نايات الشعر تفوح عطرا

نايات الشعر تفوح عطرا

عادل الياسري

انشغالات ناجح المعموري الثقافية لها رقعة واسعة ينماز بها دون غيره من الباحثين والكتاب،فهذا العقل المعرفي الذي واكبته منذ الأيام الأوّل في مساره الأدبي ابتداء، ثمّ البحثي والنقدي بشكل عام وتفصيلي،ذي أبعاد وأرجاء تمتدّ على خارطة الثقافة العراقية والعربية وفي مفاصلها المتنوعة،فهو المتنقل بين القصة والرواية كاتبا ومؤلفا لها ثم ناقدا،

والأديان والأساطير وما عجّت به التوراة وملحمة كلكامش والآداب القديمة من القصص والأساطيرالتي لم تلق من قبل من يتحرّى عن خفيّها المسكوت عنه خوفا أوتغاضيا، أو تغاضيا أو اذعانا للتابو والمقدس،لينتقل منها الى مرحلة المتابع المتصدي للتجارب الروائية والشعرية،ليس للكتاب والشعراء العرب وحسب،انما لشعراء وكتاب الأقليات والقوميات الأخرى الذين يكتبون بالعربية،اضافة الى التجارب العربية والعالمية أحيانا،حيث نراه في تحليلاته صيادا ماهرا لفراشات اقترابها من طاولة اشتغاله،وناقدا متمرسا لهذه التجارب مبديا ملاحظاته المهمة التي تفضي الى تقويم التجربة الأبداعية لمن يأخذ بها.كما عرفته متابعا ذكيا لموضوعتي الفوتوغراف والتشكيل ودارسا لتجارب بعض العاملين في مجالاتها.
ولعمق اقترابي من جرف المعموري،والتعامل اليومي فيما بيننا،واطلاعي على غزير منجزه الأبداعي وتوزعه بين الموضوعات التي ذكرتها آنفا،ارتأيت أن أتناول قراءته لحضور الأسطوري والدنيوي في تجربة الشاعر السرياني”شاكر مجيد سيفو”التي اختار لها عنوانا يضجّ بالحلم في فرح قادم [ غابة العطر والنايات ]،ويشي بأنبهار في تجربة شاعرأصابه حيف التهميش الذي لحق بالمنجز الأبداعي للقوميات والأقليات بسبب العوامل السياسية والثقافية،اذ سلط الضوء في البدء على كون الأدب السرياني ظلّ معزولا بتأثيرات التمركز الثقافي العربي الذي حاول تذويبه وسط الثقافة العربية،من خلال التعامل معهم اسوة بالأدباء التركمان والأكراد بعيدا عن هويتهم القومية،والعمل على جعلهم يكتبون بالعربية.
في هذه الدراسة ركز الباحث المعموري على كون الشاعر سيفو قد أدرك جيدا بأن (اليومي / الروحي / الديني) مختزن للأسطورة،كونها”وسيلة الأتصال بين الجماعة التي تجد وظيفتها في الطقوس ورمزيتها المألوفة والمعروفة”غابة العطر والنايات / ناجح المعموري / دمشق /دار تموز 2011.
لو تحرينا عن هذا التشخيص الذي لم يسبقه اليه أحد،لوجدنا أنه وبتمكن اخترق الجدران الفاصلة بيننا وبين التوظيف الذكي الذي اجترحه سيفو لموروث السريان وطقوسهم الدينية،
ولموضوعة كونهم”السريان”سكان البلاد الأصليين،واستطاع بقدراته النقدية النفاذ الى عمق التجربة الشعرية،وقراءة الطقسيات المدونة وغير المدونة في عالمها،رابطا اياها من خلال نصوص منتقاة له،بالنسق الأسطوري في الأدب السومري القديم،ففي هذا المقطع :
“وعقدنا
زواج الأرض والسماء
والقمر والشمس
والتراب والمطر”المصدر السابق ص48.
نجده يحلق الى موضوعته الأساس في دراساته الأسطورية،المتمثلة بالذكورة والأنوثة كونهما قطبي الأخصاب،وقناتي الولادة والأنبعاث،ويستشهد بما أورده الدكتور الطيب تيزيني حول قران القمر بالشمس بأعتبار الأوّل مذكرا والشمس أنثى،ثمّ يربط رؤيته هذه
بعشبة جلجامش التي حاز عليها وسرقتها الأفعى بأيراده لنص الشاعر :
“نحن سعداء برفّة جناح ملاك
حين يرى العالم سعيدا
يحلق بعشبة جلجامش”

وكلما توغلنا في ثنايا الكتاب توصلنا الى اكتشافا ت مفادها أن ناجح المعموري في دراسته لهذه التجربة الشعرية المتفردة بخصوصيتها،قد عرّج في تحليلاته لنصوص الشاعر على موضوعة الصورة وما تمثله سواء في الشعر أو الفوتوغراف مستشهدا بما قاله”رولان بارت”في ذلك ومتوصلا الى ان شاعرنا صاحب التجربة كان ذكيا في توظيفاته لدلالات رمزية (المطر،قوس قزح،العصافير،قامات الريح،رائحة التراب) وغيرها من الرموز،
انما يؤشر على حلمه بفرح آتي،وانبعاث قادم،رغم دوّامات الحزن والم الفجيعة الذي يتكرر بين آن وآخر. وبنايات تصدح في غابات مستقبل يفوح عطرا.
يبقى أن أعبر عن شكري وسعادتي في أن هذا المنجز الأبداعي لصديقي الباحث ناجح المعموري قد افتتحه بأهدائه لي صديقا وشاعرا،وهذه شهادة أعتز بها.