قراءة في كتاب (أسرار أسمهان: المرأة، والحرب، والغناء)

قراءة في كتاب (أسرار أسمهان: المرأة، والحرب، والغناء)

سعد محمد رحيم
تغدو الكتابة عن سيرة امرأة ذات شهرة ومكانة، عاشت في مجتمع وزمن محافظين، مغرية. ويزداد الإغراء حين تكون تلك المرأة مطربة ذات صوت ساحر، تمردت على تقاليد أسرتها ومجتمعها من أجل فنها. ولكن أن تكتنف جوانب من حياتها الأسرار، وأن تشارك بجرأة نادرة في الحدث السياسي، فعلاً لا قولاً، وأن تموت وهي في عز شبابها وعطائها الإبداعي، بطريقة مبهمة ومريبة، فإن شغف الكتابة عنها يبلغ أقصاه.
تلك المرأة المطربة هي أسمهان، التي تنقلت بين الشام ومصر، في النصف الأول من القرن العشرين، وخاضت تجربتها/ معركتها الشخصية الاجتماعية والفنية، ومن ثم السياسية، بطريقة لافتة وصاخبة، متجاوزة مواضعات عصرها وظرفها وجنسها. ومحققة في غضون سنوات قليلة إنجازاً فنياً لا يُضاهى. وقد ولدت في الماء/ البحر يوم كانت عائلتها هاربة من الأناضول إلى بيروت، حتى كاد والدها يطلق عليها اسم (حربية) لولا معارضة أمها التي اقترحت اسم (أمل). لتموت في الماء أيضاً (في قناة للري) بحادث سيارة، بين القاهرة ورأس البر، تماماً مثلما تنبأ لها عرّاف قبل ذلك بسنوات طويلة!.

شغلت أسمهان ليس الوسط الفني فحسب، وإنما الجمهور كذلك. ومع تورطها في السياسة والحرب، وما أشيع عن تجسسها ومحاولاتها أن تكون عميلة مزدوجة بين الإنكليز والألمان، ومع تمردها على تقاليد قومها وأسرتها ومجتمعها، أضحت ما يشبه الأسطورة في نظر الناس، ولا سيما بعد حادثة موتها الفاجع بحيثياتها الملتبسة. ولاشك في أن حياةً كتلك وموتاً كهذا، لابد من أن يستثيرا المخيلة، ولا بد من أن تُحبك عنهما وحولهما القصص، ولابد من أن يحاصرا بأمواج من الشائعات.
صارت تلك الموهبة المبكرة، المشعّة المحلّقة موضع إطراء واسع، وإعجاب شديد، وحسد أيضاً، وريبة.. دخلت أسمهان ميدان فن الغناء بثقة وتفان وإصرار. وبدت للمهتمين والعارفين بأصول الطرب والمقامات، وقدرة الحنجرة البشرية على الأداء معجزة صغيرة تعد بمنجز هائل مع وجود ملحنين كبار (محمد القصبجي، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وشقيقها فريد الأطرش). وبمزاحمة صوت جبار ذي حضور طاغٍ (أم كلثوم).
يحاول كتاب (أسرار أسمهان: المرأة، والحرب، والغناء) لمؤلفتها الباحثة (شريفة زهور.. ترجمة؛ عارف حديفة، ومن إصدارات دار المدى/ 2006) فك بعض الألغاز التي طبعت حياة أسمهان القصيرة والشاقة والمترعة بالإثارة والغموض. والتذكير بموهبتها وإبداعها الخلاق. ودورها في تحديث الغناء العربي.
لمّا أراد صديقي الناقد السينمائي علاء المفرجي إعارتي هذا الكتاب، لاحظ ترددي في أخذه، فقال؛ هذا كتاب لا يشبه بقية كتب السيرة المكتوبة عن المطربين والمطربات العرب، اقرأه، ولاشك في أنك ستغير رأيك.. واكتشفت بعد قراءة بضع صفحات أن علاء كان على صواب.. هذا كتاب مختلف.
