ترجمة زيد العامري
تتميز جين اوستن عن الروائيين الاخرين، بكون تفاصيلها في الوصف مقتضبة. ولاتبالي كثيرا بعالم الطبيعة، حتى بحظور شخصياتها، ناهيك عن بيئاتهم الاجتماعية الواسعة، وناهيك ايضا عن العالم غير البشري المحيط بها. من الصعب جدا تصور وجود كاتب يسد الباب بوجه عالم البيولوجيا والعالم المادي بقوة، بمعنى اخر يصعب تصور وجود كاتب يبتعد عن دارون.
والرواية وإن استعرضت لما يبدو انها الاخلاق المتحصنه لشريحة صغيرة من مجتمع ريجنسي، غير اننا نرى امكانية تفسيرها ولو جزئيا بمبادئ ضاربة جذورها في الماضي التطوري. دعنا ننظر لاحدى ابطالها غير المتسم بالحيوية كثيرا، البطل الاقل وجودا في البيت و في العالم المادي الا وهي شخصية”فاني”في رواية مانسفيلد بارك.
تتسم كل روايات اوستن بانها روايات حب، وتعتمد قوتها على المشكلة الانسانية العامة والمركزية - وهي مشكلة نشترك بها مع معظم الحيوانات- المتعلقة باختيار وكسب الشريك المناسب في الحياة الزوجية. ولذلك فهي تجعل من هذا الخيار اكثر مركزية لعملها واكثر الحاحا مقارنة بروائيين كبار. فنراها تلمح وتشير الى الاختيار الدقيق المناسب لشخصيتها بسرعة، لكنها تمسك عن اتمام هذ الاختيار لاحد شركاء بطلتها الى ما قبل نهاية الرواية ببضع صفحات. ونتطلع للقرار الصائب بكل الاهتمام الذي نوليه لنتيجة حاسمة وحيوية، لكننا لن نكون متاكدين ابدا اننا سنصل الى القرار. تستعمل اوستن كل مهارتها في السرد لتخلق الشد، ولترسم الخطوط الاولى، وتستطرد، وتعرض وتطرح القرارات البديلة التي تقترب جدا من التحقيق والانجاز والاتمام. وتقوم اوستن بمضاعفة وزيادة الخيارات والمعوقات وذلك عن طريق مضاعفة عدد الشباب والنساء المؤهلين للزواج. ومثلما حدث في ماضينا التطوري وفي حاضرنا الراهن،فاختيار الشريك يتم في مجمع تنافسي مزدحم.
تركز اوستن كثيرا على دور المراة في الاختيار والذي اشار دارون الى اهميته باعتباره القوة المحركة للانتخاب الجنسي. ولقد عارض كثير من العلماء الذكور حتى السبعينات والثمانينات فكرة دارون تلك ولم يؤمنوا باهمية دور المرأة في الزواج. ولكن تغيرت هذه النظرة جذريا عام 1972 حينما قدم روبرت ترايفرز – احد الباحثين في مجال نظرية التطور- تعريفا للاستثمار الابوي بكونه اي استثمار من قبل الاباء الى احد الابناء والذي يزيد فرصة النسل في البقاء (وبالتالي نجاحه في التكاثر والانجاب) على حساب قدرة الاباء في نسل اخر. ولاحظ انه في كل الانواع التي يكون فيها استثمار الانثى في انجاب الاولاد اعلى من استثمار الذكور (وهذا حادث تقريبا في كل انواع الحيوانات)، فالانثى هي التي تختار مايناسبها من بين الذكور.
نجد ان الاناث في البشر كما في الانواع الاخرى، إذ تكون تربية الاولاد بحاجة الى استثمار عالي من قبل كل من الذكر والانثى، هي التي تقوم باختيار الذكور على اساس قدرتهم على المساعدة في تربية الاولاد. وفي حالة البشر، وجدت الدراسات الحديثة بين الثقافات المختلفة انه حين يتعلق الامر باختيار الشريك، نجد ان النساء يشددن، اكثر مما يفعل الرجال، على الموارد المالية للشريك المحتمل. في رواية بارك مانسفيلد، الشخصية الاولى التي تخطب، الشخصية ذات الاختيار الاول، هي ماريا برترام. فمن عساها توافق على الزواج منه؟ هو روشورث الذي تصادف انه اغنى شاب موجود. ومعلوم ان الرجال يسعون وراء النساء اللائي يقمن هن بدور الاختيار. ولقد اوضح دونالد سيمون في كتابه (تطور الطبيعة الجنسية عند البشر)، ان العلاقات بين الرجل والمراة تتحدد بدرجة كبيرة بطبيعة النساء ومصالحهن.
