حكاية سقوط وإغماء الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي في باريس

حكاية سقوط وإغماء الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي في باريس

محمود صلاح
كاتب مصري
مات «فيلسوف مصر».. رحل عن الدنيا الفيلسوف والمفكر الكبير د. عبد الرحمن بدوي عن عمر يناهز 85 عاماً قبل أن يحصل على جائزة نوبل التي رشحه لها كثيرون العام الماضي، انتهت في الوطن رحلة الطائر الذي اختار العاصمة الفرنسية لتكون «منفى اختيارياً» له. بعد أن قدم لمكتبته الفلسفة والفكر العربي 150كتاباً بين مؤلف ومترجم وفي نفس عاصمة النور ـ باريس ـ كانت المحطة قبل الأخيرة في نهاية العام الماضي.

محطة درامية مثيرة. في حياة الفيلسوف التي شهدت أحداثاً أكثر اثارة.
كان العمر قد تقدم به. وهو يعيش وحيداً في باريس. وتكالب عليه الزمن والمرض والشيخوخة. ليعيش حادثاً غريباً ربما كان هو الجرس الأحمر. الذي عرف منه الشيخ الفيلسوف أن رحلة طائرة الغربة آن لها أن تنتهي. وأن على الطائر المهاجر أن يعود في النهاية الى وطنه ومسقط رأسه. ليسدل الستار على رحلة العمر الطويلة المرهقة.

