في عام 1948 مجلس النواب ومشكلة الأمية

في عام 1948 مجلس النواب ومشكلة الأمية

حميد حسون العكيلي
أدّت وثبة كانون الثاني 1948 العارمة لا الى اسقاط وزارة صالح جبر فقط وانما، الى تمزيق معاهدة بورتسموث التي حاولت منها بريطانيا ومؤيدوها من السياسيين العراقيين فرض قيود والتزامات جديدة على العراق كان من شأنها تكبيله من جديد، الى تكليف احد ابطال ثورة العشرين السيد محمد الصدر بتشكيل وزارة جديدة في 29 كانون الثاني 1948

لتكون اولى مهامها تهدئة الناس وعودتهم إلى حياتهم الطبيعية بعد اسابيع من الغليان الثوري الذي اصاب الحياة بشللٍ تام.
سارعت وزارة الصدر حال تشكيلها الى ارسال عدة رسائل تهدئة للشعب العراقي، اهمها :انها دعت إلى تشكيل لجنة تحقيق بكل الاحداث التي رافقت وثبة الشعب العراقي، وفي الوقت نفسه اطلقت الوزارة المذكورة سراح المعتقلين الذين جرى اعتقالهم إبّان الوثبة، والاهم من ذلك برأينا انها طلبت من مجلس الغذاء العالمي تزويد العراق بكميات من القمح لسد النقص الكبير الحاصل في العراق.

كما قامت وزارة الصدر بحل مجلس النواب في 22 شباط 1948، واخذت بتهيئة الاجراءات والمستلزمات لاجراء انتخابات مجلس نيابي جديد بدأت الانتخابات بتاريخ 15 حزيران 1948 وطلب رئيس الوزراء عشية الانتخابات من الشعب العراقي المحافظة على الهدوء وضبط النفس واحترام حرية الناخبين والمنتخبين اثناء سير الانتخابات. لكن الذي حدث ان القائمين على رأس النظام السياسي في العراق لم يستطيعوا ان يتركوا الانتخابات تجري بطريقة بعيدة عن التدخل، فأدى تدخلهم السافر الى فوز مؤيدي الحكومة اي حكومة بالاغلبية الكبرى.
بعد ان انهت وزارة محمد الصدر مهمتها في التهدئة واجراء انتخابات مجلس النواب، انصرفت عن مسرح السياسة، لتفسح المجال لمزاحم الباجه جي في تشكيل وزارة جديدة.
المهم بالنسبة لنا، ان مجلس النواب، الذي افتتح اعماله الوصي عبد الاله بتاريخ 21 حزيران عقدا اجتماعين في سنة 1948 الاول كان اجتماعاً غير اعتيادي بدأ بتاريخ 22حزيران 1948 وانتهى بتاريخ 29 تشرين الثاني 1948 عقد خلاله 27 جلسة، اما الاجتماع الاعتيادي الذي بدأ اجتماعاته في الاول من كانون الاول 1948، وعقد آخر جلسة له بتاريخ 30 حزيران 1949 فأن عدد جلساته كانت قد بلغت 56 جلسة.
اشتمل الفكر التربوي الذي شهدته اروقة مجلس النواب في اجتماعة سنة 1948 على عدة موضوعات تربوية في المقدمة منها موضوع مكافحة الامية، وضرورة تشييد العديد من المدارس. فقد كان نائب بغداد عبد الكريم كنة، اول من طالب وزير المعارف في خطابة الذي القاه بتاريخ 23/9/1948 بالعمل على احتضان الاطفال كل الاطفال في المدارس، وانقاذهم من التسكع في الطرقات، وفي عين الوقت دعا وبحماسة واضحة الى تهيئة الفرص اللازمة لجعل التعليم الزامي، وهي دعوة صادقة ورائدة تستحق الثناء. تسنم نجيب الراوي منصب وزير المعارف في26 حزيران 1948 ولغاية 6 كانون الثاني 1949. وعلى مايبدو أن تفاعل الحكومة مع السياسة التعليمية كان دون المستوى المطلوب مما جعل أطروحات النواب تدور في اطار عاطفي نابع من إحساس حقيقي لحاجة ملموسة يقابلها ردود وتبريرات من قبل الوزارة لا تخرج عن الإطار الإعلامي.