ولربما تبدو اوستن بعيدة جدا عن المفاهيم البيولوجية، لكنها تركز باستمرار على امر اساسي لنوعنا الا هو اختيار النساء للرجال: (إليزابث بنيت) تختار دارسي بدلا من (كولينز) غير الواعد وتفضله كذلك على (وكهام) الجذاب الساحر في البداية؛ وتقف ايما بشدة ضد (التون) وتفكر ب(فرانك شرشل) قبل ان تدرك تحت ماتعتقد انه خطر التنافس من (هاريت سميث) بانها تريد (نايتلي). ورغم كون (فاني برايس) وديعة وخانعة اصلا، الا انها وبرغم الضغط المسلط عليها من قبل خطيبها نفسه ومن قبل اقاربها المؤثرين للقبول ب(هنري كراوفورد)، تصر على رفضه لانها ترى شخصا اخرا تستطيع الوثوق به والاعتماد عليه كثيرا باعتباره شريكا لها وابا لاطفالها، وقد اصابت في ذلك.
واختيار فانسي هو الاختيار المهم والرئيسي في بارك مانسفيلد، لكن اوستن لاتتبع هذا الخط فقط في الطريق الرومانسي لتحقيق الرغبة؛ فهي تجول حوله.
في الانسان حيث مبتغى الانثى هو احتكار شريكها الذي تحلم به- وتوجيه موارده الاجتماعية والمادية لمصلحة اطفالها- يكون التنافس مع اناث اخريات امرا محتوما. وهذا الامر هو مايشكل ويشغل جزءا كبيرا من دراما الرواية في البداية، في الشد بين (جوليا) و(ماريا) حيث يتنافسان على وصال (هنري كرافورد). فتفضيل (ماريا) للموارد المالية اثبت خطأه لان (روشورث) لايستحق الاندفاع نحوه للزواج منه فرغم انه غني لكنه غير ذكي. وحينما يظهر شاب اكثر غنى منه واكثر ذكاءا وبارع في وسيلة الاغراء، نجد ان (ماريا) تعيد حساباتها للتنافس حتى مع شقيقتها غير المتزوجة. فالنساء في كل العالم يقدرن الذكاء (القابلية على حل المشاكل) وكذلك المهارات اللفظية (القابلية على اقناع الاخرين) في الشريك المرتقب: ليس بمعنى انهن يخترن،عن وعي، الرجال في ضوء هذه الاسس لغرض زيادة وتعظيم موائمتها التناسلية (reproductive fitness) :بل ان الطبيعة وهبت قواها العاطفية تلك الاشارات المباشرة الايجابية المهمة في الاختيار. ولربما كان التطور السريع للذكاء البشري، حسبما يرى (جفري مللر)، ناتج الانتخاب الجنسي من قبل كل من الذكور والاناث:”القشرة الجديدة في الدماغ (neocortex) هي اساسا الة تودد لجذب القرين الجنسي والتمسك به: ووظيفتها التطورية الدقيقة هي تحفيز وتسلية الاخرين وكذلك لتقويم محاولات التحفيز عن الاخرين".
نرى ان (فاني) تتفرج مرعوبة ومذهولة من التنافس على وصال (هنري) والظفر به ولكنها تبقى خارج التنافس. ورغم انها لم تزل شابة، الا انها متكتمة وقليلة الحيوية والنشاط ؛ وهي امور يأخذها الرجل بنظر الاعتبار لقدرة المراة على تربية الاطفال ولهذه الامور كلها لم ينظر اليها (هنري كرافورد).
