3 لقاءات مع جمال

3 لقاءات مع جمال

"إبراهيم طلعت عاوز يغلبني بطيبة قلبي و50 راجل.. هو بيظهر ما بيعرفش جمال عبد الناصر"
سمعت خبر إقالة محمد نجيب في مكتب الزعيم الخالد البطل الذي ملأ حياتنا بالآمال، ملأها، أيضاً، بالذكريات. ذكريات تتعدى اللقاء بين الاشخاص الى اللقاء مع التاريخ. فمهما حاول الواحد منا ان يستجمع ذكريات تلك الدقائق التي أتيح له فيها ان يلقى البطل الخالد، او ان يتحدث إليه، فانه يجد ذكريات اخرى تطغي عليها.

ذكرى ذلك الصوت الذي هدر في الاسكندرية، يوم اطلق عليه النار، صارخاً:"كل واحد منكم جمال عبد الناصر"، فكانت ولادة بطل. وذكرى تلك الضحكة التي هزت مشاعر كل عربي بل كل انسان في العالم الثالث – وهزت آخر معاقل الامبراطوريات – يوم، اعلن تأميم القناة، صافعا – لاول مرة منذ ألف عام – الخد الاستعماري المصعر.
وذكرى الصمود في وجه العدوان والصوت الذي راح يهدر من فوق منبر جامع الازهر:"سنحارب، سنحارب"!
وذكرى وصوله الى دمشق، وخروجه على شرفة قصر الضيافة لتحية الجماهير العربية التي راحت تتطلع اليه كما لم تتطلع العرب الى انسان منذ صلاح الدين، بل ربما منذ الخلفاء الراشدين.
وذكرى ذينك اليومين الاسودين: يوم الانفصال ويوم نكسة 1967، عندما كان كل عربي يتطلع اليه وهو يعاني مشيئة القدر، وفي قلبه يتصارع الايمان والهلع.
ذكريات.. بل ساعات خالدة، يكفي اي واحد من الذين عاشوا تلك الاسطورة، ان يغمض عينيه لحظة لكي يستعيدها حية، وتتراءى في مخيلته صورة ذلك المارد الاسمر، بابتسامته الحبيبة، وعينيه اللتين تشعان ذكاء وطيبة.
ذكريات، سوف يحسدنا عليها اولادنا واحفادنا من بعدنا، أين منها الذكريات الخاصة التي سنتحدث عنها؟!
* لقاء في منشية البكري
كان ذلك في صيف عام 1954. لم يكن قد مضى على ثورة 1952 سوى سنتين.. كان جمال عبد الناصر نائباً لرئيس الوزراء، ومحمد نجيب رئيسا للجمهورية والوزارة، ولكن الدوائر السياسية والصحافية كانت قد بدأت تعرف من هو رئيس الضباط الاحرار الحقيقي، ومن هو الحاكم الفعلي في القاهرة.
وكانت الثورة المصرية في اول عهد لقائها مع الصحافيين والسياسيين العرب واللبنانيين، يتولى ذلك (الصاغ) صلاح سالم، وزير الارشاد القومي، رحمه الله، وقاد الجناح وجيه اباظه، و(الصاغ) عبد القادر حاتم.
وكنا ثلاثة زملاء، جمعتنا الصدفة في القاهرة: فريد ابي شهلا ومحمد بديع سربيه وانا، فسألنا ان نجتمع بجمال عبد الناصر، بعدما كنا، كسائر المراقبين والصحافيين، قد بدأنا نسمع بانه هو القائد الفعلي للثورة.
وفي الساعة الثامنة صباحا، جاء وجيه أباظه يحملنا الى منزل نائب رئيس الوزراء، البكباشي جمال عبد الناصر في منشية البكري.
المنزل نفسه الذي ظل الرئيس الخالد مقيما فيه حتى آخر حياته، ولكن قبل ان تضاف اليه الغرف الجديدة، بعد انتخابه لرئاسة الجمهورية. وهو منزل عادي، ذو طبقة واحدة، امامه حديقة صغيرة.
دخلنا، على ما اذكر غرفة صغيرة تحتوي على مكتب صغير وبضع مقاعد، كل شيء كان يدل على انها كانت مسرح اجتماع لم ينته الا منذ ساعات: لاأوراق والملفات على المكتب، ومنفضة السجائر المليئة بالاعقاب (في تلك الفترة كان جمال يدخن ثلاث علب دخان يوميا).
