فولتير.. عقل الثورة الفرنسية

فولتير.. عقل الثورة الفرنسية

د. رضا العطار
يحكى عن لويس السادس عشر ملك فرنسا ايام الثورة الفرنسية انه أطل من نافذة سجنه في باريس , فوجد الشعب حاملا نعش فولتير الذي نقلوه من قبره الوضيع, يريدون دفنه في ضريح العظماء، في احتفال مهيب. فقال الملك المخلوع, وهو يشير الى النعش : (كل ما انا فيه من المصائب جاءني من هذا الرجل).

وكان لويس صادقا في هذا القول. حيث ان الثورة الفرنسية وهي أجل عمل انساني سجلت فيه حقوق الانسان في فرنسا اول مرة, كانت مصيبة على ملوك اوربا جميعهم. لانها فتحت عهدا جديدا للحكم الجمهوري. ما كان كل هذا ليحدث لولا الطائفة النيرة من الادباء الفرنسيين كان فولتير في مقدمتهم.
لقد وجدوا في مذكرات فولتير بعد موته هذه العبارة : (اذا لم يكن لي صولجان؟ لكن
اليس لي قلم؟) وقد حق لفولتير ان يفاخر بقلمه كما يتفاخر الملك بصولجانه لآنه اذا كان للملك دولة فلفولتير كانت دول, واذا كان لكل ملك شعب, فلفولتير كانت شعوب من رجال الفكر والادب في العالم اجمع - - اذا كان الملوك يتفاضلون بالآثر الطيب الذي يتركونه, فأي ملك استطاع ان يؤثر في عقول الناس بمقدار ما أثر فيها فولتير؟

اجل ان هناك ملوكية لا تتبوأ العرش المذهب وتعقد على الرأس الآكليل المرصع، تلك الملوكية التي صيرت العالم بسعة الثقافة التي يشرف صاحبها ماضيا ومستقبلا يرسم له مثله العليا ويجه خطاه نحوها, فقادة العالم الحقيقيون هم فلاسفته وعلمائه وادبائه يرسلون الينا افكارهم النيرة عبر القرون فنسمع لهم ونأتمر بأمرهم.
وفولتير واحدا من هؤلاء الملوك تناول صولجانه فألف به نحو سبعين كتابا كلها في الدفاع عن رجال الفكر وعن المحرومين في وطنه الذي ولد فيه عام 1694. ولقد كتب في التاريخ والادب والسياسة. وارصد قلمه وكل قواه الجسمية و ما يملك في العالم في سبيل اثبات حق كل انسان في الحرية الفكرية والى مكافحة الظلم والتعصب والغباء.

والعجب في فولتير هذا انه حارب الكنيسة الكاثوليكية وهدم سلطانها الجائر الذي كان مسيطرا على الاحرار وهو شديد الايمان بالله. بل لعل ذلك لم يكن عجيبا, ولم يكن ايمانه ايمانا فلسفيا بل كان ايمان حقيقيا. وفي زمنه كانت اوربا الشمالية قد تحررت من قيود التعصب وخفت فيها وطأة الاضطهاد. و حينها زار فولتير انجلترا ورأى فيها من التسامح غير ما يرى في فرنسا. فقد تاثر بالحكم الدستوري البريطاني وبدأ يفكر بنظرية المصلحة الوطنية حين قال: (ان على الحكومة الفرنسية ان ترعى الصالح العام وتسهر عليه وهذه الرعاية هي وحدها شرط الشرعية للحكومة). معنى ان الحكومة الشرعية تضمن للانسان الحرية والامان على النفس والمال. كما اجتمع مع فردريك الثاني في المانيا فرأى فيه ملكا متسامحا يرعى شعبه ولا يبالي بأي دين يؤمن به، فعزم في وقته على محو التعصب من فرنسا. ولو ان الحكام في فرنسا كانوا تنبهوا حينها الى قيمة هذه الدعوة وعملوا بها لتفادوا بلا شك نيران وضحايا الثورة الفرنسية.

لقد آمن فولتير بالتقدم واعترف ان الجديرين في المجتمع هم الذين اخترعوا المحراث ومنشار النجار وفأس الحداد. فبدأ يؤمن بالتاريخ القائم على العقل والتدبيرلمصلحة الناس اجمعين. كان برنامجه السياسي ان يؤلف الكتب في مكافحة التعصب ويهيئ وسائل الدفاع للمنكوبين الذين يحاكمون من اجل عقائدهم. ونحن هنا نقتصر برنامجه على الجزء الاول ونذكر بعض المقتطفات من اقواله, فقد ورد في كتاب (قبر التعصب)
(ان من يتلقن دينه بلا فحص يكون كالثور يتقبل القهر بلا معارضة)..
ويقول في كتابه – التسامح –
(لا يحتاج المرء الى براعة نادرة لكي يبرهن على لزوم التسامح بين المسيحيين وبين جميع الناس على السواء. فأنا اعتبر اليهودي والمسلم والبوذي او الصيني اوالتركي اخا لي السنا كلنا خلائق رب واحد؟.
وارضنا التي نعيش عليها ليست سوى نقطة في الفضاء اللامتناهية والانسان الذي يبلغ طوله خمسة اقدام انما هو شئ تافه بالنسبة الى هذا الكون العظيم)