غير ان (فاني) لها مصالحها الخاصة بها، ورغباتها الخاصة: فهي تحب (ادموند) الذي ابدى اهتماما حقيقيا بها منذ وصولها الى بارك مانسفيلد. ومثلما تتصارع وتتنافس (ماريا) و(جوليا) حول (كراوفورد) فهي ليست قادرة على المنافسة. ف(ماري كراوفورد) لها ايجابيات تتفوق بها على (فاني): العمر (فمتوسط الفرق حول العالم بين الرجال في بداية عشرينياتهم واعمار النساء التي يرغبونها ويحبونها جدا هو سنتين ونصف[ ادموند عمره 24 عاما و(ماري كرافورد) عمرها 21 عاما اما هي (اي فاني) فعمرها 18 ] عند بداية احداث الرواية)؛ الصحة؛ الحيوية، الشطارة والموقع الاجتماعي. ونحن نرى ان مصدر كثير من المرارة والحزن في الرواية متات من ان (فاني) تحب وتعشق رجلا تشعر انها ليست في مقام التنافس عليه: فهي لاتستطيع ان تباري تفوق (ماري) عليها فضلا عن انها لاتحلم اصلا بان بامكانها فعل ذلك. وكانت فقط تراقب وتنتظر حين وقع ادموند تحت سحر (ماري) واخفق في ان يرى فروقات القيم بينهما مثلما هي تستطيع رؤية ذلك. ثم بدات الدراما بالتحول؛ فيغادر (هنري كراوفورد) مانسفيلد ولم يتعجل الرجوع،لانه لم يكن جديا حول ايا من ماريا او جوليا.
في معظم الانواع التي تتكاثر جنسيا، يكون هدف الذكور اما تخصيب اكبر عدد ممكن من الاناث او البقاء مع انثى واحدة والقيام برعاية الذرية. في حالة البشر(وفي انواع كثيرة من الطيور) تكون الستراتيجية الثانية هي المفضلة رغم ان المسار الامثل للذكر كما لاحظ (ترايفرز) هو ستراتيجية خليطة. حتى لو كان هدف الذكر هو الاستثمار البعيد المدى، الا انه يمكن ان يكون للاغراء والاستسلام اهمية وراثية، شريطة ان لاتاخذ كثيرا،من الجيل او النسل الذي استثمر فيه الذكر، من الوقت والموارد الاخرى.
يعود (هنري كراوفورد) الان لمانسفيلد بعد ان تفضل (ماريا)، حانقة بسبب هجره المفاجئ لها، الزواج من (روشورث) نكاية به.وترافق (جوليا) العرسان الجدد في ترحالهم لذلك تبقى (فاني) المراة الشابة الوحيدة في مانسفيلد. يسلي (هنري) نفسه بمحاولة ان يجعلها تقع في حبه. ان رغبته الصريحة في ان تحبه النساء- جوليا، ماريا، و(فاني) وكثيرات في ماضيه القريب في لندن- تعكس جانبا من الحافز الجنسي عند الذكر. فهو لم يعاشرهن جنسيا في الفراش ولكنه يتلاعب بعواطفهن؛ لان معايير المجتمع قادرة على احتواء دوافعه الجنسية والتحكم بها- وإن كان لوقت قصير فقط كما سيتبين.لان عالم مانسفيلد الصارم والمتزمت لايمكنه تحمل واستضافة شخص لعوب جدا مثله طويلا، ولن يفرض على (فاني) باعتباره شريكا محتملا.
قد لايكون (هنري) متحلل وداعر تماما لكنه تميز في علاقاته النسائية بكونه محتال: فهو يهدف الى تحصيل لذة الشعور بانه محبوب من قبل الاخرين دونما كلفة وثمن. وكما راينا، فان القدرة على الخداع وكشف الخداع يبدوان انهما قد فرضا ضغطا على تطور الذكاء البشري. يشير ترايفرز انه اذا كان الخداع مطلوبا فلأنه ضروري للتواصل البشري، وبالتالي كان هناك انتخاب قوي لرصد الخداع والذي ادى هذا بدوره لانتخاب درجة من الخداع الذاتي. وهذا بالتالي يجعل بعض الحقائق والبواعث غير متعمدة (غير مدركة) لاجل عدم كشف وتبيان ممارسة الخداع. في البداية يجهد (هنري) فقط لايقاع (فاني) في حبه لانه يجد التحدي ممتعا. وقد كشفت هي خداعه لماريا وجوليا وانه يجيد قراءة الاخرين لانه كشف رفضها له.