وفيما نحن ننتظر، دخل علينا طفل لا يتجاوز عمره الرابعة او الخامسة، لعله خالد او شقيقه الاصغر، وكان يرتدي ملابسه الداخلية، ولكنه لم يمكث طويلا اذ جاءت الخادمة فاخذته من يده خارج الغرفة.
ولم تمض دقائق حتى دخل علينا شاب عريض المنكبين، طويل القامة، يرتدي قميصاً أبيض وبنطلونا رماديا، اسود الشعر، اسمر الوجه، وهب وجيه اباظه واقفا معرفا: جمال عبد النصر.
* البندقية.. والصورة
للوهلة الاولى دهشت لهذه البساطة (وفيما بعد أدركت ان هذه البساطة كانت من أهم اسباب تعلق الانسان العربي بجمال عبد الناصر، لانه رأى فيه انسانا قريباً منه، بملامحه و"شعبيته"وبعده عن التكلف). فالرجل الذي يحكم مصر، لا يتصرف وكأنه يمثل دورا، ولايشعرك انك امام رئيس او حاكم.
رجل يستقبلك في منزله المتواضع، بقميص صيفي ابيض، ويتبسم وهو يحييك، فشعر بانك امام انسان متواضع حيي، لا امام رجل يحكم مصر اي يجلس على عرش الفراعنة وصلاح الدين.
وشاهد المصور معنا، فقال: ضروري الصور؟!
واجاب فريد ابو شهلا، على ما اذكر ان الصورة بالنسبة الى الصحافي هي كالبندقية بالنسبة الى الجندي فابتسم، رحمه الله، وقال:
"- يطيب. ما تروح تلبس جاكيت وكرافاته.."
قالها بكل بساطة ودون تكلف او تأفف، وغاب دقيقتين ثم عاد مرتديا جاكيت بيضاء وكرافات خضراء وبيضاء على ما أذكر.
وجلسنا في الصالون (الذي صار يضع على رفوف المدفأة فيه، فيم بعد صور زعماء العالم المهداة اليه). ودار الحديث حول السياسة ولبنان وسوريا. والاخوان المسلمين.
والتفت نحوي وقال:
- ازاي الاخ صلاح! (وكان يقصد الصاغ صلاح سالم وزير الارشاد القومي الذي كانت تربطني به صداقة شخصية وكان يخصني بتصريحات خاصة يهاجم فيها بعض الانظمة العربية).
وأدركت انه علم بتصريح اعطاه لي صلاح سالم في المساء الفائت وهاجم فيه الحكومة السورية.. فقلت:
- التصريح لم ابعث به بعد لبيروت فابتسم وقال:
- هو صلاح، عصبي شوي، وانت بتثيره عن طريق تذكيره بما يقال ويكتب – طبعا ده شغلتك".
ودارت الاحاديث وكنت اتملى في وجهه الاسمر وعينيه العجيبتيّ اللون.
* فلسفة الثورة
كان قد سبق لي بالرغم من انني كنت في بداية حياتي الصحافية، ان قابلت عدداً من الرؤساء والزعماء والسياسيين العرب. وكنت اشعر، مع معظمهم بانهم"يمثلون"أي انهم"يضربون بوزات"، او يتحدثون بلهجة نحوية، وكأنهم يخطبون امام جماهير او يكذبون..
ولاول مرة شعرت انني أمام انسان"طبيعي"وحاكم"غير عادي"اي امام زعيم ثورة، لا يرفع صوته ولا يتكلم بلهجة خطابية ولا يرسل تصريحا برسم الاستهلاك.
ولكن وراء هذا الهدوء، بل ذلك التواضع واكاداقول ذلك الحياء، كنت اشعر بقوة هائلة، وبطاقة جبارة، هي مزيج من الثقة بالنفس، والايمان بالقضية التي يعمل من أجلها، ايمانا عميقا وصامتا.
كان كتاب"فلسفة الثورة"، قد خرج، لتوه، من المطبعة، ولاحظت حرصه على ان يهدينا الكتاب موقعا منه، وطلب من احدنا قلم الحبر، وهو يقول مداعبا:
- بالطبع، حاملين قلم!

