اللوّن الأحمر.. أيقونة الخصب  والنماء

اللوّن الأحمر.. أيقونة الخصب والنماء

جاسم عاصي
الباحث (ناجح المعموري) عُرف بتخصصه في دراسة الأساطير وتاريخ الأديان. وبرز اهتمامه من خلال البحث عن المسكوت عنه في هذه المجالات. وهذا يعني، انه مسَّ أرضاً معرفية غير موطوءة، معتمداً على قدرته في تأويل النص والبحث في مرجعياتهالمعرفية ظاهرها وباطنها. إن الباحث يعمل على تقصّي القرائن للاستدلال على ما يؤكد رؤيته في كشف المسلمات التي تقود إلى توضيح صورة الحث=قيقة المنبثقة من حركة التاريخ وجدلية صراعه.

وقد اعتمد الباحث في تأسيس رؤيته لتشكّل الألوان، وحصراً اللوّن الأحمر الذي شكّل بترادف استعمالهلباساً إلى أ، يكون أيقونة أسطورية، ركزتها وأسستها الدلالاتالمتنوّعة. فاللوّن الأحمر كان منذ نشوء الخليقة عنواناً ــ خاصة في حضارة الشرق ــ للصب والنماء والتجدد. لأنه معني بالنضوج والتكامل، فمنذ الولادة يتدفق الدم مرافقاً لنشوء الجنين، ويُضف على الفتاة التي تستقبل الحياة الأنثوية بتساقط قطرت منه دلالة اكتمال الأنوثة المنتجة، كذلك حالة لطمث التي تُجدد امكانية الأنثى على الانتاج. من هذا وغيره أتخذ عبر التاريخ رمزاً للأخصاب، فكان رداء_ دموزي / تموز) أحمر ثم توالت علامته حتى أُسبغت على آلهة من خلال رمزه كرداء (مردوخ، أنكي، سرجون، راحيل، يوسف) لذا نجد البحث يتواصل مع اللوّن لتحقيق رؤيته البحثية في المقارنة والتدليل التأويلي.

إن الباحث يركز حصراً على دلالته الإخصابية، متخذاً من قميص يوسف أنموذجاًعبر كتابين (تأويل النص التوراتي / قميص يوسف) والآخر (تأويل النص التوراتي / أسطورة نبات اللّفاح) إذ تمكّن من وضع نوع من جدلية معرفية وفق تغيّر دلالاته عبر التاريخ. اللوّن الذي حمل دلالات أسطورية متنوّعة، سواء ليوسف وعلاقته باللوّنوبالنماذج كـ ــ سرجون الأكدي، والإله أنكي، والإله دموزي /تموز) ورمز يهوه الدموي. وبذلك خلص إلى رؤية جينالوجيااللوّن الأحمر في الديانات القديمة. وقد ربط بين اللوّن والتشكل العام للنماذج والكارزمات في التاريخ. ودلالات اللوّن السياسة حصراً. منطلقا ً من أن اللوّن أسبغ على الشخصية أولاً : القداسة، وثانياً: السلطة السياسية. وهو لوّن ميّز الشخصيات في التاريخ. ولعل الربط الموضوعي بين الشخصية المتميّزة بالزي ذي اللوّن الأحمر، واضافته كدال على الخصب والانبعاث، كما هو في شخص الإله (تموزي / تموز) وظهوره في فصل النماء الزراعي. فوجوده باعث للحياة الجديدة. من هذه المنطلقات كان التميّز الذي أكد الفارق بين القميص والثوّب. فيوسف التوراتي مرَّ بنسقين بنيوين إزاء اللوّن ؛ الأول القميص، وهو محولة لتأسيس أسطورته، بسبب انبثاقه كنوّع من التعويض لـ (يعقوب) لأن القميص خيط من ثوب زفاف (راحيل) الأم، بينم أضفى الثوّب الذي منحه الفرعون ليوسف بمثابة الإشارة إلى على أنه يمثل السلطة السياسية. بينما ما دلت عليه شخصية (يهوه) الدموية. فقد أسبغ على القضيب كرمز صفة اللوّن الأحمر وهو مثّل صورة القسوة والوحشية التي اتصف بها الإله اليهودي.وهو نوّع من لسلطة الدينية الموغلة بنكهة رائحة الدم. لذا كان اللوّن دال على دمويته.بينما في حضارة وادي الرافدين، وحصراً في زي الإله (دموزي/تموز) كان له دلالة الخصب والانبعاث والولادة والنماء.