لكن هنري بدأ يشعر انه حقا واقع في غرامها. وهنا نرى ان الرجال قد يميلون بفعل عملية التطور لنشر بذورهم (اي حيواناتهم المنوية) على نطاق واسع، ولكنه في المقابل ايضا عمل التطور على جعل الرجل ينجذب بقوة للوقوع في غرام امراة تثبت انها تصونه وتخلص له. يجد هنري نفسه قد ايقظه وبقوة اصرار وثبات (فاني)، وقوة شخصيتها كالصخر. وواعيا بان النساء يقدرن الرقة والعطف وعارفا بان القلق الوحيد الذي تعترف به فاني هو مايتعلق باخيها الاثير لديها والمتعثرة وظيفته في البحرية، لذلك ابدى لها عنايته وميزات موقعه الراقي عندما يدبر ترقية لاخيها وليام. فهو يتقدم لخطبتها وهي تقاوم، هو يلح وكل ضغط مانسفلد سلط عليها. ومع انها كانت دائما ولحد الان متواطئة بخنوع، فهي لاتزال تقاوم وتصد. لقد بينت الدراسات وسجل التطور كذلك ان خير مؤشر للخيانة في المستقبل هو التحلل من المسؤولية في الماضي، ومع ان هنري قد شغل نفسه في الانغماس في التلاعب بالعواطف وليس بكثرة العلاقات الجنسية، فقد لاحظت (فاني) ذلك جيدا ايضا.
عند هذه المرحلة يصدق هنري نفسه انه قد تغير وانه اصبح رجل اخر. وهو يلح في خطب ودها لكنه هو مخدوع في نفسه. لاننا نجده في لندن، ولقاءه بماريا التي لاتزال غاضبه منه، لم يستطع مقاومة محاولة اعادة الهاب مشاعرها وعاطفتها. ونجح جيدا في ذلك ايضا والذي كانت نتيجته الزنى بها. وكما يلاحظ (مات رايدلي) في كتابه الجنس وتطور الطبيعة البشرية،”فنحن مجبرون على نظام عدم تعدد الزوجات الموبوء بالزنى".
تمكنت (فاني) من قراءة افكار هنري بافضل مما استطاع هو ان يقرأ نفسه. فاذا كانت الجينات تميل لتحبيذ جينات الخداع عند الذكور، وحتى الخداع الذاتي الفعال، فان الانتخاب الطبيعي مع ذلك يميل”لتحبيذ الاناث اللائي يتمكن من رؤية مثل هذا الخداع". وحقا نجد ان (فاني) هي التي تختارها الحياة وتفضلها في النهاية اخيرا في بارك مانسفيلد.
ولان الاناث يكسبن خبرة متقدمة في رؤية خداع الذكور،”فستسود جينات الاخلاص والابوة الجيدة في القطب الجيني(Genetic Pool)". انجذبت (فاني) لرهافة والتزام (ادموند) من البداية وبرغم كل نوايا هنري فلم تهتز وتتردد في موقفها. ويحتاج الذكور ايضا لاختبار اخلاص شريك حياتهم المستقبلية. وحيث ان اخواته انسحرن بخفة ومرح هنري، فهو قد سحرته ماري بخفتها (والنقاد انسحرا بهما معا)،لكن تسامح ماري نحو زنى اخيها يبين ويوضح ل (ادموند)بانها ليست مخلصة ولايعتمد عليها بكونها شريك حياة. ولذلك يتوقف (ادموند) في النهاية لمحاولة اقناع نفسه انه برغم فروقاتهما الاخرى فانها – اي فاني - هي المراة التي يجب ان يطلب يدها للزواج.
"فما ان ترك التحسر والتاسف على ماري كراوفورد والتصريح ل(فاني) بصعوبة ان يلتقي امراة مثلها، حتى بدا يساءل نفسه لماذا ان نوع اخر مختلف من النساء لايوافقه ولايناسبه، او لربما اكثر من هذا. ولولا ان (فاني) نفسها قد اصبحت اثيرة لديه في كل ابتساماتها و نظراتها و طلعتها مثلما كانت (ماري كروفورد)؛ فلربما خاب مسعاه المؤمل باقناعها بان اكثراثها واعجابها الحميمي والاخوي نحوه سيكون اساسا يرسي عليه دعائم حب الزوجية". وهنا مسالة بيولوجية اخرى هي اننا انواع اجتماعية بامتياز. واللبائن الثديية الراقية الاخرى هي ايضا اجتماعيا راقية ولكن بفعل اللغة فاننا نمتلك استجابة عالية ودقيقة الانسجام لبعضنا البعض اكثر مما تفعله الثدييات الاخرى ولاننا نتخذ خيارات دقيقة حساسة ومرنة حين نتفاعل مع بعضنا البعض.