يعطينا الكتاب، على الرغم من صغر حجمه، قدراً وفيراً من المعلومات في التاريخ الحديث وصراعات السياسة، والأنثربولوجيا (الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط) وفن الموسيقى والغناء والسينما. فها هنا نقرأ عن حياة أسمهان، ومن خلالها نقرأ عن حياة جيل ومجتمع. فأسمهان في هذا الكتاب موضوعة في سياق تاريخي، وتتحرك على خلفية أحداث سياسية واجتماعية وفنية.. وقد جاءت الفصول المكتوبة نتيجة بحث واستقصاء جادّين، ونظر موضوعي، وتحليل تاريخي وعلمي دقيق. وفي النهاية لم تتبجح الكاتبة ـ وهذا ما يُحسب لها ـ بأنها وصلت إلى اليقين النهائي، ولم تقل أنها فكت الألغاز المشتبكة مع تلك الحياة المائجة (حياة أسمهان). لقد ظلت الكاتبة تتحقق من الاحتمالات.. تطرح الادلة والقرائن، وتعود إلى الأرشيف والسير السابقة، وتستنطق أولئك الذين كانوا قريبين منها.. ترجِّح هذا الاحتمال على ذاك، وتقترب من الحقيقة أو تسعى إليها، لكنها لا تدّعي بأنها تعرف ما لا يعرفه حتى الشيطان (إذا ما استعرنا بتصرف مقطعاً من قصيدة لعبد الوهاب البياتي استشهدت به الكاتبة).
تغدو الكتابة عن فنانة مثل أسمهان تورطاً في شبكة روايات، على حد تعبير حنا أردنت.. تقول المؤلفة: «والواضح هو أن أسمهان كانت مغنية عظيمة، إلاّ أن الدعاوى بأنها كانت أميرة، أو جاسوسة، أو خائنة، أو بطلة وطنية، أو امرأة خائبة العاطفة، يمكن بالنسبة إلى مجتمعها العربي أن تتعايش من غير معضلة. وحين كان يصعب التأكد من تفاصيل الماضي، كانت تُخترع أو تزخرف». والكتاب، عموماً، موجّه للقراء الغربيين، ومؤلف باللغة الإنكليزية. وغالباً ما تشير الكاتبة إلى البيئة الشرقية/ الشرق أوسطية ودورها في تحديد مسار حياة أسمهان وقدرها، ومن ثم في صياغة قصتها بتناقضاتها وملابساتها وخفاياها. وفي المقطع الآنف الذكر، المقتبس من الكتاب (كما في مقاطع عديدة أخرى تحفل بها الفصول، حيث تشير غالباً إلى البيئة العربية الأبوية الشرق أوسطية) نلحظ نوعاً من نبرة الاستعلاء والتمييز، وإن لم تكن حادة. وأكاد أقول؛ شيئاً من روح استشراقية، على الرغم من الأصل الشرقي العربي للمؤلفة (شريفة زهور؛ وهي أستاذة مختصة في أبحاث الشؤون الإسلامية والعالم العربي بمعهد الدراسات الإستراتيجية التابعة للجيش الأميركي). غير أنها، والحق يقال، متحررة من عوالق نظريات المؤامرة، وأيضاً مما تسميه هي بتحيزات الرجال في أثناء الكتابة عن النساء، والمعنية هنا (أسمهان). إذ يمكن، بالقراءة المتأنية للكتاب، تلمس طريقتها المنهجية في البحث العلمي، ومن غير اتهامها بالافتقار إلى الموضوعية في معظم الأحيان.
