كيف صدر قانون الاصلاح الزراعي بعد ثورة1958  ؟

كيف صدر قانون الاصلاح الزراعي بعد ثورة1958 ؟

د. غصون مزهر حسين
يعد الإصلاح الزراعي مجموعة من الإجراءات التشريعية والتطبيقية التي تقوم بها السلطات بقصد أحداث تغييرات في حقوق التصرف في الأراضي الزراعية وتحسين طرائق استغلالها، مما يعني ان الإصلاح الزراعي يهدف إلى حل مشكلتين هما التوزيع والإنتاج، فهو والحالة هذه مسألة اجتماعية واقتصادية

كما ان من نتائجه انه يصب في عمق القضية الأساسية كون الديمقراطية لا يمكن ان تنجح وتزدهر في ظل نظام تتركز فيه الملكية في يد فئة قليلة من الأفراد، وقد تصبح آلة بيد المستعمر يسيرها كيف يشاء لتنمية مصالحه والمحافظة عليها.
فبالنسبة للواقع الزراعي العراقي كانت الحاجة ملحة إلى إصلاح زراعي جذري في أوضاع الريف العراقي عامة، سواء من حيث الملكية الزراعية أم حالة الفلاحين المعيشية والاقتصادية والخدمات التي تقـدم لهم من تعليم وصحة وغيرها، كل ذلك كان بحاجة إلى إصلاح وتغيير فوري لخدمة هؤلاء الفلاحين، يضاف إلى ذلك الكره العميق الذي تولد في نفوس الفلاحين للإقطاع لكونه سنداً محلياً للنظام الملكي، ولاسيما بعد بطش النظام الملكي بالانتفاضات الفلاحية التي حفلت بها أعوام الخمسينيات لمصلحة الإقطاعيين.
وعلى أية حال فقد توفرت في السنوات الأخيرة من العهد الملكي القناعة الكافية بأن الثورة هي السبيل الوحيد الكفيل بإنقاذ البلاد من تحكم أقلية مستبدة ومن طاغوت الإقطاع، على ان جميع المحاولات الإصلاحية سواء تلك التي باشر فيها في العهد الملكي أو كان مخططاً للقيام بها كانت متأخرة، ففي تموز 1958.
قام الجيش بالثورة وأطاح بالحكم الملكي وأقام الجمهورية، ولقد كان القضاء على الإقطاع أحد الأهداف الرئيسة للثورة والمتفق عليه قبل الثورة بفترة طويلة، حيث يؤكد د. فاضل حسين”إن أعضاء اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار اتفقوا على القضاء على الإقطاع الذي هو عماد النظام الملكي”، اتفقوا على إجراء إصلاح زراعي على غرار ما جرى في مصر، ويقول صبيح علي غالب”إن ضباط ثورة 14 تموز لم يكونوا يتوخون إزالة نظام الحكم السابق فقط، بل تبديل النظام الاجتمـاعي بهـدم النظام الإقطاعي الذي كان يعرقل تقـدم البلاد إلى الإمام”، أما عبد الكريم فرحان أحد الضباط الأحرار فيؤكد إن الثورة كانت ضرورية للقضاء على الإقطاع حيث يقول”استشرى الإقطاع واصبح إحدى ركائز الحكم، وظهرت ملكيات زراعية كبيرة وضمت مساحات شاسعة من الأراضي الأميرية لقاء بدل رمزي واستطاعت هذه المزارع التهام المزارع الصغيرة بسبب الأزمات الزراعية وعجز الملاكين وصغار المزارعين عن تسديد ديونهم …… فانتزعت الأراضي من صغار المزارعين لتضاف إلى أراضي الشيوخ وزعماء القبائل وكبار الحكام والمسؤولين وتحول الفلاحون إلى عبيد واقنان”.
‌أ. إصدار قانون رقم 30 لسنة 1958 (الإصلاح الزراعي) : -
لقد أثبتت الأيام التي تلت ثورة 14 تموز 1958 مدى التأييد الشعبي الذي لاقته الثورة منذ إذاعة البيان الأول للثورة صبيحة يوم 14 تموز، الأمر الذي يظهر الكره الشديد الذي يكنه الشعب للنظام الملكي وازلامه، غير أن الضباط الأحرار في الأيام الأولى للثورة حاولوا التصرف بحذر تُجاه ركيزة النظام الملكي الإقطاعيين الكبار، لذا كان البيان الأول للثورة خالياً من أي إشارة إلى الإقطاع والموقف منه، مما فوت الفرصة على الإقطاعيين لاستغلال أي موقف ضد الثورة في الأيام الأولى لكي يستطيع الثوار تثبيت أركان الجمهورية بشكل هادئ من دون أي عقبات.