فنحن لانستجيب لبعضنا الاخر بتناغم رهيف الا اثناء عملية الانتخاب الجنسي(المعاشرة الجنسية) العالية الشحنة. وتزداد اثناء هذا الموقف الحاجة للبوح بالعواطف والدوافع وكذلك اخفاءها، وان نقراها في الاخرين، وان تتناغم قراءات المرء مع الوقت. وبذلك تعمل على زيادة الضغوطات التي تطورت لتجعلنا حيوانات اجتماعية وايضا اخلاقية رهيفة..
واذ لا تهتم اوستن كثيرا بالمظهر الخارجي لشخصياتها متجاوزة ملاحظة هل هي جذابه ام لا، فهو في الحقيقة تقريب جيد لديناميكيات الفحص والتدقيق الجنسي، حيث تكفي عندها معايير التقويم المؤقت(محال، جائز، ممكن تعقبه وحصوله، لايمكن تحقيقه). لكنها بدل الانتباه لهذه الامور، نجدها تهتم بالتفاصيل الدقيقة لتصرف سلوك الشخصية وحديثها، التي تبين انه يمكن ان يؤثر او يتجاوز الانطباعات الاولى ويلغيها.
وليست اوستن هي الوحيدة في التدقيق بهذه التفاصيل الواضحة، والنيات التي تكشفها وتخفيها هذه التفاصيل. فشخصياتها تقوم ايضا،مالم تكون بليدة مثل شخصية (روشورث) او محدودة الرؤية مثل السيدة(نوريس)، باستمرار بقراءة افكار بعضها البعض. ومع ان السيد (توماس) يستطيع ان يفهم الاخرين بقوة، الا اننا نجد تميز العشاق الاربعة الاساسين: ف(ماري كراوفورد) تتميز بيقظتها الحاد ة والسريعة نحو الاخرين. اما هنري فتميز بشطارة اكثر وان كانت مشوبة بغفلة ايضا. أما (ادموند) فتميز بشعور رهيف حقيقي تجاه مايفكر به الاخرون، غير ان (فاني) متقدمة عليه لانها تراقب وتلاحظ كل فرد ولكن دون ان يلاحظها احد.
يمكن للقصة وكذلك البطل الذي يفتقد للحيوية الظاهرة ان يعوضها بالسخرية المرة: التناقض بين حدة بصيرة (فاني) الثاقبة في فهم كل فرد اخر وبين فشلهم، وبضمنه فشل (ادموند)، في قراءة سرها الخطير الا وهو حبها له. واذ هي مهملة في البداية الا انها تنتصر في النهاية. فرغم كل سلبياتها من حيث الموقع الاجتماعي، فانها تنال افضل رجل، الشريك العنيد، من خلال قدرتها الفائقة لقراءة عقول الاخرين - ان ترى ضعف هنري وان لا احدا يقترب من مضاهاة قوة ادموند- ومن خلال قدرة ادموند في المقابل لقراءة قابليتها الفائقة في قراءة الاخرين. في ضوء هذا التحليل، تبدو رواية مانسفيلد بارك، مثل بقية روايات اوستن، انها رومانسية تطورية تقريبا وفيها نجد ان الذي سيكسب سباق التسلح المعرفي انما هو الشخص ذي الحس المرهف والرقيق اجتماعيا. واوستن اكثر من من كونها محافظة فهي متفائلة تطوريا.
تقوم اوستن بالتحكم بدينامية الانتخاب الجنسي لتشد انتباه القراء وهي تسبر غور الانتباه الدقيق للاخرين والذي يكون مهما عندها لخيال قصتها. لكن الانتخاب الجنسي يبدو انه يثري ايضا سحر مستمعيها وموضوعها فضلا عن تقنيتها الادبية. الحبكة عند اوستن، لكونها قصص غرام، تتحرك بتكامل دقيق للفعل ورد الفعل، وكذلك للترقب والتامل. فشخصيات تراقب بعضها البعض بعناية مثلما يفعل عشاق اوستن، لهي بحاجة لمعايرة استجابتهم الراهنة لبعضهم البعض تجاه ردود فعلهم السابقة في الماضي، حتى عندما يسترسل الحديث او يتغير الموقف. ولكي تنفذ اوستن هذا التفاعل القائم بين الداخلي وبين الخارجي، والتفاعل بين الكلام وقراءة الافكار، فانها اصبحت الرائدة في تطوير الخطاب الحر غير المباشر، باعتباره اسلوبا يردد بسهولة مرونة وبفعالية صدى افكار الشخصيات التي تحكم على بعضها البعض او حين يدقق فرد ما استجابة فرد اخر لطرف ثالث، بينما يديم الاسترسال السردي. لم يكن اي كاتب قبل اوستن بحاجة لاستعمال الاسلوب غير المباشر باعتباره مصدر تقني جاهز لانه لم يستطع اي كاتب قبلها ان يولي مثل هذ الاهتمام الدقيق للطريقة التي نراقب بها انفسنا والاخرين بدرجة عالية من الدقة والروعة.
