فصل من كتاب المدى: مقدمة الكتاب..(أوّل نبضات حبّ لقلبي)

فصل من كتاب المدى: مقدمة الكتاب..(أوّل نبضات حبّ لقلبي)

كتب هذه المقدّمة: عمران صلاحي (الكاتب والمترجم ورسّام الكاريكاتير الإيرانيّ الشهير) في كتاب جمع فيه رسائل (فروغ) إلى زوجها (برويزشابور)، كما ساعده في تجميع هذا الكتاب: (كاميار) ابن الشاعرة (فروغ فرخزاد)، والكتاب بعنوان: (أوّل نبضات قلبي العاشق) عن دار (مرواريد) في طهران.

عزيزي (كامي)..
في الوقت الذي كتبت (فروغ) رسائل إلى (برويز) ما كانت تفكّر أن يأتي يوم وفضول يحشر رأسه فيها، رسائل كُتبتْ أحياناً بخوف وارتجاف وقلق وحبّ لتصل إلى يدَيِ المتلقّي.
في هذه الأيّام انتهت عادة كتابة الرسائل الورقيّة، من الآن ولاحقاً، بدل الكتابة على الورق علينا أن نحدّق على شاشات الهواتف والايميلات والفاكسات، برأي أيّ واحدة من هذه الوسائل لا تأخذ مكان الرسائل الورقيّة، الأشياء المخفيّة لها شعور أجمل..
رسالة تُكتب بخوف ورعشة وشوق ولهفة وتُقرأ في مكان بعيد عن الأنظار، أن ترفع يدك نحو الضوء، لتقصّ المكان الصحيح من الغلاف حتى لا تتمزّق الورقة، تفتحها بحذر وتعيد قراءة أسطرها سطراً وراء سطر لتنثّ من كلّ كلمة عطر المحبّ.
قلت «فضول».. هل تعلم أنّ هذا الفضول كان يسكن جوار بيتكم قربك أنت قرب فروغ وشابور، عشتُ سنوات عديدة هناك، وعائلتي ما زالت تعيش هناك، أتذكّر.. كانت في الشارع الذي نسكن فيه مدرسة باسم (سروش)، هذه المدرسة كانت تدرس فيها فروغ، كنّا صغاراً نلعب في الشارع، وكنّا نسمع أنّ هناك فتاة ترجع كلّ يوم من المدرسة تعبر الشارع بجدائلها المفتوحة، كانوا يقولون أنّها تكتب الشعر!..
فروغ في رسائلها تذكر الأماكن بدقّة، أنا أعرف هذه التفاصيل وأفهم فضاء شعر فروغ من الداخل.
في عام 1945 التحقتُ في العمل بجريدة (توفيق)، هناك تعرّفت على شخص عالي المقام (برويز شابور)، في ذلك الوقت.. ما كنت أعلم صلة برويز بفروغ، مرّة.. سألني برويز عن رأيي بفروغ، وأنا بصدق أجبته وإجابتي أعجبته جدّاً، ثمّ سألني عن (أحمد شاملو)، قلت له.. إنّني لا اعرفه، وفي اللقاء الثاني جلب لي معه كتاب لـ(شاملو) بعنوان: (العشق الجديد/ هواى تازه) الذي قرأته في ليلة واحدة ثم عرفت من هو شاملو.
شاملو كان يأتي للقاء برويز في مكتب الجريدة في شارع اسطنبول، لكن في ذلك الشتاء – أقصد العام الذي توفّيت فيه فروغ شابور – غاب عن الأنظار شهراً كاملاً، حتّى أنّه لم يحضر مراسم الدفن والتشييع، وفي ذلك الوقت كان له الحقّ بذلك لأنّ الصحفيّين والإعلاميّين كانوا يملؤون المكان..
مرّة.. شابور طلب منّي أن نذهب إلى بيتنا في (الجواديّه)، ركبنا وبدأت أمتّع نظري بكلّ الأماكن التي نعبرها، عبرت المركبة شارع (أميريه)، شابور طلب منّي أن ننزل في التقاطع ونكمل الطريق سيراً على الأقدام، مشينا في كلّ تلك الشوارع والأزقّة، شابور وقف قرب بيت وأشار إلى نافذة صغيرة وقال: إنّ فروغ كانت تقف وراءها، وهو كان يعبر أمامها باستمرار، وأشار إلى باب البيت، قال: هنا رأيت فروغ أوّل مرّة وفي هذا البيت طلبت يدها.