لقد درس الباحث شخصية (يوسف) التوراتية من خلال مسيرتها، سواء قبل الولادة، أو بعدها. وما اعتماده على اللوّن الأحمر كدالّة، إلا لوّضع رمز الاخصاب هذا ضمن ثنائية (الموت / الانبعاث)في الحضارات. مستخلصاً عبر المقارنة والمقاربة في الدلالة رؤيته باتجاه حضارة الشرق، وحصراً حضارة وادي الرافدين. فاللوّن الأحمر، صفة رداء أو ثوب زفاف (راحيل) على يعقوب. ثم فُصّل بعد موته قميصاً ليوسف كم ذكرنا. ولما كانت تشكلاته والمناخ الذي حاط براحيل قبل الحمل والولادة يُشير إلى أسطورية (يوسف) بدلالة نبات (اللّفاح) الأسطوري الذي تناولته (راحيل) بعد التحايل على (ليئة) زوجة يعقوب أيضاً وأختها من الخال (لابان) كان قد اقتطعه (رابوئين) من بين عيدان نبات الحنطة. أي أنه مجاور لرمز الألوهة الشابّة. لقد اكتسب (يوسف) أسطوريته من خلال الحمل والولادة، مستكملاً إياها عبر ارتدائه القميص ذي اللوّن لأحمر من قبل لأب يعقوب. أي أنه أراد بهذا الفعل أن يمد الأسطورة لتي ابتدأتها(رحيل) لابتناول نبات اللّفاح. بمعنى اكتسب أسطورية (راحيل) فكان وريثاً عبر كل ما رافقه من تغيرات، سواء في الجُب، أوفي مصر خاصة فترة سجنه، ثم علاقته بـ (زليخا). لقد أكد الباحث(المعموري) على استحالة (قراءة شخصية يوسف بمعزل عن راحيل وعلاقتها بيعقوب / إسرائيل، لأنها (راحيل) القت ضوءاً ممتداً على يوسف، ولعبت دوراً بالاشتراك مع يعقوب في صياغة وبلوّرة الشخصية المضطربة / القلقة (يُنظر في تأويل النص التوراتي قميص يوسف / دار المدى ص10) وبهذا كان التعويض عن خسارة (يوسف) لأمه في شخص (زليخا) فكان البديل بالرغم من عدم شيوع الرموز التي تمثلت في شخصية (يوسف) في حضرة مصر، ثم عدم تبدي الدلالة الرمزية لشخصية (زليخا) بديلاً عن الأم. إلا أنها مثّلت امتداد خاصية اللوّن الأحمر الذي أتى به (يوسف) من خلال ما أعدت للنساء في القصر من مستلزمات الضيافة وهي إناء الفاكهة (مِتْكئاً) ليكون دور يوسف وتأثيره عليهنَّ صورة ساطعة لرمزه الأسطوري (الجمال) الأخاذ والذي يخلص الباحث في مجال تحليل شخصية يوسف كوّنها مزدوّجة (انثورجولية). فكان أن سفحنَّ دم أكفهنَّ بالتجريح دون وعي منهنَّ، وهو نوع من الاقر بالأسطورة، أي أسطورة اللوّن، لذي يقترب من الدم الساقط من إزالة غشاء البكارة أو الطمث. إن رمز الاخصاب دائر في الأساطير الرافدينية على التمثل للفعل الزراعي الذي حازت عليه شخصية الأنثى منذ بدء الخليقة، أي منذ أسطورة (آدم وحوّاء) وصولاً إلى صراع الأخوّين (قابيل وهابيل) حتى فترة (إبراهيم) من (أور الكلدانية / مصر وصولاً إلى أرض كنعان) ثم نفي (هاجر) وإسماعيل الرضيع إلى الجزيرة. فقد كان كل هذا نتيجة صراع سلطة الأنثى (سارة) مع وجود (هاجر) بمعنى ان الصراع دار وفق وجود ثنائية الأنثى، بسبب اقتصادي والذي مثّلته حيازات (إبراهيم)الاقتصادية وشرعية إسماعيل الابن البكر لــ (إبراهيم) في الإرث والقيمومة.من هذا تمكّن البحث من الامساك بالخيوط التي توصله إلى القراءة لتأويلية بقوة، معتمداً على الدلائل والقرائن.