وعلق النائب عبد الرحمن الجليلي على خطاب العرش بهذه الكلمات الواضحات”كنت ارجو لو ان خطاب العرش حوى وعداً ببناء المدارس الى جانب وعده ببناء السجن، لأن المدرسة افضل في الغاية من السجن، واذا انشئنا مجتمعاً مخلصاً متزناً مثلا فلا نحتاج إلى هذه السجون”مؤكداً على ان بناء السجون العصرية في بغداد وترك الاطفال في المدارس غير الصحية او في الطرقات امراً بعيداً جداً عن العدالة.
ومما يحسب للنائب عبد الكريم كنة انه طالب وزارة المعارف بفتح مدارس مسائية لاستيعاب من لا يتمكن من الالتحاق بالمدارس النهارية. بعد ذلك عرج النائب في خطابة على موضوع القبول في المدارس، وذلك عندما قال:”لو كان ديوان وزارة المعارف يعرف ما تحتاجه المدارس في بدء كل سنة لاستطعنا بدراسة بسيطة ان نتلافى هذه المشكلة، بدلاً من ان نرى الاباء يركضون وراء المتنفذين وهولاء يهرعون الى ديوان الوزارة ليحصلوا على بطاقة (كارت) الى مدير المدرسة او مديرة القبول من اجل قبول اولادهم، ثم نبههم بأن التعليم حق للجميع ولكنه اصبح الان حقاً لصاحب الكارت، متسائلاً بألم فهل عملت الوزارة على تلافي ذلك". كما تطرق نائب بغداد لموقف المرحلة العمرية للطالب المراد تسجيله في المدارس الابتدائية والمتوسطة، داعياً الى عدم تحديد سن التعليم في هذه المراحل، لان العراق ليس بغداد فقط، وانما للعراق ريف ولا يستطيع الطفل فيه ترك الحقل وترك مساعدة اهله عند بلوغه السن السابعة، وان ذهنيته لا تتحمل وهو بهكذا عمر ارساله الى المدرسة لذلك نراهم عندما يبلغون سن العاشرة او الثانية عشر لا تستقبلهم المدارس الحكومية فيبحثون عن المدارس الاهلية وهي متواجدة في الريف، وختم خطابه بهذه الكلمات التي عبر فيها النائب عن المام بالموضوع ومشاعر انسانية رائعة عندما قال:”ان العدالة تقتضي قبول هولاء في المدارس الحكومية، ولا سيما وان كثير من التلاميذ هم من الفقراء الذين لا يملكون الاجور الدراسية، فنراهم وبسبب عجزهم المادي يتركون الدراسة، فارجو من وزير المعارف ان لا يعفو البعض من الطلاب وانما يكون الامر عاماً وشاملاً للجميع”.
أبدى في الوقت عينه النائب حسين جميل امتعاضه من سياسة وزارة المعارف بشأن قبول الطلبة الجدد في الاول الابتدائي. فالوزارة لم تتمكن من قبول مواليد سنة 1942 في مدارس بغداد، على الرغم من انهم بلغوا سن الدراسة، وتحول الامتعاض الى استغراب كبير عندما اعلن بأن سبب عدم القبول هو وجود اعداد من الاطفال من المواليد السابقة، موضحاً”ان العذر الذي تقدمت به وزارة المعارف يدل على تقصير واضح من قبل الوزارة لا في الوقت الحاضر فقط، بل في السنين السابقة ايضاً، اذ لم توفر المدارس الكافية لقبولهم”. ثم اشار النائب المذكور الى عملية بناء المدارس الابتدائية التي لم تراعَ فيها الوزارة موضوع قرب المدارس او بعدها عن سكن الطلاب، ففي بعض المناطق لاسيما بغداد يؤكد النائب على ان هنالك محلات عديدة لا توجد فيها مدرسة واحدة، الامر الذي يدفع الاطفال الى الذهاب الى المدارس البعيدة عن سكناهم مما يعرضهم لاخطار مختلفة، منها كثرة السيارات في الشوارع وما يمكن ان يحدث من عمليات دهس، فضلاً عن ما يعانيه الطلبة ايام المطر من متاعب كثيرة ومعاناة قاسية.
