جمال باشا السفاح في بغداد

جمال باشا السفاح في بغداد

بثينة عباس الجنابي

أصدر الباب العالي في السابع عشر من آذار عام 1911 أمراً بعزل الوالي ناظم باشا عن ولاية بغداد، فغادرها صباح العشرين من آذار على ظهر باخرة من بواخر لنج متوجهاً إلى البصرة ثم توجه من هناك إلى استانبول، وظل يوسف أغا باشا والياً على بغداد بالوكالة زهاء خمسة أشهر، حتى وصل إليها الوالي الجديد جمال بك، في السادس والعشرين من آب واستقبله (كسائر الولاة)

في الفلوجة معاون الوالي لطفي بك والفريق يوسف أغا باشا وكيل الوالي ووكيل مفتش الفيلق الأول وقائد الفيلق الثالث عشر، والأمراء الأشراف وأطلقت له إحدى وعشرون إطلاقة مدفع كالمعتاد.

تولى جمال بك مهام ولاية بغداد وهو في العقد الرابع من عمره، وأقيمت له حفلة فخمة، افتتحت بقراءة الفرمان السلطاني وختمت بخطبة الوالي الجديد التي كان مطلعها:

"أيها الوطنيون المحترمون!
لقد تلي عليكم الآن بكمال التعظيم التوقيع السلطاني لتوديع زمام إدارة أمور ولاية بغداد لعهدة العاجز، فها أنا أفتح أعمالي باسمه تعالى ملتجأً بالعناية الصمدانية، ومتوكلاً بروحانية الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) فأقول: أرى نفسي مضطرة أن تذكر لكم ما أحسه قلبي، وأوضح ما حواه صدري عند لقائي أبناء وطني العراقيين، وهو أول لقاء يباهى به في هذا اليوم.”
أما ما يخص فحوى الخطبة التي وجهها جمال بك فقد ذكر فيها:
"هذا وإني أمين من جميع الوطنيين من أن يعضدوني، ويؤازروني في إخراج هذه الوظيفة المهمة التي أودعنيها حضرة الخليفة الأعظم من القوة إلى الفعل لأن قوة الحكومة المشروطة ومدار إسنادها هو المجموع المتشكل من الأفراد، ومن أجل ذلك كانت الحكومة والملة شيئاً واحداً، متحد الوجود…".
ولم يميز جمال بك بين طبقات المجتمع في ولاية بغداد فذكر:
"… فالهيئة العثمانية المتركبة من أفراد الملة لا يفرق بين فقيرهم وغنيهم ولا تفاوت بين كبيرهم وصغيرهم في نظر الحكومة والقانون، إذ كلهم متساوون، ويحافظ على حقوق كل منهم، أما مأمور الحكومة فقد تعينوا لتأمين المناسبات الدائمة الحسنة بين الأفراد…".
وقد رحب أهالي بغداد بقدوم الوالي الجديد جمال بك ومنهم الشاعر الشعبي الشيخ علي البغدادي المعمار إذ قال:
مذ حلّ بغداد (جمال) العلى
بطلعة تخجل بدر التمام
قد قرّ فيه طرفها بعدما
قد كاد مما نابها لا ينام
وبعد مضي أربعة عشر يوماً من وصوله إلى بغداد، أصدر بياناً إلى العشائر، حذرهم فيه من العودة إلى الغزو، وذكرهم بأنهم مسلمون موحدون، وطلب منهم الرجوع إلى باب الحكومة لحل المنازعات بينهم، ثم هددهم بالعقاب الشديد إذا لم يرتدعوا، ولم تعترف العشائر بما جاء به جمال بك فعادوا إلى التنازع والقتال فيما بينهم، وكانت أولى العشائر التي فعلت ذلك هي عشائر الشامية وأبو صخير، مما أدى إلى الفوضى في المنطقة، فوقعت من جراء ذلك معارك عنيفة أبدى فيها مزهر الفرعون من آل فتلة قسوة وهاجم أعدائه من عشيرة الغزالات، وحاصر قرية اللهيبات القريبة من الحيرة، وأحرق دورها ونهب أموالها، ثم هاجم الحيرة نفسها فأحرقها ونهبها.
ولأجل ذلك أرسل جمال بك قوة عسكرية بقيادة سليمان عسكري بك، للتحقق من هذه الحوادث، فقام سليمان عسكري بك بحرب عشائر الغزالات وآل إبراهيم والفتلة والشبل ووجه ضربات شديدة لها، ثم ألقى القبض على رؤسائها فزجهم في السجن، كان منهم مزهر الفرعون وأخوه مبدر وعبد الكاظم الحاج عسكر وأخوه عبد الواحد، ولكنه لم يستطع أن يلقي القبض على المسؤول عن النزاع (عليوي الرخيص)، فاستحوذ على جميع مواشيه وأثاثه وأغنام عشيرته، وأعطى أراضيه وأراضي عشيرته إلى (حسن الفرهود) رئيس بني زريج، ومن ثم فرض الضرائب على جميع القبائل المتناحرة بالقوة.
وقد واجه أحد كتاب جريدة الزهور، الوالي جمال بك، فسأله عن حملة سليمان عسكري بك، فقال الوالي:
"لما هبطت الولاية رأيتها والفوضى قد عمت فيها، لاختلال النظام والراحة في جميع أنحائها، وفي اليوم الثاني من وصولي إلى هنا ورد إليّ نبأ برقي من متصرف الديوانية ينبأ عن تحفز عشيرتي والشبل والغزالات لجمع الجموع وإعداد القوة للهجوم على صاحبها، وللحال سيرت إلى محل النضال طابوراً من الجند البغالة وطابورين من المشاة وفرقة بلوكا من المدفعيين أصحاب المدافع الرشاشة، وثلة من مدفعية الصحراء لمنع نهوض المعتدين وحقن دماء العثمانيين، وإظهار سطوة الحكومة، وتأديب المخالفين…".
ومن الواضح أن مثل هذه القوة كانت استعراضاً عسكرياً مقصوداً لتخويف العشائر.