بداية الحادثة
* عندما فوجئ قراء جريدة «الأهرام”القاهرية بالكاتب الصحافي الشهير أنيس منصور يكتب في زاويته اليومية «مواقف» قائلاً: «المرشح المصري لجائزة نوبل هذا العام طريح الفراش في أحد مستشفيات باريس. كان يمشي في الشارع من 45 يوما وسقط.. نقلوه الى المستشفى لا يعرف بالضبط ماذا حدث له. بعد أن ضمدوه طلبوا اليه أن يعود لاستكمال العلاج. لم يذهب الا من عشرة أيام. انهم يحاولون اذابة الجلطة التي تكونت خارج المخ. كما فهمت من ابن أخيه الدكتور هشام بدوي.
وفي اليوم التالي كشف أنيس منصور تفاصيل القصة وكتب يقول انه اتصل بالدكتور عبد الرحمن بدوي حيث يرقد في مستشفى كوشان بحي مونبرناس بباريس. وسأله عما حدث له فقال له أنه لا يعرف كيف جاء الى هذا المستشفى فادح التكلفة.
وأضاف أنيس منصور: أن الدكتور عبد الرحمن بدوي عندما سقط في الشارع يوم 18 ديسمبر (كانون الاول) الماضي نقلوه مجهولاً الى المستشفى وكان يسكن في فندق لوتسيا بالحي اللاتيني بباريس منذ 40عاماً. وظل الدكتور بدوي في حالة اغماء ولم يفق الا منذ يومين وأرسل المستشفى خطابا الى القنصل المصري السيدة نيفين سميكة يقول: ان لدينا شخصاً يقول انه فيلسوف مصر.. فتعالوا.
الحقيقة ان تلك لم تكن أول مرة يكتب فيها أنيس منصور عن الدكتور عبد الرحمن بدوي فيلسوف مصر. فأنيس منصور كان الدكتور عبد الرحمن بدوي استاذه في الجامعة. وقد حضر أنيس منصور وهو لايزال طالباً مناقشة رسالة عبد الرحمن بدوي لنيل الدكتوراه وكان موضوعها «الزمن الوجودي» وكان الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي يرأس لجنة المناقشة. وأشاد في النهاية بابداع وموهبة عبد الرحمن بدوي.
وقال الدكتور طه حسين: هذا هو أول فيلسوف مصري.
وفي هذا اليوم حمل الطلبة الدكتور عبد الرحمن بدوي على الأعناق، لكنه عاش الى يوم شاهد فيه طلبة الجامعة في بلد عربي يشاهدون عملية «اعدام كتب عبد الرحمن بدوي» بحرقها وسط كومة هائلة من النار. بينما تم ارسال عبد الرحمن بدوي نفسه الى المعتقل.
والمهم انه بعد أن كتب أنيس منصور عن حادث سقوط عبد الرحمن بدوي في الشارع ونقله الى المستشفى. أسرع بالاتصال بالفنان فاروق حسني وزير الثقافة وروى له ما حدث وتأثر فاروق حسني بشدة وحدثت اتصالات فورية بين المسؤولين وأعلن وزير الصحة في نفس اليوم أن مصر سوف تعالج عبد الرحمن بدوي الذي أمضى معظم سنوات عمره غريباً عن وطنه لكن مصر كانت دائماً شاغله ومصر بدورها لا يمكن أن تنسى أبداً أولادها.
لكن أنيس منصور لم يهدأ وكان منزعجاً بالفعل لما حدث للدكتور عبد الرحمن بدوي الذي نقل الى المكتبة العربية الفكر اليوناني والفلسفة الالمانية الحديثة وفلسفة الحضارة عند الفيلسوف «اشبنجلر» والفلسفة الوجودية عند الفيلسوف «مارتن هيدجر”والذي لم يتوقف عن الابداع في الفلسفة والاستشراق.
واتصل أنيس منصور بالدكتور عبد الرحمن بدوي في مستشفاه بباريس أكثر من مرة ونقل اليه خبر انه مرشح لجائزة نوبل في الأدب وأن هذا انتصار آخر للفلسفة.
واتصل أنيس منصور بي وقال لي: الحق.. الدكتور عبد الرحمن بدوي سيصل على الطائرة القادمة من باريس في الخامسة مساء يوم الأربعاء. وأسرعت بدوري اتصل بالدكتور ثروت بدوي شقيق الفيلسوف الكبير.
وقلت له : كلمني عن شقيقك الكبير..
قال لي الدكتور ثروت بدوي: ان شقيقي الدكتور عبد الرحمن اعتاد السفر الى باريس منذ عام 1945 لقضاء شهور الصيف حيث كان يتجول بين المكتبة الوطنية في باريس والمكتبات الشهيرة في هولندا واسبانيا وغيرها. وهو لم ينقطع عن هذه العادة أبداً. فما أن كان ينتهي من أعمال الامتحانات في الجامعة حتى يرحل فوراً الى عاصمة النور حيث توجد له دائماً غرفة في فندق لوتسيا وقد استمرت هذه العادة حتى تم فرض الحراسة على أرضه الزراعية وأخوته عام 1966ولأول مرة يخشى عدم القدرة على السفر الى باريس في الصيف لكن جامعة السوربون سارعت باستدعائه استاذاً زائراً عام 1967ومنذ هذا الوقت وهو ينتقل بين السوربون وجامعات أخرى فسافر الى ليبيا للعمل في جامعة بنغازي ثم جامعة طهران ثم الكويت التي ظل فيها استاذاً زائراً لسنوات.
وأضاف د. ثروت بدوي: لم يحضر شقيقي الدكتور عبد الرحمن بدوي الى مصر منذ غادرها عام 1967 إلا ثلاث مرات الأولى كانت عام 1972 حينما اعتقل في ليبيا بسبب وشاية غير صحيحة من أحد المسؤولين وكان هذا المسؤول تلميذاً عنده ورسب في الامتحان لكن الرئيس أنور السادات اتصل بالأخ معمر القذافي قائد الثورة الليبية وطلب منه الافراج عن الدكتور عبد الرحمن بعد حرق كتبه واعتقاله وبالفعل أفرج القذافي عن أخي الذي عاد من ليبيا الى القاهرة ومكث بها شهراً أو يزيد أما المرة الثانية فقد كانت عندما جاء من الكويت ليجري له المرحوم الدكتور المفتي عملية جراحية في احدى عينيه ثم عاد مرة ثالثة بعد سنوات ليجري العملية الثانية في العين الأخرى.
