في ذكرى ثورة 14 تموز 1958.. محاولات الكشف التي تعرض لها تنظيم الضباط الأحرار

في ذكرى ثورة 14 تموز 1958.. محاولات الكشف التي تعرض لها تنظيم الضباط الأحرار

صلاح خلف الغريري
تعرض تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بثورة 14 تموز 1958 لظروف كادت تكشفه أمام السلطة وتؤدي به الى الانهيار. وفيما يأتي أهم هذه المحاولات :

- المحاولة الأولى : اجتماع الكاظمية عام 1956 :
في صيف عام 1956 عقد اجتماع في منزل المحامي صفاء العارف في الكاظمية حضره كل من المقدم رفعت الحاج سري والعقيد الركن عبد الوهاب الأمين والمقدم الركن إسماعيل العارف،شقيق صاحب الدار والمقدم صالح عبد المجيد السامرائي،

لم تجر في هذا الاجتماع أي مناقشة هامة وأنما تبادل لوجهات النظر واستعراض للوضع العام في البلاد.
وفي اليوم التالي وصل خبر الاجتماع الى رئيس أركان الجيش الفريق الركن رفيق عارف فقام على أثره بأجراء التحقيق مع المجتمعين وأقتنع بأن الاجتماع ليس مهما وأن الحديث الذي دار فيه كان حديثا عابرا ليس فيه تأكيد على وجود تنظيم سري للضباط ضد السلطات الحاكمة، ولكنه أمر بنقل كل من المقدم رفعت الحاج سري الى منصب ضباط التجنيد في قلعة صالح ونقل المقدم إسماعيل العارف الى منصب ملحق عسكري في واشنطن ونقل المقدم صالح عبد المجيد السامرائي الى منصب ملحق عسكري في عمان، وكان الوحيد الذي لم يشمله النقل هو العقيد الركن عبد الوهاب الأمين الذي بقي في منصبه كرئيس لشعبة الحركات العسكرية في وزارة الدفاع.
دارت شكوك واتهامات كثيرة حول الشخص الذي قام بإيصال خبر الاجتماع الى السلطات الحاكمة فتوجهت اتهامات نحو المقدم إسماعيل العارف والمقدم صالح عبد المجيد لأنهما نقلا الى مراكز مرموقة وكذلك توجهت اتهامات أخرى نحو العقيد الركن عبد الوهاب الأمين لأنه بقي في منصبه وظل الشخص الذي قام بتلك الوشاية مجهولا.
ولكن بعد نجاح ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 بدأت الأمور تنكشف أذا أرسل المقدم إسماعيل العارف برقية الى وزارة الدفاع العراقية يطلب فيها استدعائه الى بغداد لإجراء التحقيق معه حول ما أشيع عن وشايته بتنظيم الضباط الأحرار، وقد قام معاونه الرئيس الركن صالح مهدي عماش بإرسال تلك البرقية الى بغداد. أما عبد الوهاب الأمين فقد استمرت الشكوك ضده ولا سيما أنه في صباح 14 تموز عام 1958 سأل بعض الضباط الأحرار الفريق الركن رفيق العارف، عندما كان في المعتقل، عن الشخص الذي أخبره عن الاجتماع فأجابهم بأن عبد الوهاب الأمين هو الشخص الواشي ومما يؤكد هذا الأمر أنه بعد نجاح انقلاب الثامن من شباط عام 1963 أمر وزير الدفاع الفريق الركن صالح مهدي عماش بأجراء تحقيقا كاملا في الموضوع وقد تولى مهمة التحقيق عميد الشرطة فهمي القيماقجي وقد تبين من شهادة وفيق عارف، شقيق رفيق عارف، أن أخاه قد أخبره بأن عبد الوهاب الأمين هو الشخص الذي أوصل خبر الاجتماع.

