مقالات عن الموسيقى الحديثة.. رؤية الناقد التي لا تقبل التسوية

مقالات عن الموسيقى الحديثة.. رؤية الناقد التي لا تقبل التسوية

ترجمة : عباس المفرجي
يا لها من أيام حين كان النقد مهماً، ومهماً، حقاً، للفنانين بأن يكونوا منقودين. على سبيل المثال، كان لأدورنو بعض الكلمات القاسية التي قالها بحق سترافنسكي، ونتيجة لذلك كتب شوينبرغ الى الناقد أتش أتش شتوكنشميدت: (إنه شيء مقرف... الطريقة التي عامل بها سترافنسكي أنا، بلا شك، لست من المعجبين بسترافنسكي، رغم اني أحب له كثيراً قِطعاً هنا وهناك ــ لكن لا ينبغي على أحد الكتابة عنه على هذا النحو).

من المحتمل أيضاً أن سيبليوس دمّر جزئياً سمفونياته الثماني لأنه كان قرأ أو سمع عن هجوم هدّام عليه بشكل خاص من قبل أدورنو (أرى أن هذا صعب على التصديق).
لكن المسألة هي أن أدورنو كان مسموعاً، ملاحظته التي يعرفها الكثير من الناس ــ بأنه بعد الهولوكست لا يمكن أن يكون هناك شعر ــ يُستشهَد بها هذه الأيام مثالاً عن كم يمكن للمفكر أن يكون مخطئاً حول شيء ما، لكن هذا شرود عن مغزى الكلام: كان أدورنو حسّاساً بشكل لا يُصدَق لفكرة الأخلاق في الفن، كيف أن التلاعب بالعواطف من خلال الموسيقى الرخيصة، أو الفن الرخيص، أو حتى الدعاية لفن عظيم، يمكن أن يقود الى بربرية النازية، وإذعان عامة الناس.
في الواقع، كتب ادورنو حول كل شيء، لكن ما كتب عنه أكثر كان الموسيقى. كان يعرف عمّا يتحدث : كان يعلل نفسه بأمل ممكن التحقيق في التأليف الموسيقى، وأن يتعلم على يد ألبان برغ. حين احتاج توماس مان، في المنفى، الى أن يكون لديه مؤلف موسيقي سريالي في”دكتور فاوست"، فإنه استعان بأدورنو، ومساهمته في الكتاب لا تقدّر بثمن. شوينبرغ، المنفي هو الآخر على بعد بضعة أميال وفي نفس الوقت، ظلّ مستاءً بشكل جدّي لسنوات لأنه لم يُطلب منه ذلك ــ شيء لا يُفهَم، بما أنه هو من اخترع الموسيقى التي لا تخضع للسلالم الموسيقية المعروفة في مؤلف مان. لكن كان هناك شيء ذا قيمة يمكن أن يسهم به أدورنو، لايمكن لشوينبرغ أن يفعله. وكما عبّر جورج شتاينر عن ذلك، (ما ساهم به أدورنو [ في”دكتور فاوست”] لم يكن فقط صفات تقنية حادة للعمليات التأليفية والآلاتية، بل هو ايضاً إدراكه الحسّي الجذري بما يعني تأليف موسيقى تحت ضغط التاريخ الموسيقي السابق والأزمة الاجتماعية).
بالطبع، في بلدنا هذا، نحن نقاوم على أوسع مدى المثاليات، لا فقط في النقد الأعلى ــ لا، عندما تأخذ بعين الاعتبار أن بعض الهراء الذي يُبَث علينا، والذي يتسلل أحياناً من الأكاديميات، هوشيء رديء ــ بل في فكرة الموسيقى التي لاتخضع للسلالم، أو موسيقى الـ 12 نغمة، التي يقارب عمرها الآن القرن (اتساءل متى حدث آخر مرّة أن عزف واحد من جماعة الدِسك جوكي [ الشخص الذي يعزف موسيقى شهيرة في الراديو ] في راديو 3 عملا من هذا النوع. أنا لا أحصي إذاعة الكونشرتات. ومتى أذاعت المحطة آخر مرّة عملاً لزيملنسكي. واحد من المؤلفين الموسيقيين الذي كُتِب عنه في هذا الكتاب؟ وهو حتى لم يكن سريالياً). وهذه الشكوكية هي حقا شيء سيئ، مساهم صغير إنما مميّز في هذه الفوضى التي نحن فيها الآن. ذهن واعٍ بالفوارق الدقيقة، مثل ذهن أدورنو، يكتشف ويقيم حاجزاً امام الهراء الكاذب لساستنا في كل مرة يفتحون فيها ألسنتهم المعسولة. كما قال هو يوماً في مكان آخر: ((إنه يبدأ مع فقدان علامة الوقف [ ؛ ]، وينتهي مع الإقرار بالبلاهة عبْر حصافة تزيل كل الخليط)) وهو السبب أنه في عالم معقول وعادل سيتجشم أحدهم عناء الذهاب كل يوم الى مكتب فيرسو [ الدار الناشرة للكتاب ] في لندن دبليو وان، وينثر الزهور على العاملين فيه، لأنهم ببساطة ناشرو أدورنو.
من بعض النواحي إنه لا يهم كثيراً من أيّ من كتبه ستحصل على”مينيما موراليا”[ الحد الأدنى من الخلاق ]، التي هي واسعة المدى، لكن”كوزي اونا فانتازيّا”[ شبه فانطازيا – بالايطالية ] هو الكتاب الأكثر نفعاً بين كتبه. نقده هو أداة يمكن العمل بها في الكثير من المواضيع ؛ لا فقط في الموسيقى الحديثة. قد يكون قال ما قاله حول الشعر ما بعد الهولوكست (ما من كلمات للنبيل، الطيّب، الحقيقي والجميل لم تكن مدنسة او متحولة الى عكس معناها)، لكن لغته، التي تتعامل مع الفائق، تصبح هي نفسها مع الوقت فائقة، جميلة بطريقتها الحادة، التي لا تقبل التسوية. إنه كتاب ليس من السهل قراءته. أحياناً، كنت اشعر فيه كما لو أنني لا أملك أدنى فكرة عمّا يقوله. لكن عندئذ ليست هناك كلمة المانية، جنيتها، تقابل كلمة”طنان".

عن صحيفة الغارديان