لان اختيار الشريك الجنسي مهم جدا ويشغل جزءا من حياة الانسان، فقد كان عرضة لكثير من التباينات والاليات الثقافية المعقدة. هناك كليات (universals) جنسية في الحياة البشرية لكن هناك ايضا درجة مذهلة من التباين من مجتمع الى اخر ومن حقبة زمنية الى اخرى. نتمكن الان من ادراك الدقة التي استطاعت بها اوستن ان تحدد الظروف الخاصة لبيئتها الخاصة بها. ولربما يبدو انها كانت تقبل هذه الظروف المحلية باعتبارها عالمية وعامة. بينما نحن لانقبل ذلك: فنحن لاننظر للزواج من وجهة نظر اعراف الطبقة الراقية في ريف رجينسي انجلترا. لكنني اشك ان اوستن هي ايضا لاترى معايير بيئتها باعتبارها عالمية عامة، لكنها تعرف انها مخلصة وصادقة لدقائق وتفاصيل مجتمعها الصغير، المكون من ثلاثة او اربعة اسر في الريف، لانها تكتب حول شي مهم في الحياة البشرية. وهي تعرف تماما ماذا سيفعل تركيزها على اختيار الشركاء لعقول شخصياتها وقراءها.
لماذا اوردت مثال جين اوستن؟ اود القول ان هذا البحث هو ليس”بقراءة”ختامية تلم بجميع ابعاد الرواية، ناهيك عن كونها كاملة، لرواية مانسفيلد بارك، ولاهو بنموذج يحتذى في القراءات المستقبلية للادب”من منظور تطوري".
انها قراءة تشدد على قوة (فاني) والنساء وكذلك قوة اوستن لكنها - اي القراءة- لاتقول شيئا عن السياقات الادبية او التاريخية الخاصة، ولاتقول الا القليل عن القوى الفنية لاوستن فضلا عن مشاكلها الفنية، وعن طريقتها في التفريد والتحليل والسخرية. انما اردت فقط ان ابين مقدار الانحياز الذي يؤديه تحليل ما يقوم بتقديم هذه الرواية او اي رواية اخرى من حيث البناء الاجتماعي للرغبة وللاختلاف.
اعتقد انه يمكن تفسير جزء كبير من عمل كاتب ما، حتى لو كان متحفظا على امور البيولوجيا وبعيد عن الكليات البشرية، في ضوء الخاصيات البيولوجية المتطورة للحياة البشرية اكثر مما ينظر لعمله بانه ليس اكثر من ناتج اللحظة الثقافية المعينة. وعندما ننظر لقصص اوستن وفق هذه الرؤية، فيمكننا تفسير قوة هذه القصص ومداها ؛ بينما لو فسرت في ضوء ظروفها المحلية فقط فانها ستبدو لاطعم فيها وفاقدة الحياة بل وخانقة. وحاولت ايضا ان اشير كيفية تمكن عقل اصيل جدا يعمل في مدى محدد من التجربة من ان يصل الى البواعث البشرية الاساسية والعامة لغرض تغيير طريقة سرد القصص والطريقة التي ننظر بها بعضنا للاخر. تعتمد اوستن بالعمق على ارثنا البيولوجي الكامل لغرض توجيهنا نحو مراحل جديدة في تطور عاطفتنا. فهي لاتتجاهل امور البيولوجيا ولايستطيع اي كاتب كبير تجاهلها ايضا ؛ بل هي تتقبلها وتعرضها لتحولها الفعال هي نفسها. واخير فالقبول بمكانة البيولوجيا لايعني رفض الثقافة بل هو مايجعل الثقافة امرا ممكنا.
عن الحوار المتمدن