- المحاولة الثانية حادثة نعمان ماهر الكنعاني في عام 1957 :
في نيسان عام 1957 قام علي حيدر الركابي، وهو سوري الجنسية ومكلف من قبل الأمير عبد الإله للتجسس على الضباط العراقيين، بدعوة المقدم نعمان ماهر الكنعاني والمقدم شكيب الفضلي لتناول العشاء في داره وقد قام الأمير عبد الإله وعلي حيدر الركابي بنصب جهاز التسجيل في تلك الدار وعند حضور نعمان ماهر وشكيب الفضلي كان الأميرعبدالإله يسترق السمع وهو واقف في الأيوان الخارجي غير أن نعمان ماهر وشكيب الفضلي لم يذكرا شيئا مهما عن التنظيم أو عن أسماء المشتركين به.
وفي اليوم التالي ألقي القبض على المقدمين وبدأ التحقيق معهما في مديرية الاستخبارات العسكرية واستغرق التحقيق نحو أربع وعشرين ساعة لكنهما لم يبوحا بشيء مهم وذلك بفضل الرئيس الركن صالح مهدي عماش الذي كان ضابطا في مديرية الاستخبارات العسكرية أذقام بتنسيق الافادات بين الضابطين بما لا يؤدي الى اعترافهما ولا يظن أحدهما بأن صديقه قد اعترف عليه، ومما ساعد الضابطين أيضا أن التسجيل كان مشوش وغير واضح لذلك لم يتوصل التحقيق الى أي نتيجة. ولكن السلطات أمرت بإحالة المقدم نعمان ماهر على التقاعد وذلك في الثامن عشر من نيسان عام 1957 ونقلت المقدم شكيب الفضلي الى منصب ضابط تجنيد في أحد أقضية السليمانية.

في خريف عام 1957 قامت الفرقة الأولى في الحبانية بمناورات عسكرية حضرها الملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله وكانا يشاهدنها على منصة مرتفعة، فسقطت قنبلة على مقربة من المنصة التي يقفون عليها فغضب قائد الفرقة وعد الحادث مدبرا يستهدف المسؤولين وإفشال التمرين فطالب بإجراء تحقيق لمعرفة أسباب الحادث وبالفعل تم التحقيق ولكنه لم يتوصل الى شيء لأن الضباط الأحرار كانوا يشرفون عليه.
فضلاً عن هذه المحاولات التي كادت أن تكشف تنظيم الضباط الأحرار كانت هناك تحذيرات وصلت الى البلاط الملكي كادت أن تكشف التنظيم أيضا أذ بينت أن هناك تنظيم في الجيش يسعى الى قلب نظام الحكم لكن هذه التحذيرات لم تأخذ على محمل الجد من جانب البلاط الملكي ورجالاته.
وكان من جملة هذه التحذيرات ما نقله بهجت العطية مدير الأمن العام من معلومات الى الأمير عبد الإله أذ كانت تصل لدى بهجت العطية مجموعة من التقارير تتناول تحركات ضباط الجيش فيرفعها الى الوصي عبد الإله الذي كان ينقلها بدوره الى رئيس أركان الجيش رفيق عارف الذي يعمل على تكذيبها ويتهم بهجت العطية بالتجسس والدس على الجيش. ألا أن العطية تلقى في أوائل حزيران عام 1958 معلومات موثقة عن خطة يديرها الضابط الأحرار مقرونة بتفاصيل عن أسمائهم لكنه لم يقدمها للوصي وأنما قدمها الى وزير الداخلية سعيد قزاز الذي أوصلها الى الوصي فأثار ذلك غضبه فقام باستدعاء العطية الى القصر ومنعه من التدخل بشؤون الجيش.