لقد استفاد الباحث ــ كما ذكرنا ــ من كل ما من شأنه تعميق أسس البحث على المنطق والعلمية في الحفر بالدلالات الرمزية، سواء اللوّن أو ملحقاته المكملة.كما هي في النباتات ومياه الآبار مثلاً. فقراءته مثلاً لرمز الاخصاب (اللّفاح / اليبروح / الماندريك) يمكن تمثيلها وفق الخطاطة التالية :
( موّت ــ حياة ــــــــــــــــ قطف الحنطة ـــــــــ يسوع)
( موّت ــ حياة ـــــــــــ قطف اللّفاح ـــــــــــــ يوسف)
من هذ يمكننا القوّل أن ثنائية (الموت/ الحياة) تجسّدت في انبعاث رمز الألوهة الشابة (الحنطة / تموز) من خلال ما يماثله رمزياً بنبات(اللّفاح) الذي هو البديل الرمزي لتخصيب رحم (راحيل) ومن ثم وضع (يوسف ضمن دائرة الأسطورة، من خلال اللوّن الأحمر (القميص/ ثوب زفاف راحيل) كذلك وجود رمز البئر (الجُب). إذ كان الماعدل الموضوعي قد تم بين لقاء (راحيل / يعقوب) على شفة بئر (لابان) الخال، فإن كان أخوّة(يوسف) قد اختارو البئر/ الجُب) بعد أن تآمروا عليه فأن جباً آخر انتظره في مصر (السجن) فكن عنصر ومكان اخفاء وظهور سحري. كذلك ثمة ما يؤكد أسطورية اللوّن الأحمر، وعلاقته بأسطورة (يوسف) و القميص الذي خص به (يعقوب ليوسف) بعد أن خاطه من ثوب راحيل. بمعنى شكّل اللوّن الأحمر دالّة على القرب العاطفي بين (يعقوب / يوسف) وبعده عن أخوته. وهو نابع من نوع الشعور الذي داخل الأخوة، ورافقهم حتى لقائهم بيوسف في مصر، بسبب الحيازة للقميص كسلطة أسطورية.
إن البئر رمز يصطف مع رموز الخصب، ولنا في مجموعة الآبار في مسلسل التاريخ (بئر اسماعيل ــ زمزم/ بئر لابان ــ بئر سبع / بئر يوسف / بئر جلجامش) يقابل كل هذا (رحم راحيل) الذي هو بئر الآبار، لأنه فجّر أسطورة مهمة في التاريخالأسطوري، بأن أعاد أسطورة الإله الشاب في شخص (يوسف) مرّحلة من شخصية (دموزي/ تموز). فالأخوة تآمروا عليه، معتقدين أنهم متمكنين من وأد صورة المستقبل التي عليها قوّة العلاقة بين (يعقوب/ يوسف) مقابل ضعفها بينهم وبين الأب.
