القراءة الأنثربولوجيّة للتوراة عند ناجح المعموري

القراءة الأنثربولوجيّة للتوراة عند ناجح المعموري

د-عامر عبد زيد
هناك تراث مشترك يجمع بين أديان الوحيانيّة، (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام)، هذه الديانات تجمعها قواسم كثيرة جامعة فيما بينها إلا إنّ القراءات التيولوجيّة في العصر الوسيط والقراءات الأصوليّة المعاصرة أو الايديولوجية للأصوليّات الثلاث : (الصهيونيّة والانجيليّة والتكفيريّة)، إذ تحاول توظيف الجوانب الاقصائية وتعميقها وهناك أطاريح كثيرة منها من يريد

((توحيد الوعي الديني التوحيدي كله، وذلك بالعمل على إزاحة الحدود والحواجز التيولوجيّة التقليديّة التي تبعد الأديان الثلاثة فيما بينها.))
وكيف يمكن تحقيق هذا الأمر الذي يجنبنا التأويلات الماضويّة والأيديولوجيّة المعاصرة بكل حمولتها الأيديولوجيّة الأصوليّة، وتعمل على البحث عن قواسم مشتركة بين تلك النصوص وكشف البعد الأسطوري لها وطبيعة الحقب المعرفيّة التي كانت تستجيب له.
كل هذا ممكن من خلال قراءة الأنثربولوجيا “sacred prostitution” للتراث التوحيدي (الوحياني).الذي بحسب محمد أركون قد قدم لنا صورة معينة عن الآلية، وعن مكانة الإنسان ورسالته من ضمن الميثاق الذي يحدد علاقته بإله حي ومتعالي،، ذلك أن تعاليمهما أكدت على الطابع القدسي و المتعالي لكلام الله ؛فالله هو مصدر الحق و الحقيقة و القانون الذي ينبغي للبشر أن يمشوا على هداه ؛لنيل النجاة الأبدية. إن الحقيقة بهذا المعنى واحدة وهي غير قابلة للمناقشة، كما أنها تتجاوز كل المعارف الفلسفيّة والقانونيّة باعتبارها شموليّة وإجباريّة،صالحة لكل زمان ومكان ولكل البشر.
ومن أجل البحث عن قراءة تحاول أن تقدم مغايرة عن البعدين التيولوجي، والأيديولوجي تأتي قراءة الأستاذ ناجح المعموري في تقديم تحليل للنص التوراتي يقوم على مقاربته مقاربة الأنثربولوجيا، وهو موجود بعدد مؤلفات تناولت دراسة المتن التوراتي ومقاربة البعد المثيلوجي فيه.
وكانت مقاربته الأولى والمفتاحية هنا هي”الاسطورة والتوراة قراءة في الخطابات المثيولوجية”وقد اكّد بها على إنه” لا يكاد سفر من أسفار التوراة يخلو من التناص مع الأنظمة الفكرية والدينية في حضارات الشرق المعروفة”ما تأثرهم بالديانة العراقية والثقافة، فهي لا تحصى وتومى لنفسها ؛ لانّ – العبران – لم يستطيعوا مقاومة تلك الأساطير والعقائد والطقوس عندما كانوا في بابل، إذ تسللت إلى نصوصهم وظلّت تكشف عن مكونها الأول ولما تزل مرآة تعكس حجم ونوع تأثيرات حضارات الشرق.
إذ يقوم الباحث بمقاربات بين النصوص الأسطوريّة والتوراتيّة مثل أسطورة المعذّب البابلي وسفر أيوب التوراتي، و تأصيل نشيد الإنشاد التوراتي بالغزل بين إنانا وتموز أو نشيد اخناتون ثم يخلص الى نتيجة مفادها :»إن الطقوس ومزاولة الاسطوريّة لم تكن كلها طارئة وإنما لها جذور تاريخيّة واجتماعيّة وسحرية ودينيّة”ص 18
وبالآتي فان تلك النصوص هي جزء من نسق ثقافي تم قطعها منه،ونقلها من نظام يقوم على التعدد والوثنية إلى نظام يريد لها ان تكون توحيديّة، أي تمّ تأميم تلك الأساطير وتحويلها الى نصوص مقدّسة.
وفي كتاب”الأصول الاسطوريّة في قصة يوسف التوراتي” في هذا الكتاب يقدِّم مقاربة جينالوجيا في بحوث متنوِعة يتناول بحوث متنوعة عن أساطير شرقيّة متنوٍّعة ؛ إلا إنّه يقف في الفصل الرابع عند أربعة مباحث يتناول فيها تعريف مفهوم التناص، ثم يحاول تطبيقه في المباحث الثلاث الآتية له، وهي من التراث العراقي، (ملحمة جلجامش وقصة يوسف التوراتي)، ثم يصل إلى استنتاجات، اليهوديّة كانت الأقرب إلى حضارات الشرق الأدنى القديم التي امتدّت من النيل إلى الفرات بخلفية بحرها الأحمر وأمامية بحرها الأبيض و بالذات الرافدينيّة والنيليّة الفرعونيّة،إنما كانت قلب مدنيات قديمة قدم الزمن البشري (ص10)
فالباحث يؤسس لمفهوم التناص معتمدا على بارت بقوله”كل نص هو تناص، والنصوص الأخرى تتوارى فيه بمستويات متفاوتة وبأشكال ليست عصيّة على الفهم بطريقة وبأخرى تعدّ نسيجاً جديداً من استشهادات سابقة موزّعة في النص، (مدوّنات،صيغ،نماذج ايقاعية نبذ من الكلام الاجتماعي)...الخ (187ص)