ومن جانبه حاول النائب حسن عبد الرحمن ان يقنع وزارة المعارف باتباع سياسة بناء المدارس بطريقة بسيطة، واستخدام ما هو متوفر من مواد اولية محلية، وان تترك كمال الكمال في هذا الوقت. من المفيد ان نتركه يتحدث قائلاً :”اننا في اعمالنا نبغي الكمال، والكمال ليس بالامكان الحصول عليه دائماً, ارى اننا نذهب الى البساطة التي لا ارى فيها اي بأس او مانع في ان نبني المدرسة الاولية والابتدائية من اللبن بدلاً من الطابوق. ان الاهتمام بتكثير المدارس اهم من التأنق في بناياتها، وآمل ان يدرس المهندسون ذو الاختصاص موضوع تشييد البنايات الحكومية من المواد المحلية، اذ لا يوجد اي عائق يعوق ابن القرية في ان يتعلم في الكوخ على ان يكون مشيد بطرق صحية تتخلله الهواء والشمس ومانع للرطوبة ,ان تبسيط الإنشاءات له اثر كبير في تذليل المشكلة المالية".
لم يكن خطاب النائب اسماعيل الغانم اكثر جرأة وصراحة فقط، وانما اصاب كبد الحقيقة فهو اولاً ارجع مشكلات وزارة المعارف إلى الطبقة الحاكمة في البلاد، اذ عدها هي المسؤولة عن تلك المأسي قائلاً:-
“ان امة يعيش (95%) من سكانها في ظلام الجهل والامية، لا يمكن ان يخصص في ميزانيتها (8.8%) من الايراد العام للتعليم، في الوقت الذي يخصص (8%) من الايراد العام للشرطة. وهذا اذا عني شيئاً فأنما يعني اننا في دولة بوليس بحق وحقيقة".ومضى يقول:”وهل يعقل ان يتساوى وزير المعارف ومدير الشرطة في النفقات”بعد ذلك ذكّر المقيمين على التعليم بحقيقة هامة وهي”ان اهداف التعليم يا سادة ليس تلقين المعلومات الجافة، بل هي تنمية للروح وتثقيف للذهن وتنشئة للبدن تنشئة صالحة”واضاف قائلاً:”لقد اصبح الشعب يتحسس بلزوم التزود من المعارف والعلوم. اتذكر اننا كنا اطفالاً عام 1921وكان المختارون يأخذوننا قسراً من بيوتنا الى المدارس والان الحال انعكس الاب يأخذ طفله والام تأخذ طفلتها الى ابواب المدارس، ويرجعان وقد اغرورقت محاجرهما بالدموع لانهما لم يجدا مكاناً في المدرسة، هذا التطور سببه انتشار الوعي وشعور الناس بحاجتهم إلى المعرفة”واضاف قائلاً:”يؤسفني ان اقول ان وزارة المعارف لم تقم بمهامها على الوجه الاكمل، لا بل لم تنجز حتى ولا (10%) من واجباتها بهذا الشأن”.
لم يكتف النائب اسماعيل الغانم بذلك فقط وانما، ضمن خطابه ملاحظات مهمة عن نسبة المعلمين التي ازدادت، بالمقابل زادت نسبة الطلاب التي تضاعفت عشرات المرات، متسائلاً هل هذا هو الطموح. ثم يذكر المسؤولين ان تركيا استطاعت محو الامية في خمس سنوات، وجارتنا ايران ترسل ما لا يقل عن (500) الى اوربا وغيرها. واما نحن فقد اكتفينا بنشر التعليم الريفي على اسس مغلوطة غير علمية، مستغرباً من فتح كلية الحقوق على مصراعيها، حتى بلغ عدد طلابها اربعة الاف طالب لا يجدون لهم عملاً عند تخرجهم. وفي ختام خطابه حذر من سلوك بعض اصحاب الاختصاص المتأثرين بالثقافة البريطانية، على العملية التربوية اذ قام هؤلاء بتنظيم رحلات ترفيهية للطلبة الى معسكرات الجيش البريطاني،واسترسل في خطابه قائلاً:”لو كنا ايها السادة دولة مالكة حريتها وتحترم نفسها لجيئ بالمسؤولين وحوسبوا حساباً عسيراً على ما اقترفوه. معتبراً هذه الاعمال ليست الا تدميراً للروح الوطنية،وان واجب وزارة المعارف انشاء جيل وطني لا ان تعلمه على التجسس للاجنبي والارتماء في احضانه”.