ويذكر توفيق السويدي في مذكراته أن بهجت العطية قدم تقريرا الى رئيس الوزراء آنذاك احمد مختار بابان قبل ثلاثة أو أربعة أيام من قيام الثورة يتضمن أسماء بعض الضباط الذين يخططون للقيام بانقلاب عسكري في هذه الأيام. فقدم وزير الداخلية هذا التقرير الى رئيس أركان الجيش رفيق عارف الذي كعادته كذب هذا التقرير ولم يصدقه غير أن كل ما ورد عن توفر معلومات لدى مدير الأمن العام بهجت العطية عن خطط الضباط الأحرار وأسمائهم وتحركاتهم وعن موقف رئيس أركان الجيش من هذه المعلومات فيه كثير من الشك ومما يؤيد ذلك هما الكتابان اللذان نشرهما جعفر عباس حميدي أذكان الكتاب الأول مرسل من قبل الاستخبارات العسكرية الى مديرية الأمن العامة في (5/ 7/ 1958)، والثاني جواب من مديرية الأمن العامة الذي طبع في (13/ 7/ 1958) أي قبل الثورة بيوم واحد، ولكنه لم يوقع ولم يرسل بسبب قيام الثورة ومن قراءة هذين الكتابين يمكن الاستنتاج أن الاستخبارات العسكرية ومديرية الأمن العامة ومديرها بهجت العطية لم تتوفر لديهم معلومات دقيقة عن الثورة وعن قادتها من الضباط الأحرار وكذلك أن ما يؤيد الشك أيضا هو أن الوصي لا يمكن أن يرفض معلومات مقدمة من مدير الأمن العام ومن مديرية الاستخبارات العسكرية ولا سيما وأنه قد جند مختلف الأشخاص من مدنيين وعسكريين للتجسس على ضباط الجيش.
وهكذا فأذا كان هناك شك في التحذيرات الداخلية التي وصلت الى الوصي والملك فيصل الثاني، فأن التحذيرات الخارجية التي وصلت أليهما ربما تكون خالية من ذلك وكان من أوائل هذه التحذيرات هو اتصال الملك حسين ملك المملكة الأردنية بالملك فيصل واخبره أنه حصل على معلومات من أحد الأشخاص الذين تم اعتقالهم بتهمة التآمر على النظام في المملكة الأردنية، تفيد بأن هناك جماعة في الجيش العراقي تعمل للإطاحة بالنظام الملكي العراقي وطلب الملك حسين من الملك فيصل أن يرسل له أحد الأشخاص المهمين واللذين يثق بهم الى الأردن لكي يطلعه على تفاصيل الخطة فأرسل له الملك فيصل الثاني في يوم 11 تموز 1958 الفريق الركن رفيق عارف رئيس أركان الجيش فقام الملك حسين بإطلاع رفيق عارف عن المعلومات غير أنه لم يكترث وبين أن الجيش العراقي جيش قائم على أسس متينة وأنه أفضل جيش في الشرق الأوسط.
فضلاً عن الى هذا التحذير كان هناك تحذير خارجي آخر قام به نذير فنصة. وهو سوري الجنسية ويعمل موظف في الحكومة الإيرانية أذ يذكر أنه في تموز عام 1958 وقبل أسبوع من سقوط النظام الملكي في العراق تم استدعائه من قبل رئيس المخابرات الإيرانية (السافاك) الجنرال تيمور بختيار وطلب منه أن يسافر الى استانبول ويلتقي بالأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق الذي كان يقضي عطلته هناك ويطلب منه أن يرسل الى الملك فيصل الثاني ويدعوه الى الحضور الى استانبول وعدم العودة الى بغداد لأن هناك المعلومات كانت قد توفرت لدى المخابرات الإيرانية تفيد بأن انقلابا سوف يحدث في العراق، فالتقى نذير فنصه بالأمير عبد الإله وأخبره برسالة رئيس المخابرات الإيرانية لكن الأمير عبد الإله كان متصلبا في موقفه وأخبره بأن الإيرانيين يجب أن يعتنوا بشؤونهم ولا يتدخلوا في شؤون العراق.
ومن هذا كله يمكن الاستنتاج بأن الأمير عبد الإله كانت تصله معلومات وتقارير من مصادر داخلية كمديرية الاستخبارات العسكرية ومدير الأمن العام بهجت العطية أو من مصادر خارجية كالمخابرات الإيرانية أو الملك حسين ولكن جميع هذه المعلومات كانت غير دقيقة ومشوشة ولا توفر دليلا ماديا تمكن عبد الإله من الاعتماد عليه في القضاء على الضباط الأحرار كما فعل مع قادة الثورة العراقية عام 1941 عندما أعدمهم جميعا دون أي تردد.
كذلك أن الأمير عبد الإله أعتمد في معالجة التقارير التي تصله على رئيس أركان الجيش رفيق عارف وعلى رئيس الوزراء نوري سعيد اللذين خذلاه لأنهما كانا يظنان بأنهما يسيطران على الجيش بصورة كلية وأن الضباط من صغار الرتب لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا.
وهذا ويمكن استنتاج شيء مهم آخر هو أن الأمير عبد الإله كان يظن أن لو هناك تنظيم في الجيش يستهدف الإطاحة بالحكم لكانت أخبرته بذلك حليفته السياسية بريطانيا ومخابراتها فهي في نظره أفضل من المخابرات العراقية والإيرانية ولو أن هناك شيئاً من هذا القبيل لأخبرته به لكن بريطانيا لم تفعل ذلك لأنها ربما لم تكن تعلم بتلك الحركة، كما ذكر مؤيد إبراهيم الونداوي أذ ذكر (أن بريطانيا تفاجأت بإعلان الثورة فسارع السفير البريطاني الى الإبراق الى حكومته في الساعة 7.30 من صباح 14 تموز لأعلامها بوقوع الثورة).
وهكذا يمكن القول بأن الظروف والسرية التي اتبعها الضباط الأحرار ساعدت على عدم كشف تنظيمهم ومكنتهم من تنفيذ الثورة.
لقد سئم الضباط الأحرار من طول الانتظار وكثرة التأجيل وبدأت الخلافات تظهر وبدأ التذمر يزداد بين الضباط ولا سيما الشباب , فقرروا تأليف هيئة جديدة تأخذ على عاتقها مهمة الإطاحة بالنظام الملكي , ولذلك اجتمع عدد من الضباط الأحرار في أوائل كانون الثاني عام 1958 في منزل الرائد كامل الشماع وهناك تم تكوين هذه الهيأة التي ضمت كل من العقيد الركن عبد الوهاب الشواف والمقدم رفعت الحاج سري والمقدم وصفي طاهر والمقدم نعمان ماهر الكنعاني والرائد كامل الشماع فضلاً عن ضباط آخرين وقررت هذه الهيأة القيام بالحركة وإعلان الثورة عند مرور أي قطعات ببغداد ويقودها الضباط الأحرار.
وجاءت الفرصة الملائمة بخبر مرور اللواء الخامس عشر الذي آمره الزعيم أحمد محمد يحيى ببغداد في طريقه الى مقره في البصرة بعد مشاركته مع بقية قطعات الفرقة الأولى في تمرين في قاعدة الحبانية، وكان العقيد عبد الغني الراوي وهو من الضباط الأحرار، يشغل منصب رئيس ركن هذا اللواء، فاجتمع العقيد الركن عبد الوهاب الشواف والمقدم رفعت الحاج سري وقرروا استغلال هذه الفرصة فاتصلوا بالعقيد عبد الغني الراوي واتفقوا معه على القيام بالثورة ووعد العقيد عبد الغني الراوي بأنه سوف يشرك جميع اللواء بالحركة نظرا لسيطرته عليه ولتطعيمه بالضباط الأحرار الذين سوف يجتمعون في أبي غريب من مختلف الوحدات العسكرية في العراق لاشراكهم بالثورة، بعد ذلك كلف المقدم نعمان ماهر الكنعاني بأعداد البيانات اللازمة للثورة وكذلك تم تحديد ليلة 11 مايس موعدا للحركة أذ يكون الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله ونوري سعيد في اجتماعات مستمرة في قصر الزهور مع أمير الكويت الذي جاء لزيارة العراق في ذلك اليوم.