لقد انسحبت أساليب التحوّل عبر التاريخ، وخصت سلطة الأنثى. ففي التاريخ العبراني هنالك حقيقة واضحة بأن يعقوب لم ينجب سوى بنت واحدة من زوّجاته وسرائره وهذا نوع من قطع الوجود الأنثوي. لذ حصل نوع من ترحيل عنصر الخصب إلى المجال الفكري الكنعانيعبر خصائص نبات (اللّفاح) وتخصيب رحم راحيل وولادة يوسف. وهذا ما حصل في سِفر التكوين ونشيد الإنشاد. غير أن الذي حصل أن ماتت رحيل بعد ولادة (بنيامين) وهذا دليل على عوّدة تعطيل الأنوثة وصعود الذكورة في شخص يوسف. وكانت محاولات تعطيل يوسف كرمز للذكورة قد هيأة مناخاً جديداً. لأن يوسف يتميّز بخصائص شخصية أثّرت عليها الأسطورة وصاغتها على وفق خصائص وسمات رموز الخصوبة والنماء، فكان بما يحمله من خصائص أنثوية ساهمت في ردم الهوّة بين السلطتين، بخلق سلطة جديدة تميل إلى إخصاب الحياة وتجددها، خاصة في بروز قدرته على تفسير الأحلام، مما قرّبه من مصدر القرار الذي بنيت عليه حاضرة مصر، ثم اقترانه بزليخا. هذاالصراع يحتكم إلى البنية التاريخية، ابتداء من أسطورة (آدم وحوّاء) و(قابيل وهابيل) وما وجوده ضمن دائرة (زليخا) سوى التأكيد على ترسيخ الدلالة، سواء من خلال ما مرَّ به من ظروف قاسية نلخصها في الخطاطة التالية:
( بئر جاف ـــــ سجن ــــ قصر )
( بئر لابان/ معطاء ــــ بئر جلجامش / أعاد سلطة الأنثى بسرقة العشبة )
من هذا نرى كما يرى الباحث أنن بإزاء تشكلات يقينية تقود إلى دلالات منفتحة على الحياة، خاصة في ما يخص قميص يوسف، الذي اراده يعقوب دالّة على وجود (راحيل) وتواصل تأثيرها الأسطوري وحضورها في البديل (يوسف) فكلما كانت الأم جميلة، فأن الابن (جميل ووسيم) أي يحمل خاصيتي الرجولة والأنوثة، مما أثارت هذه الثنائية (زليخا) وقرائنها.فيوسف بإعادته القميصإلى يعقوب الأب سوى إعادة تأثير الأسطورة للوّن الأحمر، وتحقيق صورة التماثل مع (راحيل) لأن محبة يعقوب ليوسف تجسدت في ابتكار القميص كعلامة معوضه عن المفقود. كما أن هذاالتخصيص أثّر في نفوس الأخوة فوّلد الكراهية. بمعنى كانت العلامة من وجهة نظر الأخوّة تركيز السلطة بيد يوسف، وحرمانهم منها. لذا كان القميص الحامل بدم التيّس استبدال دلالي على استرجاع السلطة المفقودة. لقد كان يعقوب يعي تلك العلامة، لأنها مركز الدلالة الدينية في المعتقدات عبر التاريخ، وحصراً عند العبران. فتلك المحاولة أسست إلى نمط ترسيخ الدلالة لتكون شاهداً يستنهض مفاصل التاريخ. وفعلاً حدث مثل هذا بعد أن كان وجود الأخوّة في قصر يوسف، أي سلطته السياسية في مصر حاملة لاستنهاض الذكرة اليعقوبية عبر ذاكرة الأخوة والقميص.الباحث أكد على دلالة اللوّن الأحمر في أكثر من موّقع، وحصراً في ما مثلّه في شخصية (يوسف) بربطه بالجنس واقترانه بالرغبات، والكيفية التي حصلت في التبدلات بذكره :
( لقد اقترن القميص مع الجنس والرغبات، وتصاعد الحب الزوّجي. ولكن بعد تعطل التبادل تماماً. وذلك بسبب وفاة راحيل وانقطاع التواصل الذي أقامه يعقوب /اىسرائيل مع راحيل المعطلة(تأويل النص التوراتي / قميص يوسف ص21) )