وحول واقعة سقوط عبد الرحمن بدوي في الشارع في باريس قال لي شقيقه د. ثروت: نحن ـ الأسرة ـ لم نعلم بما حدث الا بعد فترة تزيد على شهر بأن أخي سقط وهو يمشي في شارع «راسباي”بالقرب من الفندق الذي يقيم به ونقل الى المستشفى حيث اجريت له بعض الاسعافات الأولية وتم وضع ضمادات حول رأسه التي شجت بسبب سقوطه على الأرض لكنه رفض اجراء المزيد من الفحوصات وعاد الى الفندق لكنهم بعد أيام عثروا عليه في فراشه عاجزاً عن الحركة وقد غاب وعيه وعندما اتصلت المستشفى بالقنصل المصري نيفين سميكة اسرعت اليه على الفور في المستشفى واتصل السفير المصري د. علي ماهر بنا ليبلغنا بما حدث ثم علمنا ان الدولة اهتمت بالموضوع للغاية وأنه تقرر علاج أخي على نفقة الدولة.
* لا أشعر بالألم
* في نفس اليوم عاد أنيس منصور ليتصل بي هاتفياً مرة أخر، وقال لي: كل شيء على ما يرام وأنا أحدثك الآن من مكتب وزير الصحة. وهو يريد أن يبلغك بالتطورات.
وحدثني وزير الصحة وكان وقتها الدكتور اسماعيل سلام وقال لي: فور علمي بالخبر اتصلت في الحال بالممستشار الطبي المصري في باريس وطلبت منه الذهاب فوراً الى الدكتور عبد الرحمن بدوي في المستشفى وأن يقدم باقة زهور وعليها بطاقة تحمل كلمة واحدة هي «مصر». وأن يقوم باتخاذ كل الاجراءات اللازمة فقد تقرر أن يتم علاج الدكتور عبد الرحمن بدوي على نفقة الدولة.
وهذا شيء بديهي وسيكون في مستشفى معهد ناصر ولقد طلبت ارسال سيارة اسعاف طبي طائر لتكون في استقبال الدكتور عبد الرحمن بدوي تحت الطائرة عند وصولها الى مطار القاهرة.
فأسرعت اتصل بالدكتور عبد الرحمن بدوي نفسه في حجرته رقم 202 في مستشفى كوشان بباريس لأطمئنه وعبر الهاتف جاءني صوت الفيلسوف الكبير ضعيفاً واهناً.
سألت: ما الذي جرى يا استاذنا الكبير؟
رد عليَّ بنبرة لا تخلو من التبرم.
قائلاً: لا شيء اطلاقاً.. لم يحدث شيء خطير. لكني لم يكن يخطر لي على بال ان انتهي في باريس هذه النهاية المضحكة.
سألته: هل تتألم؟
قال: لايوجد ألم.. أو أنني لا أشعر به. كل المسألة انني يصعب عليَّ تحريك قدمي.
عدت لأسأله: كم من الوقت تبقى على عودتك؟
قال: ساعتان تقريباً. قبل أن يذهبوا بي إلى مطار أورلي.
قلت له: الجميع في انتظارك في القاهرة.
قال: لاداعي لتضخيم الأمر.. المسألة بسيطة.
وقال لي الدكتور عبد الرحمن بدوي أن آخر أعماله كانت ترجمة جزء من «السيرة النبوية» الى اللغة الفرنسية وقد ظهر هذا الكتاب قبل حوالي شهرين وأنه خلال العامين الماضيين انتهى من تأليف وترجمة 17 كتاباً جديداً وأنه يعتز بكتبه الأخيرة التي قدمها دفاعاً عن القرآن ودفاعاً عن الاسلام وانتهت المكالمة.
عندها دخلت ممرضة فرنسية تطلب من الفيلسوف الاستعداد للتوجه الى المطار.
وأسرعت أتصل بتلامذة الفيلسوف الكبير، فقال لي محمود أمين العالم: مازال الدكتور عبد الرحمن بدوي هو استاذي العزيز. قد اختلف او أتفق معه لكني لا أنكر عليه أنه صاحب أكبر مكتبة سواء فيما يتعلق بتراثنا العربي القديم أو التراث الأوروبي الحديث فضلاً عن دراساته الابداعية في الشعر أو ما يشبه الرواية الى جانب أبحاثه البالغة الأهمية أخيراً عن الاسلام فهو صاحب 200 كتاب كلها كتب عميقة سواء المؤلفة أو المترجمة منها. ولايستطيع الانسان أن يبحث في تاريخ الفكر الوجودي في الفكر العربي إلا أن يتبينه فيه رائداً لهذا الفكر وباحثاً في جذوره العربية خاصة في مجال التصوف ومضيفاً اليه ابداعات قيمة خاصة في بحثه عن «الزمان الوجودي»: ان عبد الرحمن بدوي قيمة رفيعة عالية ومفكر بامتياز من أندر مفكرينا العرب على وجه الاطلاق ورغم اختلافي الشديد معه من حيث الجانب الآيديولوجي الا أنني مازلت أعتبر نفسي تلميذاً صغيراً لهذا الاستاذ الكبير أحني رأسي تقديراً له. ويمتلئ قلبي بحب كبير وعميق له.
وقال لي الأديب الكبير يوسف الشاروني: في كلية الآداب زمان كان ثلاثة أساتذة متميزون في أوائل الأربعينيات هم لويس عوض وأستاذ علم النفس يوسف مراد والدكتور عبد الرحمن بدوي وكنا «نحن التلامذة”د. مصطفى سويف ومحمود أمين العالم وأنيس منصور وبدر الديب وفتحي غانم قد أصدرنا مجلة علم النفس الشامل. وكان الدكتور عبد الرحمن بدوي استاذنا وكان يعطي محاضراته وكأنه يحفظها ويسمعها علينا. ويبدأ من حيث توقف تماماً وكان الدكتور فؤاد زكريا الذي يتميز بالخط الجميل يكتب هذه المحاضرات ويأخذها منه الدكتور عبد الرحمن في نهاية العام ليعطيها لمكتبة النهضة حيث تطبع كتاباً.
وفي المساء وصلت الطائرة التي تحمل الفيلسوف المريض إلى وطنه، وحملوه من الطائرة الى سيارة الاسعاف التي أسرعت به الى مستشفى معهد ناصر وكنت هناك انتظره، كان مرهقاً وكأنه في نهاية رحلة عبر فيها بحار ومحيطات الدنيا.
قلت له وهم يضعونه على الفراش: والآن.. ماذا تطلب يا أستاذنا.
همس بصوت ضعيف: لا شيء.. أريد أن أنام. وأغمض عينيه في تعب. ونام للأبد.. بعد ستة أشهر من تلك الليلة.

من موقع الحوار المتمدن