اما فيما يخص مكافحة الامية فأن اروقة مجلس النواب شهدت افكار ومقترحات جديرة بالوقوف امامها. فقد لاحظ نائب البصرة عبد الرزاق الحمود تناقضاً واضحاً فيما تقوله وتدعوا له وزارة المعارف في مكافحة الامية وبين قيامها بتخفيض الاعتمادات الخاصة بمحو الامية من (12) الى (10) الاف دينار.
اما النائب عبد الكريم كنة فقد اقترح على وزارة المعارف تشريع قانون يلزم فيه خريجي الثانويات بتعليم عدد معين من ابناء الشعب، وبعد ان يؤدي الطلاب الاميون الامتحان وينجحوا، يمنح هؤلاء شهادة الثانوية. ان هذه الطريقة في محو الامية تؤدي الى توفير كبير في النفقات التي تدفعها وزارة المعارف للمدرسين، اذ ستكون ضئيلة جداً، فضلاً عن انها لا تحتاج الى نفقات اخرى تصرف على الاثاث والابنية، كون التعليم سيكون في ذات المدارس، اي ان الدوام يصبح مرتين او ثلاث مرات في اليوم. وبعد ذلك لفت النائب المذكور انظار المسؤولين في وزارة المعارف الى ان منعها من ارسال الأولاد الى رياض الاطفال الاجنبية لا يكفي، وانما الحل يكمن في قيام الوزارة المذكورة برفع مستوى التعليم في المدارس الحكومية اذ ان هذا هو الذي سيقطع الطريق على من يرسلون ابناءهم إلى المدارس الاجنبية ومن يخالف هذا الامر يجري التحقيق معه لينال جزاءه العادل.
كما اقترب النائب عبد الرحمن الجليلي من موضوع مكافحة الامية، منتقداً سياسة وزارة المعارف التي وصفها بالمتناقضة، ففي الوقت الذي نرى في خطاب العرش وعداً بتقديم لائحة مكافحة الامية، وجدنا احصائيات المدارس الابتدائية تقول ان (20%) من المتقدمين اليها من الاطفال تم قبولهم. اما الباقي فقد تركتهم الوزارة في الطرقات، ثم يتساءَل بألم واضح، اليس طرد الاطفال عوناً على نشر الامية، فكيف نوفق بين الاثنين، بين مكافحة الامية وطرد هولاء ثم اورد حقيقة مؤلمة وهي ان مجموع ما تخرج من المدارس الابتدائية منذ تأسيسها حتى ذلك الوقت (1948) هو (40) الف طالب فقط، مما يوضح بصورة جلية حجم الامية الموجودة في البلاد.
وخاض نائب بغداد خدوري خدوري في الموضوع نفسه ولكن من زاوية اخرى وذلك عندما اشار الى ما اسماه التخبط الحكومي الحاصل في الواقع التربوي. ففي الوقت الذي تريد فيه الحكومة النهوض بواقع التعليم العالي وتثقيف المجتمع بارسالها لائحة قانون الجامعة العراقية، وقانون مكافحة الامية، نجد كثير من المدارس العالمية تفتقر الى الاساتذة، وكثير من المدارس الابتدائية والثانوية تفتقر الى المعلمين، بحيث تم اغلاق المدارس لهذا السبب، مما يؤدي الى انتشار الامية بشكل كبير.
اعتبر النائب مجبل الوكاع نشر التعليم الاجباري هو ركيزة الاصلاح الاجتماعي، فضلاً عن العمل على تثقيف طبقات الشعب والقضاء على الامية وتهذيب سكان الارياف. و لا يتم ذلك برأي النائب المذكور الا من خلال قيام الحكومات المتعاقبة بارسال فرق تعليمية ثقافية الى الارياف النائية، من اجل تعميم الثقافة الاجتماعية، وتحسين قابلية السكان لكي يصبحوا مستعدين لتلقي كل نصيحة تقيهم من الجهل الذي هو اساس كل خطيئة.

من بحث طويل قدمه الباحث الى ملحقنا مشكورا