة) عشرة جنيهات! وفي الصباح وضعت حقيبتي في سيارة التاكسي التي كانت ستحملني الى محطة اللد..
ووقفت آمال تودعني وقالت:
هل تذكر تاريخ مولدي؟
قلت: في شهر نوفمبر أليس كذلك؟ وكنا يومها 31 اكتوبر.
قالت: نعم 25 نوفمبر وانتظر منك ان تمضيه معي في القدس هل تعدني او اضطر لاجراء عملية جراحية اخرى لكي تحضر؟
قلت: اعدك.. ولا داعي للعمليات الجراحية! ووصلت الى القاهرة عند منتصف الليل ووجدت برقية رقيقة منها تذكرني فيها بوعدي ان احتفل معها بعيد مولدها القادم!...

عن كتاب (اسمهان) لمحمد التابعي