ثم بدأت الإجراءات الثورية وكانت أولى هذه الإجراءات إعلان نص الدستور المؤقت في 27 تموز 1958، حيث نصت المادة الرابعـة عشرة فيه على ما يلي: -
1. الملكية الزراعية تحدد وتنظم بقانون.
2. تبقى حقوق الملكية الزراعية مصونة بموجب القوانين المرعية إلى حين استصدار التشريعات واتخاذ التدابير الضرورية لتنفيذها.
وفي اليوم التالي 28 تموز 1958 م نشر قرار مجلس الوزراء بإلغاء نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية وتعديلاته وذيوله وذلك استناداً إلى ما نصت عليه المادة من الدستور، والتي جاء فيها”إن المواطنين سواسية إمام القانون في الحقوق والواجبات العامة”.
وفي بداية آب 1958 م اصدر وزير الزراعة”هديب الحاج حمود”بياناً قضى إعطاء الفلاح نصف الحاصل باستثناء الحالات التي يستحق الفلاح فيها اكثر من ذلك حسب التعامل المحلي، وفي 11 آب 1958 ألقى وزير الزراعة كلمة من دار الإذاعة شدد فيها على تطبيق مبدأ المناصفة في الحاصل بين الملاك والفلاح وفقاً لما جاء في مرسوم قسمة الحاصلات بين الملاك والفلاح رقم (1) لسنة 1954.
لهذا لم يكن غريباً عندما خطت الحكومة الخطوة الرئيسة لأعداد قانون الإصلاح الزراعي وذلك بإصدار وزير الزراعة أمراً وزارياً في الثاني من آب 1958 بتأليف لجنة لوضع قانون الإصلاح الزراعي، تألفت هذه اللجنة من وزير الزراعة هديب الحاج حمود رئيساً وطلعت الشيباني وعبد الرزاق الظاهر وعبد الصاحب العلوان وعبد الرزاق زبير ومسعود محمد وجوهر درزه ئي وخالد تحسين علي وباقر كاشف الغطاء وحسن الكناني وقرتي دوغرامجي ويوسف الحاج الياس وأنور الجاف أعضاء، ولطفي جودت الدليمي سكرتيراً للجنة، كما أضيف لهم ممثلون عن الوزارات المختلفة.
وكان أعضاء لجنة إعداد قانون الإصلاح الزراعي وقادة الثورة الضباط الأحرار مدفوعين برغبة حقيقية لإعداد قانون يحقق الأهداف الأساسية للثورة وأماني الشعب بالإصلاح الزراعي ضمن ثلاث نواحٍ وهي (الناحية الاجتماعية) حيث يستهدف الإصلاح الزراعي إزالة حالة اللامساواة الواضحة في توزيع الأرض والثروة بين الفئات الاجتماعية الريفية وإلغاء السخرة، وتصفية العلاقات الاحتكارية، والتخلص من الظلم الاجتماعي وسوء توزيع الدخل بسبب سوء توزيع الملكية الزراعية والقضاء على النظم القبلية والأعراف والارتباطات العشائرية، وهذا يعني تكريس العدالة الاجتماعية، أما الناحية الثانية (الاقتصادية) حيث يهدف الإصلاح الزراعي إلى أضعاف تعلق فئة كبار المالكين الثرية بالأرض الزراعية والملكية العقارية المتمركزة والى توجيه الجزء الأكبر من دخولهم - والذي يخصص عادة لامتلاك المزيد من الأرض - إلى القطاعات الإنتاجية القومية الأخرى، وهذا يعني العمل على كبح جماح تراكم رأس المال في شكل ملكية عقارية، وتحسين دخول الفلاحين المنتجين برفع قدرتهم الشرائية وزيادة ميلهم الادخاري الذي يسهم بشكل أو آخر في تطوير الإنتاج الزراعي وتطوير القطاعات الاقتصادية الأخرى، أما الناحية الثالثة فهي (السياسة) فأن الإصلاح الزراعي يسعى إلى تجريد الإقطاع من نفوذه الواسع والحد من سلطته، وذلك بتقليص إمكاناته المادية التي تكونت بنهج طفيلي والى القضاء على الصراعات الطبقية الناجمة عن العلاقات الاستغلالية التي تدعم أنظمة الحكم الاستعمارية، ويعمل الإصلاح الزراعي على تعميق الطابع المتطور للاقتصاد القومي، فيحول دون ارتباطه بالسياسات الاقتصادية الاستعمارية ومن جهة أخرى فأنه يساعد على تعبئة الفلاحين جماهيرياً وتنظيم قواهم سياسياً ضمن جمعيات أو نقابات أو تنظيمات ديمقراطية أخرى.