إن الإشارة إلى زخرفة واختراع تفاصيل الماضي تبدو هنا كما لو أنها مثلبة يختص بها الشرقيون وحدهم، ولا يمكن وجودها في الغرب. لكن بدءاً من النظر إلى الشائعات المتناقضة التي تطارد حياة المشاهير في الغرب (حياة وموت مارلين مونرو في سبيل المثال) وحتى تفكيك خطاب الغرب عن الشرق وما يتضمن من اختراع شرق متخيل، يصبح من اليسير دحض براءة الغرب مما يصيب الشرق بهذا الصدد. في مقابل القول أن هذه الظواهر هي إنسانية عامة، بدرجات متفاوتة، ساهم تطور قنوات الاتصال والإعلام، (وعوامل أخرى لا مجال للخوض فيها في هذا المقام)، في تعزيزها وانتشارها في الغرب والشرق معاً، فضلاً عن ضرورة عدم إنكار بعض خصوصية العالم العربي، بهذا الصدد، لأسباب تاريخية معروفة.

هرب أفراد أسرة أسمهان من مدينة (ديمرجي) في الأناضول، حيث كان رب الأسرة (والد اسمهان؛ فهد الأطرش) يشغل وظيفة قائممقام، لمّا عرفوا أن اليونانيين يزحفون باتجاههم، وكان ذلك في تشرين الثاني 1917، وكانت زوجة فهد (علياء) حاملاً في شهرها الأخير، فأنجبت في البحر وهم في طريقهم بين أزمير وبيروت، وأطلقت الأم على المولودة اسم (أمل) تفاؤلاً بنجاتهم. (هناك رواية أخرى يذكرها الصحافي محمد التابعي عن ولادتها في العام 1912). وعائلتها (آل الأطرش) هم فرع متنفذ في العائلة الدرزية. وقد لجأت الأم مع أولادها الثلاثة (فؤاد وفريد وأمل) إلى القاهرة في العام 1923 للابتعاد عن خطر الاضطرابات الحاصلة في الشام. وربما كانت أمل في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها حين استمع إليها الملحن محمد القصبجي مندهشاً وهي تغني، وقال؛ «هذا صوت من الفردوس». وأطلق عليها الملحن داود حسني اسم أسمهان (اسم حسناء فارسية ساحرة من زمن غابر)، ورأيه أن الاسم هذا يتصف بالفخامة اللائقة بصوت هذه الطفلة المعجزة. ومنذ ذلك الحين بدأت قصة المغنية التي شغلت لوقت طويل الصحافة والنخبة والرأي العام.
تتبعت المؤلفة مسار وتفاصيل تلك القصة، كما وردت في السير المكتوبة عنها، وما قاله وصرّح به أقرباؤها الأحياء. وما رددتها الصحافة في حينها. ولكن في إطار المشهد الكبير (الاجتماعي والسياسي والفني، الأقليمي والعالمي).. قصة مترعة بالإثارة والتنوع والألوان المتعددة الدرجات، والغموض، والتي تضيئ كما تقول المؤلفة: «رؤية الشرق الأوسط للشأن الجنسي، والسلطة، والرعاية، والغناء، وكيف تطورت هذه الرؤية في الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات. لقد عاشت (أسمهان) تجربة الحياة في سياق النهوض القومي والإحباطات. فالتوترات بين الغرب والشرق وبين الطبقات الاجتماعية يتردد صداها في ملحمتها الخاصة. ويتواصل التصادم بين الشرف والشهرة، وبين التحوّل والعرف، ونحن نفكر في المرأة، وموسيقاها، وحرب عالمية».
تزوجت أسمهان من حسن الأطرش، للمرة الأولى، في العام 1933. وكانت حكايات زيجاتها إشكالية أخرى في حياتها اختلطت مع قضايا التقاليد الاجتماعية والقبلية والفن والسياسة والهوية والهجرة والسمعة. وأنجبت فتاة (هي الوحيدة: كاميليا) وربما لم تستطع قط العثورعلى حب حياتها. كافحت من أجل فنها، وجرفتها تيارات السياسة وصراعات الأمم والأحزاب. وأحياناً أفرطت في الشرب ولعب القمار وأسرفت في إنفاق المال وغلب الطيش على سلوكها.. مثلت في فيلمين هما؛ (انتصار الشباب) مع شقيقها فريد الأطرش وأنور وجدي، و (غرام وانتقام) مع يوسف وهبي. وفي الفيلم الأول غنت مجموعة من أغنياتها وكلها من ألحان فريد الأطرش. منها (يا بدع الورد، الشمس غابت أنوارها، كان في أمل، يللي هواك شاغل بالي). أما في الفيلم الثاني فغنت ألحاناً أخرى لفريد هي (ليالي الأنس في فيينا، أهوى أهوى، يا ديرتي مالك علينا لوم) فيما غنت من ألحان رياض السنباطي (دمعة على حبيبي، نشيد الأسرة العلوية) ومن ألحان محمد القصبجي غنت (امتى حتعرف امتى، أنللي استاهل).