* ابراهيم طلعت.. وطيبة قلب ناصر
وبينما نحن نستمتع بحديثه، دخل عبد الحكيم عامر وضابط آخر، ثم رن جرس الهاتف. وتطلعنا الى وجه جمال عبد الناصر وهو يستمع ويهز رأسه، ولاحظنا ابتسامة عصبية ترتسم على شفتيه.
وما ان انتهت المخابرة وكانت طويلة، حتى التفت الينا وقال:
- لقد القوا القبض على ابراهيم طلعت. (كان رئيس الجهاز السري في جماعة الاخوان المسلمين وقد حوكم وحكم فيما بعد).
وهز رأسه وقال بلهجة يمتزج فيها الالم بالمرارة:
- هل عرفتم ما قال طلعت عند القبض عليه؟
ولم ينتظر جوابنا، بالطبع، وتابع قائلاً:
- سألوه، بعد القاء القبض عليه، ازاي انت كنت ناوي تستولي على الحكم؟ فأجاب: انو الخطة كانتتقضي بان يرتدي خمسون عضواً من المنظمة، لباس البوليس، وان يدخلوا مبنى رئاسة الوزارة لاحتلاله.
ولما قيل له، ان في رئاسة الوزارة حرسا قادراً على الدفاع قال: انا معتمد على جمال عبد الناصر، هو لما يشوف الحرس مشتبك مع الاخوان، حيرق قلبو ويستقيل!؟"
وإبتسم جمال عبد الناصر والتفت الينا، وقد لمعت عيناه وقال:
- يعني هو معتمد على طبيعة قلبي! طيب ما هي طيبة القلب لها حدوده! يعني عاوزني اتركه يقيلني بخمسين راجل.. وانا بتفرج عليه! والله.. كويسه دي! هو بيظهر ما بيعرفش جمال عبد الناصر..".
وكانت اللحظة الوحيدة التي ظهرت عليه فيها علامت الانفعال. وكان ذلك طبيعيا، فالانسان، مهما كان جبارا وقوي الايمان والاعصاب، لا يمكن الا ان ينفعل ولو ثانية، ازاء خبر اعتقال الرجل الذي كان ينوي اغتياله.
* الركض خلف الدوائر
خرجت، يومذاك، من البيت الذي لم يكن يمر ببالي انه سيصبح، يوما، قبلة انظار مائة مليون عربي، وأنا مفعم القلب بهذا اللقاء. لم اكن قد غزت بحديث صحافي هام، فالانوار كانت حتى تلك الساعة مسلطة على محمد نجيب ولم يكن ما قاله لنا جمال خطيرا. ولكنني كنت تحت تأثير عجيب، هو مزيج من الاعجاب العارم بالرجل، ومن الشعور بان شيئاً غير عادي ينتظر هذا الرجل.
وجلست في غرفتي في الفندق اقرأ كتاب"فلسفة الثورة"، الدائرة العربية ثم الدائرة الافريقية، ثم الدائرة الاسلامية، والدور الذي يبحث عن بطل..
وراح مخيلتي تلهث وراء تلك الصفحات التي كانت تروي احلام بل نبضات قلب كل شاب عربي. ولم انم ليتذاك الا قبيل الفجر لانني، ولست أدري تحت أي تأثير، جلست اكتب مقالا عن تلك المقابلة.
وأذكر، (وليعذرني القراء على هذه المصارحة التي يأباها التواضع وان كانت الحقيقة تفرضها) إنني كتبت في مقدمة المقال الذي نشر في جريدة"الجريدة"أقول:"لقد اجتمعت أمس، برجل ليس كغيره من الرجال، وبمسؤول يختلف عن كل المسؤولين العرب الذين إجتمعت بهم حتى الآن!.. ان جمال عبد الناصر، اذا ما قيض له ان ينجح في ثورته، سوف يغير مجرى تأريخ هذا الشرق".
لم يكن هنالك من مبرر، بالفعل، لاكتب ما كتبت، فلا الاحاديث المتبادلة – وكان الزميلان أبي شهلا وسربيه شاهدين – ولا تصريح معين او كلمة او عبارة، جعلتني اكتب ما كتبت، ولكنه شعور عميق واحساس غريب بانني امام رجل لا كغيره من الرجال.. هو الذي جعلني اصبح"ناصريا"منذ الساعة الاولى التي اجتمعت فيها بجمال عبد الناصر..
* حضرت أقالة محمد نجيب
وكانت بداية قصة طويلة، لا قصتي الخاصة مع الثورة او مع جمال عبد الناصر، بل قصة كل عربي، رافق أحداث تلك الاسطورة التي ايقظت الشرق من سبات القرون.
كان لقائي معه، كلقاء كل عربي، يوم كان يخطب ويوم كان يؤمم ويوم كان يهاجم الاستعمار ويكسر الاحتكارات.. وأتاحت لي ظروف صحافية واخرى سياسية ان اسعد بلقائه اكثر من مرة.
مرة يوم أقيل محمد نجيب من منصبه، وكان صلاح سالم قد دعاني الى الغداء، فلما استمرت جلسة مجلس قيادة الثورة حتى الثالثة والنصف وانا انتظر في غرفة"صلاح الشاهد"، في مقر رئاسة الوزراء، خرج صلاح، رحمه الله، معتذراً وقائلاً:
- حتكون أول صحافي يعرف"بخبر إقالة محمد نجيب".
وبعد نصف ساعة خرج الضباط الاحرار. وجاء صلاح سالم فاخذني الى مكتب جمال عبد الناصر حيث جلسنا نستمع الى الخبر يذاع من الاذاعة في الساعة الرابعة تماماً.
ومرة ثانية، يوم قام حميد فرنجية، وزير الخارجية يومذاك، بزيارة القاهرة، عام 1955، فلقد أسعدني الحظ أن القاه، خلال الزيارة الرسمية، أكثر من مرة، على العشاء في قصر القبة، ثم في السفارة اللبنانية.
مجلة الصــياد - 1970

ذات صلة