عزيزي كامي.. كنتُ صديق والدك لثلاثة وثلاثين عاماً، وعكس الجميع لم أسأل والدك عن فروغ يوماً، لكنّه في بعض الليالي كان يحكي لي ويشرب نخبها، لم يزل صوت شابور في أذني، كان يطلب منّي أن أقيّم عشق فروغ له وعشقه لفروغ!، شابور كان يحبّها كثيراً، وهي كانت تعشقه حتّى بعد انفصالها عنه عشقته أكثر من السابق.
عزيزي كامي.. أعرف أنّك لا تحب قراءة هذه الرسائل مثلما لم ترَ صور والدك في آخر أيّامه، أنا من بعد فروغ وشابور الشخص الثالث الذي يقرأ هذه الرسائل، كما أخبرتك.. أنا ( الفضول)، كم فعل شيئاً جميلاً – أبوك – حين احتفظ بهذه الرسائل، وأنت فعلت الصواب حين احتفظت بها، من بعده.. هذه الرسائل لم تعد تتعلّق – فقط – بفروغ أو شابور، هذه الرسائل إرث أدبيّ.. تذكار امرأة صرخت – ولأوّل مرّة – بصوتها الحقيقيّ، فروغ كما تتكلّم كتبت بذات العفويّة والصدق والقرب.. أيّ شعر وأيّ نثر!، ما بين هذه السطور تتحسّس أنفاسها وتشعر بها..
عزيزي كامي.. للأسف أنّ هذه الرسائل التي بحوزتنا من المرسل فقط، يعني أنّنا لا نملك الردّ، ربّما فروغ أتلفت الردود، أو أنّها أمّنتها بيد أحد، لا أعلم.. كلّ ما لديّ من برويز هو بعض الردود التي كتبت خلف رسائل فروغ، لكنّنا بعد قراءة ما كتبت فروغ نستطيع أن نخمّن ردوده، أعتقد أنّ الوقت قد حان لنشرها الآن، إذ لم تعد فروغ هنا ولا والدها ولا والدتها ولا شابور ولا والدته، لا يوجد أحد يربكنا.
سعيت من خلال الرسائل أن أعرف الترتيب الزمنيّ فيها،بعض من هذه الرسائل ليس لها تاريخ، ومنها مذكور فيها حتّى الوقت والزمان والمكان، سعيت أن يكون الترتيب الزمنيّ على مدى مراحل حياتها.
الرسائل مكتوبة أغلبها بأقلام مختلفة وعلى أوراق مختلفة، بعض المفردات تصعب قراءتها، فاضطررت أن أضع مكبّراً كبيراً لفهمها، وفيها مفردات ممسوحة من خلال ترتيب الجمل عرفتها، فروغ كانت تضع الفواصل بين الجمل، وأنا في الطباعة توخّيت ذلك، حتّى أنّها – أحيانا – تضع نقاطاً كثيرة بين الجمل، وأنا حسبت تلك النقاط بدقّة وكتبتها كما هي، والعنوان أيضاً، مأخوذ من إحدى رسائلها: (أوّل نبضات حبّ لقلبي)..
عزيزي كامي.. هنا أريد أن أبدي رأيي ولا أعلم إلى أيّ حد هو سليم، منذ أمد في الأدب والعرفان هناك جدل بين العاطفة والفكر، وهذا الصراع واضح في رسائل فروغ وبرويز، فروغ تتبع عاطفتها وبرويز يتبع عقله، – بالطبع – العاطفة تتبع الشعر والعقل هنا تابع للرسم الساخر، أحياناً.. يجلسان قرب بعضهما ويؤثّران على بعضهما، من جانب السخرية يدخل إلى فضاء شعر فروغ، ومن جانب آخر تدخل الكلمات إلى الكاريكاتير الذي هو عمل برويز في الصحف، العاطفة والعقل بكلّ التضادّ الذي بينهما يحملانه معهما ويكملان بعضهما به، كامي.. أنت مجموع هذا الخليط، وليس بأمر اعتياديّ حين نشر قصيدة لك الشاعر أحمد شاملو في الصحيفة قائلاً: «إنّ كاميار أخذ السخرية من والده وأخذ الشعر من والدته».
دعنا نرى جانباً من الرسائل..
في رسالة.. رسم برويز في نهايتها لغزاً لفروغ، فكتبتْ إليه: «حبيبي برويز.. في نهاية رسالتك رسمتَ لي رموزاً لم استطع تفسيرها، ما تعني (ق. ت / ب.ش )؟، أقسم إنّني لا أفهم هذه الرموز، (ب. ش) بالطبع هو اسمك ولقبك، ما تعني بالحروف التالية؟، لا أعلم.. ربّما تخطّط لشيء ما لي».