إن ما جعل منها مغنية عظيمة أداؤها المرهف، والشحنة العالية للعاطفة في صوتها، ونطقها السليم للعربية، ومزجها الأساليب القديمة مع الجديدة.. تقول المؤلفة: «إن تمكّن أسمهان من العناصر الكلاسيكية في أعمالها يشتمل على عناصر أداء أسلوبية، واستيعاب نظام المقامات، مع إدماج هذا الاستيعاب في الغناء المرتجل، والاستفادة من المزايا الشعرية للغة العربية بغية خلق دينامية، وتوكيد وتواصل غنائي وعاطفي مع جمهورها».
إن روح أسمهان الجامحة الحرون، وموهبتها النادرة، وصراعها مع محيطها، وولعها بالفن والحياة، وميلها السياسي (الوطني مثلما أزعم)، هذا كله قد رسم مصيرها في النهاية وحدّده. ولقد ماتت بطريقة دراماتيكية ملغزة، كأنها أرادت أن تبقى أسطورة متجددة.. ماتت في حادث سيارة بعد أن نزلت من القطار، في اللحظة الأخيرة، مع صديقتها ماري قلادة التي رافقتها في رحلة الموت كذلك. وهذا يذكِّر بحادثة موت المفكر والأديب الفرنسي ألبير كامو مع صديقه (ميشيل غاليمار) حيث قضيا في حادثة سيارة، فيما عُثر على تذكرة قطار في جيب كامو.
أكان موتها غرقاً في قناة للري قضاءً وقدراً؟ ربما.
أم هو أمر دُبِّر بليل كما يُقال؟ حدسي يرجح الاحتمال الثاني. وإذا كان هذا صحيحاً فمن يقف وراء مقتلها؟ أهي الغيرة القاتلة لـ (أم كلثوم) بحسب بعض الشائعات التي راجت يومها؟. شخصياً أستبعد هذا الاحتمال، بل ألغيه، لأن فنانة بعظمة أم كلثوم لا يُعقل أن تقامر بمستقبلها وسمعتها، ناهيك عن حسّها الإنساني الذي لابد من أن يجعلها تأنف عن اقتراف جريمة بشعة كهذه.. أهم الدروز (قومها) من فعلوا ذلك، لأن أميرة منهم انتهكت خطوطهم الحمر التي لا يسمحون بتجاوزها من قبل امرأة/ أميرة ترتبط بهم بصلة الدم؟ محتمل، وأقوله على مضض.. أهو القصر الملكي والإنكليز والسياسة؟ أظن؛ أجل، هذا ما أرجحه. وهذه وجهة نظر شخصية ليس إلاّ.

في كل كتابة نجد بعضاً من نَفَس الكاتب وروحيته ومزاجه وتحيزاته يتغلغل بين تضاعيف الكلمات والجمل. وغالباً ما تجعلنا كتب السيرة، بإيحاءات خفية من المؤلفين، نتعاطف مع الشخصيات التي كُتبت عنها، ونحبها، أو ننفر منها ونبغضها. وفي حالة هذا الكتاب لشريفة زهور، عن أسمهان، فإن القارئ لا يكتفي بالتعاطف والتفهم، وإنما ينجذب إليها (إلى أسمهان) بفعل القوة التي تحلت بها شخصيتها؛ الأنثى الباهرة والشجاعة، والمرأة المنغمسة في الشأن العام، والمطربة ذات الصوت الملائكي.