الجولات التفتيشية لجمال بك.
وبعد القضاء على النزاع قرر جمال بك زيارة الفرات الأوسط في جولة تفتيشية، مع حاشيته ممتطين الخيول، وقد لبس جمال بك الزي العربي المتمثل بالعباءة والعقال، فذهب إلى المسيب والهندية، وبعد أن فتش سدة الهندية التي كان العمل يجري فيها توجه إلى الحلة وعند اقترابه منها لم يجد في استقباله سوى أربعة أشخاص فقط، هم: المفتي إسماعيل أفندي الواعظ، والحاكم صالح أفندي الباججي، ومأمور الأملاك المدورة محمود أفندي الشيخ علي، والقومسير محمود أفندي، فاشتد غضب الوالي جمال بك لعدم حضور القائممقام والأهالي لاستقباله، ولما دخل إلى البلدة، جاء شوكت بك، وكان القائممقام بالوكالة وأخذ يعتذر ويتضرع قائلاً: (أيها الباشا من الصغير الخطأ ومن الكبير العفو، عبدكم أخطأ وهو مغرور بعطف ولطف دولتكم) .
ولكن الوالي جمال بك لم يقبل اعتذاره بل ظل غاضباً لا يتكلم ولم يلتفت إليه ولم يجبه، ثم جلس ولم يشرب القهوة والمشروب الذي قدم له، ولم يدخن، ثم نادى على الطاهي وأمره أن يعد له الغذاء في الجربوعية التي تبعد عن الحلة مسافة خمسة فراسخ، ثم ذهب إلى دائرة التلغراف فأبرق إلى قائممقام خانقين الحاج نامق أفندي، يأمره بالحضور حالاً إلى الحلة ليتسلم منصب القائممقامية بدلاً من شوكت بك، على أن يصلها خلال يومين، وكانت تلك مشكلة كبرى للحاج نامق أفندي، إذ يجب عليه أن يقطع مسافة ثمانية أيام في يومين، وقد استطاع على أي حال أن يصل، وكان يبدل فرسه في كل بلدة يمر بها بين خانقين والحلة.
ولم يمكث جمال بك في الحلة، بل غادرها متوجهاً إلى الجربوعية، ثم إلى الديوانية، وكان قاضي الديوانية صالح أفندي الملي وكيلاً عن المتصرف فيها، فأقام الوالي حفل استقبال لم يسبق له مثيل، حيث نصب له خيمة فخمة على جدول الرشادية، وجاءته العشائر أفواجاً، تسلم عليه، كما زينت البلدة بأنواع الزينة، وفرش له السجاد الإيراني على الأرض من الجسر إلى باب السراي، فمكث جمال بك في الديوانية ثلاثة أيام ويبدو أن القوم قد وصلتهم أخبار الحلة وما جرى فيها فاستعدوا لاستقباله الاستعداد اللازم لذلك.
وقد أمر جمال بك بتخصيص ألف ليرة عثمانية لتوسيع جدول الرشادية وحفره، والرشادي هي ناحية كان يقال لها الشوفة والمليحة، والرشادي هو نهير أنشأ بسبب انقطاع نهر الفرات عن الديوانية، وأجري فيه الماء من هور ابن نجم لأجل الشرب إلى قصبة الديوانية، ومن هذه الواسطة استفادت العشائر من الزرع على جانبيه.
غادر جمال بك الديوانية متوجهاً إلى الشامية فأبو صخير ثم كربلاء، ثم عاد إلى الحلة، فجمع الحاج نامق القائممقام الجديد فيها، جميع عشائر الحلة وأهلها الذين خرجوا بأسلحتهم لاستقباله وكان الموكب مهيباً. ثم زار آثار بابل، وزار المدارس، وأعان بعض الطلاب بالكتب والألبسة وفتش جدول الرشادية القريب من الديوانية، ثم عاد إلى بغداد وكان محل إقامته فيها، في قصر عبد القادر الخضيري الكائن على دجلة قرب الدبخانة.

عن رسالة (جمال باشا)، ، 2004