وقد أسفرت أعمال هذه اللجنة عن إعلان قانون الإصلاح الزراعي رقم (30) الذي اصبح نافذ المفعول ابتداءاً من 30 أيلول 1958، حيث أذاع الزعيم عبد الكريم قاسم بياناً أعلن ولادة قانون الإصلاح الزراعي جاء فيه”إن الثورة المجيدة التي انبثقت من إرادة الشعب يوم 14 تموز إنما هي ثورة سياسية واجتماعية معاً، ومن أهدافها تحقيق الإصلاح الاجتماعي وضمان العدالة بين أبناء الشعب كافة وتحريرهم من عوامل الفقر وأسباب الخوف وتخليصهم من الجهل والمرض ………، وبعـد الدراسة وجدنا إن الإصلاح الزراعي هو القاعدة الأساسية التي يقوم عليها الإصلاح الاجتماعي فقد تبين لنا إن جانباً من الأرض الزراعية إنما يعود إلى عدد كبيـر من أفراد الطبقة الوسطى ولذلك ستبقى هذه الأرض لأصحابها مادامت ضمن الحد الأعلى للملكية الزراعية، أما الملكيات الضخمة أو ما يسمى بالاقطاعيات الكبيـرة فستحدد بالحد الأعلى نفسه، على ان تستولي الحكومة على ما يزيد عن الحد المذكور بتعويض عادل، وستوزع الأراضي المستولى عليها والأرض الأميريـة الصرفة على الفلاحيـن
ليصبحـوا مالكين للأرض في نطاق الحـد الأدنى”.
لقد حدد القانون في مادته الأولى الملكية الزراعية حيث نص على “لا يجوز إن تزيد مساحة الأراضي الزراعية التي تكون مملوكة لشخص أو ممنوحة له باللزمة عن (1000 دونم) من الأراضي التي تسقى سيحاً أو (2000 دونم) من الأراضي التي تسقى ديماً وعند الجمع بين النوعين يكون الدونم الواحد من النوع الأول مقابلاً لدونمين من النوع الثاني”، وكان الدافع لجعل الحد الأعلى يحدد بألف والفي دونم هو إن الطبقة المتوسطة من المزارعين التي ينبغي الإبقاء عليها هي تلك الطبقة من المزارعين الذين إذا هم استغلوا الف دونم من الأراضي المسقية والفين دونم من الأراضي المطرية فأنها تؤمن لهم دخلاً جيداً.
إن أهم الأسس التي بنى عليها القانون هو تحديد حدٍ أعلى للملكية وحد أعلى وأدنى للأراضي التي ستوزع على الفلاحين وتحديـد العلاقة الزراعية بين ذوي العلاقة، وإعطاء تعويض عادل للملاكين عـن الأراضي وتوابعها المستولى عليها، وإيجاد نظام تعاوني للإنتاج.
لذا كان قانون الإصلاح الزراعي (رقم 30 لسنة 1958) ثمرة حقيقية من ثمار ثورة 14 تموز واحد أهدافها الأساسية حيث كان يهدف إلى القضاء على الإقطاع أسلوب إنتاج ورصيداً استثمارياً وإزالة للنفوذ السياسي الذي تمتع به الإقطاعيون نتيجة لملكياتهم الكبيرة وتوجيههم غير السليم لجهاز الدولة وللجهاز السياسي وفقاً لمصالحهم الخاصة ومصالح الاستعمار، كما إن من أهداف القانون رفع مستوى طبقة كبيرة من المواطنين وهم الفلاحون وإتاحة الفرصة الكافية لرفع مستواهم الاجتماعي بصورة عامة وكذلك رفع مستوى الإنتاج الزراعي في البلد بحيث يسهم اسهاماً فعالاً في رفع الدخل القومي وترصين الاقتصاد الوطني.

عن رسالة (التطورات الاقتصادية والاجتماعية في العراق)