فالمؤرخون يعتبرون فولتيرمحطم الخرافات, وفي زمانه تغير تاريخ اوربا, اذ نقل هذه القارة من التعصب الى التسامح ومن التقييد الى التحرير, وغرس بذلك شجرة الديمقراطية وحمل على الغيبيات والعقائد الضارة فحطمها و بسط الافاق لحكم العقول فظهرت الحكومات المدنية في عصره اول مرة في التاريخ الانساني.

كان فولتير يمثل الطبقة الجديدة البازغة، طبقة الصناعيين والتجار الذين شرعوا يأخذون مكان النبلاء الاقطاعيين في المجتمع الاوربي ومن هنا كان احساسه بضرورة الحرية واحترام الكرامة البشرية عميقا لآن هؤلاء كانوا يستعبدون الفلاحين.
وعاش فولتير طوال عمره وفي نفسه حزازة ضدهم فقد سجن انتقاما لبضعة ابيات من الشعر نظمها بحق اقطاعي عرف بمعاملته اللانسانية مع القطاعات الواسعة من الفلاحين المقهورين الفقراء , فلما خرج من السجن بدأ يدعو الى الغاء نظام الاقطاع.
ورغم تفتحه الفكري والعقلي فان ذلك لم يدر بخلده ما كان يفكر به رجال الثورة الفرنسية انذك للتخلص من اسرة آل بورن الملكية التي كانت تحكم بنظرية التفويض الالهي (الدولة انا) كما كان يرددها لويس الخامس والسادس عشر، وكانت خاتمتها مقصلة باريس.

لكن القدر الحقيقي لفولتير تجلى في كفاحه ضد معقلين رئيسيين للاستبداد : الملكية الفاسدة والمؤسسة الدينية. واسوأ ما تصاب به الأمة ان يتعاضد هذان المعقلان مع بعضهما بحيث يستند الدين الى قوة البوليس ويستند الحكم الى اساطيرالدين. فهنا وقف فولتير كالطود الشامخ يدفع عن حرية وكرامة الانسان، من هنا وضعه التاريخ في مرتبة الكبار.

فقد صدر عام 1757 قانون بأعدام الادباء الذين يهاجمون الدين، لكن واضعوا هذا القانون احسوا بالآخطار التي تستهدفهم اذا ما جرؤا على تنفيذه فجمدوه, لكن مع ذلك استمر احراق كتبهم. وفي هذا المجال يؤكد كاتب السطور، بأن الصراعات الدينية في العالم قد هدمت من الحضارة الانسانية اضعاف ما هدمت الكوارث الطبيعية من الفيضانات و الزلازل والبراكين التي حدثت في الماضي عبر التاريخ البشري.

لقد استطاع فولتير ان يصدر العشرات من الرسائل الحرة بأسماء مستعارة كي ينجو من ملاحقة الجبابرة وكان في هذه الرسائل يحطم الاساطير ويحمل على الطغيان الحكومي والكنسي. وقد لقي فولتير مقاومة عنيفة في دعوته الى الحرية وخاصة حرية العقيدة لان الكنيسة الكاثوليكية كانت تحرض الحكومة الفرنسية على ايذاء غير الكاثوليك.
والتجأ فولتير اخيرا الى اسلوب المراوغة في سبيل ان يرصد كل حياته للكفاح ضد الآضطهاد الديني والسياسي, فأشترى قطعة ارض في سويسرا و اخرى في فرنسا. وكانت هاتين القطعتين متجاورتين. وذلك تحسبا للمطاردة من احدى الحكومتين. السويسرية والفرنسية بحيث يستطيع الفرار الى فرنسا اذ وجد الحملة عليه من الاولى او الى سويسرا اذا وجد الحملة عليه من الثانية.

وعاش على هذه الحالة السنين الطويلة كي يؤدي رسالته وهي صيانة الحرية من الوحوش الادميين الذين كانوا يكرهون من لا يؤمن بعقيدتهم.
وقد كان في باريس مجلس يدعى بالبرلمان لكنه لم يكن يمثل الشعب لان اعضاءه كانوا يعينون من السلطة الاستبدادية. وقد قام هذا (البرلمان) بحرق قصيدة فولتير الثورية. وبعدها كتب فولتير المعجم الفلسفي منعت الحكومة الفرنسية بأشارة من الكنيسة تداوله وحكم على مؤلفه بالكفر.
رحل فولتير قبل اندلاع الثورة الفرنسية بعشرة اعوام. وقد قدرت فرنسا مكانة الرجل حق قدرها فنقلت رفاته الى مقبرة العظماء في العاصمة باريس الخاصة لعظمائها.