وفي مساء يوم 11 مايس اجتمع في معسكر أبي غريب ما يقارب المائة ضابط منتظرين ساعة الصفر فزارهم العقيد عبد الوهاب الشواف وتفقدهم ثم غادر الى معسكر اللواء الخامس عشر ليتفقد استعدادات اللواء فتفاجأ بأن اللواء غير مستعد وأن معظم ضباطه كانوا قد تركوا المعسكر ولم يبق فيه ألا العقيد عبد الغني الراوي، وكذلك لأن الأوامر صدرت بعدم عسكرة اللواء في بغداد وأنما ينتشر بين الفلوجة والرمادي ومن ثم ينقل بالقطار الى البصرة ولذلك لا يستطيع العقيد عبد الغني الراوي تحريك فوجه للسيطرة على بغداد فتأجلت الحركة وغادر الشواف الى معسكر أبي غريب وأمر الضباط المجتمعين بالانصراف وارسل ضابطا الى معسكر المنصور لأخبار الزعيم عبد الكريم قاسم بالتأجيل وكذلك تطوع العقيد عبد الغني الراوي بالذهاب الى معسكر الرستمية لأخبار الضباط المجتمعين فيه بالتأجيل.
ومن الغريب أن الدوائر الأمنية لم تعلم شيئا عن هذا التجمع الكبير للضباط في معسكر أبي غريب، وفي اليوم التالي اجتمعت اللجنة العليا وناقشت محاولة التنفيذ دون موافقتها واشتراك قسم من اعضائها في هذه المحاولة ولهذا اتخذت عدة قرارات من ضمنها تعيين العقيد عبد الوهاب الشواف عضوا في اللجنة العليا، وقد أثبتت حركة 11 نيسان عام 1958 للضباط الأحرار الحقائق الآتية :
1. أن حذر ويقظة دوائر الأمن والاستخبارات لا وجود لها وأن النجاح مضمون لأية حركة في المستقبل.
2. أن اندفاع الضباط الصغار الرتب كان اندفاعا حقيقيا وأن عددهم في بغداد كبير، وهم مستعدون للثورة.
3. لا يمكن نجاح أي حركة انفرادية لذلك يجب أن تتكتل كل القوى وتعمل ضمن كتلة واحدة.

عن رسالة (دور ضباط الجيش
في التطورات السياسية في العراق)