كامي.. هل ترى أباك؟، منذ ذلك الوقت يحمل في روحه حسّ الدعابة، هو ما كان يريد أن يكتب: (فداكِ برويز شابور)، لذلك كتب حروفاً مختصرة، ربّما كان يريد المزح، أو أنّه يخشى أن تقع رسالته بيد أحد غير فروغ، لكن سرعان ما اكتشفت السرّ كتبت إليه قائلة: «إنّني عرفت السرّ، ومن باب العناد سأكتب مثلك تماماً (ق.ت/ ف.ف)..
هنا نرى عقد العاطفة والسخرية، تكتب إليه.. تخبره: «عزيزي برويز.. تعرف لِمَ أحبّك؟، لأنّك الوحيد الذي لم تقف أمام أسئلتي حائراً، كلّما أسألك سؤالاً تردّ بإجابة منطقيّة تثير عجبي، ذكاؤك يثير عجبي باستمرار.
هذه إشارة إلى روح برويز وسخريته في الوقت الذي كانت فروغ مخبوءة وراء روح مرحة في فترة دراستها، تكتب إليه: «برويز.. أريد منك أن تدعو لي لأنّ فترة الامتحانات قريبة، أنا واثقة أنّ دعاءك مستجاب، قل يا ربّ أوصل فروغ إليّ وأوصلني إلى فروغ، وأوصل فروغ إلى الدرجة الكاملة أو حتّى النجاح أو على الأقل النجاح في مادّة الكيمياء».
كامي.. لا أعرف وقتها كم أخذت فروغ بمادّة الكيمياء، لكنّني متأكّد أنّها أخذت الدرجة الكاملة في الشعر..
الآن.. أحشر رأسي – فضولاً – برسائل كانت تحافظ عليها كثيراً وتوصي برويز أن يرسلها باسم مستعار إلى مكتب الجريدة لكي تصل إلى يد زوج أختها (سيروس بهمن)، كانت تجمع فروغ بأختها (بوران) علاقة مثاليّة، فهي الوحيدة التي كانت تشعر قربها بأمان وكانت تخاف عليها من الأذى، كتبت عن مدى علاقتها بأختها: «بوران – من بين جميع أفراد أسرتي – هي الوحيدة التي تحافظ عليّ، وهي الوحيدة التي تعرف مسؤوليّتها «. فروغ في البيت ما كانت تشعر بأمان، كانت تتعذّب كثيراً لتكتب رسالة إلى حبيبها، مع أنّهما كانا قريبيْن، لكن كانت الزيارة لبيته ممنوعة، وكانت الرسائل رابطهما الوحيد، مرّة.. ذكرت أنّها في حين كتابة رسالة لبرويز.. أخذوا منها الضوء الذي يعمل على النفط، ووقع شجار بينها وبينهم فاضطرّت إلى أن تكمل رسالتها في العتمة.
فروغ كانت تعشق برويز.. كتبت إليه: «نظرةٌ واحدةٌ مِنْكَ، لمسةُ يدِكَ، قبلةٌ واحدةٌ مِنْكَ.. تكفيني لأستغنيَ عنْ كلِّ شيءٍ، أسخرُ مِنَ الذين يجدونَ السعادةَ في جمعِ المالِ..»..
فروغ المحرومة من حنان الأهل تلجأ إلى أحضان حبيبها، تقول إليه: «برويز.. لا تعرفُ كمْ أحبُّكَ، ولا أعلمُ كمْ عليَّ أنْ أنتظرَ حتّى أضمَّكَ ثانيةً بينَ أحضاني، قلْ لي.. متى يأتي ذلكَ اليومُ لأصلَ إلى السعادةِ؟»..
هذه ليست رسائل، إنّها لهفة وعشق وشعر فروغ، هذه الفتاة الصغيرة كانت متعطّشة للحبّ، تقول: « أنت لا تستطيع أن تدرك أنّني كم بحاجة للحبّ، أنا في الحياة العائليّة لم أكن يوماً سعيدة، ولم أتمتّع – أبداً – بصحبة أحدهم»..
فروغ كانت تبحث عن المحبّة بعشقها إليه، فتاة لا تهمّها الماديّات، لا تريد المرح، من هم حولها لا يؤمّنون لها المحبّة الكافية، تلجأ إليه ليدرك تجليّات روحها..
كانت تريد أن تجد في الحبيب الأب المرشد، الأمّ الحافظة للإسرار، والأخ والأخت اللذيْنِ يحميانها ويسلّيانها.
عزيزي كامي.. فيما بعد هي تذكرك كثيراً في رسائلها اليوميّة، تقول: «إنّ كامي منذ الصباح وإلى الليل يلعب ويشاغب، وأنا في هذه الفترة في الطابق العلويّ في غرفتي أقرأ وأحياناً أكتب، وحين أضجر أذهب لأجلس قرب أمّي».