تلك المدينة كتاب قيد الإنجاز

تلك المدينة كتاب قيد الإنجاز

جاسم العايف
(تلك المدينة..) الكتاب الذي أنجزته، قسمه الأول يتحدث عن مدينة شعبية لم أولد فيها، بل عشت صباي وبعض سنوات شبابي فيها، برفقة أصدقاء، بعضهم ترك بصمة واضحة في الحياة الثقافية - الأدبية في العراق، والعالم العربي، وحتى العالم. اذكر اليوم الأول، الذي فيه:

تبعنا أبي في عصر يوم شتوي خمسيني، أمي وأنا وأختي وأخي الصغير، مشياً من موقع معمل الـ(بيبسي كولا الأهلي)،الذي لا وجود له، حينها، فقد أجهزت عليه قوات التحالف، في(حرب تحرير الكويت)، باعتباره مستودعاً لأسلحة الدمار الشامل التي في حوزة النظام!!. وتطايرت شظايا قنانيه ومعدّاته لتصيب من أخطأته حمم الـ(الكروز) والـ(توماهوك) القادمة من البحر الأبيض والأحمر ومياه الخليج العربي. أبي يمسك فأسه وأمي تحمل على رأسها (طاسة) البناء المملوءة بالجص المخلوط بالبورك، وأنا أحمل المسحاة، وأخي الصغير، قتيل عام1987، بقذيفة حرب قادمة من نهر عراقي خالٍ من الماء، ويقع في أقصى بقعة من جنوب شرق أرض الرافدين. أخي مسك خيط البناء، وأختي حملت الأوتاد الخشبية، التي صنعها أبي بيديه. سرنا، فريقاً، خائفاً، من غضب أبي الذي يعوض به جفاء أيامه، ومرارة زمنه، باتجاه الغرب نستكشف، مدينة خيالية، فلم نرَ فيها غير بضعة بيوت بُنيت بالطابوق، خُصصت للدرجات الدنيا في سلم موظفي المملكة العراقية. أما نحنُ سكان الصرائف، فعلينا أن نرحل، من أرض لا نعلم لمن تؤول ملكيتها، استحوذنا عليها مؤقتاً، بحكم الحاجة لمسكن لا يقينا حراً أو برداً، صرائف قصب نصبناها مقابل مقر”شركة نفط البصرة"، لعلنا نشم رائحة بترولها، الذي يفيض على العالم البعيد، ولا نجني منه غير القهر والتسلط والبربرية، والفقر. سرنا وثمة، دمدمةٌ، لمَنْ أمامنا وخلفنا، نحو مدينة الآمال، تدغدغنا بشارة الـ(طابو الأبيض) الذي وُعدنا بتحوله إلى الـ(طابو الأسود) وبه سنتحول إلى(ملاّك)، وستسجل أسماء آبائنا في سجلات البلدية بعدما كانت مسجلة، في دوائر التجنيد الإجبارية فقط. لم نجد، بعد وصولنا، غير ارض (سبخة) تحولنا فيها إلى عرصات و(شواخص أرقام)، وانتهينا في (العرصة 72) في (الفيصلية):
- مَنْ أطلق على تلك(السبخة) وجزرها الملحية المتناثرة، هذا الاسم الملكي؟.
البَنَاءُ أبي: بسمله، و حمد، وشكر، ومضى يدق الأوتاد الخشبية، ويمد الخيط ويوشحه بـ(الجص والبورك)، وحدد مساحة العرصة(100م2)، ثم أمرنا بالحفر. حدث ذلك في (أول لاين) من”الفيصلية": التي اتسعت، شمالاً وجنوباً واختلطت فيها الأعراق والأجناس والأديان والطوائف العراقية، ثمة: عرب، أكراد، تركمان، فيليون، بلوش، هنود، باكستانيون، إيرانيون، أفغان، مسلمون- بكل أطيافهم، مندائيون، أرمن، ارثذوكس، بروتستانت، كاثوليك. جامع ((سيد حيدر)).
في كل صباح من يوم الأحد تكنس أمهاتنا الطريق إلى (الكنيسة) ويرششنه بالماء كي لا يتطاير الغبار ويلتصق بملابس المسيحيات الأنيقات الذاهبات إلى الصلاة في (الكنيسة) عصراً. وكنا نصغي، بحبٍ، إلى دقات ناقوس الكنيسة. وبشغف طفولتنا الفقيرة، نتطهر بمياه نهر”الفيصلية"، مقلدين طقوس”مندائيي الفيصلية". وكم كان ممتعاً ارتيادنا وعوائلنا دار السينما الصيفية في أطراف (الفيصلية). لم يكن هناك سؤال عن هويّة ما، وتمييز على أساسها بين مستوطني المدينة. عراقيين كنّا: في الطرقات، المقاهي، ساحات كرة القدم، المدارس، حفلات الزواج، المآتم، وفي الأسواق التي تختلط فيها (الفيصليات)، سافرات، مؤمنات أو غير مؤمنات. وكان شائعاً تقديم”شاي العباس”ومعجناته بأيدي المسلمات والمسيحيات والمندائيات واليهوديات، في الطرقات عصراً، للـ(الفيصلين)).