فهو يؤكد هنا على إنّ كل نص يتكون بالضرورة من نصوص أخرى واستحالة وجود نص مستقل عن غيره ؛ فهو هنا يقترب من نيتشه في تصوراته عن النص،ورفضه وجود نص يدّعي التعالي على بعده الأنسي، ويشير الباحث أيضاً الى جوليا كرستيفا في تصوراتها للتناص بوصفه”فسيفساء من قطع أحجار مختلفة وملونة”.وهنا تأكيد على إنّ النص هو عبارة عن حصيلة”جامع نصوص”تعتمد على الميراث المشترك للمنطقة بكل مكوناتها (العقائديّة والثقافيّة) يتم توظيفه لغايات متنوِّعة، ثم إن الباحث يتوقف عند باختين في قوله عن النص بوصفه كلاماً :»باعتباره شكلاً من أشكال التلفظ الانساني والذي يمكن للكائن الحي الفرد أن يدركه سابقا...ولأنّ الكلام... موجود داخل التجربة أي تجربة وهو يسبقها ؛ لأنّه مهدها وموطن نشؤها”(ص188)
أي إن التناص مرتبط بتجربة انسانية ما معبر ومشكل لها ؛ لأنه يمثل المرجعيّة بوصفه جزءً من اللغة التي هي بمثابة خزين لتجارب الكائن الحي كما يشير لهذا هدجر، فالكلام قائم على أعراف (لغوية واجتماعية وثقافية)،ومغروس بها وحاصل انتاجها ؛فعملية انتقاله لابد ان ينقل معه طبقاته المتنوعة من التروس التي مارست التواجد فيه ومن خلاله.
وانطلاقاً من كل هذا ؛فإننا نجده يقدم تحليلا للنصوص في الفصل الرابع باحثاَ عن الاستعارات النصيّة بكل تناصاتها، اذ يتوقف عند النصوص الآتية.
- بعد ان خلق جلجامش وأحسن الإله العظيم خلقه حباه”شمش”بالحسن وخصه”ادد»“بالبطولة، جعل الآلهة العظام صورة جلجامش تامة كاملة.الملحمة / ص76
- منح يعقوب (اسرائيل) ولده يوسف مكانةً خاصةً و متميزةً بين أولاده الكثر. و أما (اسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه ؛لأنه ابن شيخوخته فصنع له قميصاً ملوناً فلما رأى اخوته أنّ أباهم أحبه أكثر من جميع اخوته أبغضوه،و لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام) تكوين 37: 3-4
- جلجامش ابن لوجال بندا، الآلهة ننسون / اما ويوسف ابن يعقوب (ص195)
يظهر واضحاً آليات التناص القائمة على فعالية الاختيار والتفضيل للبطل على البقية من البشر،وهنا تبدأ عملية الصراع بين البطل ومن يحسده على مكانته.في هذا التناص يظهر جليا الطابع الأسطوري للنص التوراتي وتناصاته مع الأساطير وممارسته السرد القائم على التعالي لا يزيح عنه الاصل الاسطوري الذي اخذ منه، ثم يشير الباحث الى تناصات أخرى (كلاهما انتصرا في المحصلة النهائية. حيث تمكن الملك جلجامش بقوته الجسدية ومعاونة صديقه انكيدو من الانتصار على خمبابا إله الشر، وقتل الافعى واقتطع اشجار الارز وهذه كلها علامات تشير الى الديانة القمرية / وسلطة الآلهة الأم)(ص 197)
يشير الباحث في مقاربته النقدية الى دلالة المكان بين النصين ((يبدو بأنّ للمكان وظائفه الخاصة في النصين تجسدت في الملحمة من خلال سعي جلجامش لحماية المكان /أوروك من خلال استهداف غابة الأرز التي تسيّدت فيها سلطة خمبابا. وحقق الملك سيادة أوروك وهدوئها ؛ لأنه انقذها من البشر، واستفاد صناعياً وتجارياً.أما المكان في قصة يوسف التوراتي ؛ فإن وظائه تدميرية تمثلت في محاولة التخلص من يوسف،وحصول القطيعة بين يوسف وإخوته أي تحقق الاختلاف الظاهري / المعلن بين الجماعة والفرد.)(ص198)
أما في كتاب”موسى وأساطير الشرق”يؤكد في المستهل الباحث”لقد استعان العبران بالأسطورة من أجل صياغة نص صياغة متكاملة عن الشخصية العبرانية ومن تلك الصياغات، ما حصل بعد قرارات فرعون بقتل كل طفل تلده، إمرأة عبرانية، وهذا القتل يمثل جنيولوجيا تطور لاحقاً في القربان الجماعي”الهولوكوست”المبالغ به تماماً كما أنّ النص التوراتي، قدّم كشفا عن قوة وشجاعة القابلتين اللتين تحديتا فرعون،وأكّدتا بأن النساء العبرانيات يلدن بدون مساعدة القابلة”(ص13)هذا النص يحاول تجاوز القراءات التيولوجيّة العبرية والقراءات الأيديولوجية للصهيونية، ويحاول التأكيد على إنّ النص هو في كل تجلياته تناصات أسطورية مأخوذة من التراث القديم ومن ناحية ثانية يحاول استبعاد التعالي والاصطفاء والرجوع إلى مقاربة النص مقاربة عقلانيّة تدرك أن النص من الناحية الانتربولوجية نص أنسي بامتياز.