الذكرى العشرون لرحيل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري

الذكرى العشرون لرحيل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري

شاكر الأنباري
قبل عشرين عاما مات الشاعر، وكنت واحدا من المشاركين في توديعه إلى مثواه الأخير في مقبرة الغرباء الواقعة في مدار السيدة زينب، مع عدد كبير من الجالية العراقية المقيمة في دمشق، وكان يوما غريبا، مميزا، يحفر عميقا في الذاكرة، لم أر مثله في حياتي. لقد أبن الشاعر حشد هائل من السوريين والعراقيين والعرب، إذ جرى له تأبين رسمي وشعبي،

وقطعت الشوارع التي يسير فيها الموكب، وكان الموكب مهولا، مثلما أستحضره اليوم، امتد من المستشفى وحتى تخوم السيدة زينب، وقد تكون المرة الأولى التي يؤبن فها شاعر عربي بهذه الصورة، وكأن المشيعين يودعون قرنا كاملا من الشعر، وقمة أخيرة في الشعر العمودي منذ المتنبي وحتى تلك اللحظات الحزينة المرتسمة في الوجوه.
ورغم أن الجواهري ينتسب إلى أرض الرافدين، مولدا ونشأة، إلا أنه، وفي ذلك اليوم، جسد المقولة الشائعة بصدق، وهي أنه شاعر العرب الأكبر، لا يخص العراقيين فقط، إذ تناقل معظم القنوات التلفزيونية العربية، ووسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة، خبر وفاته، وكان الخبر في بعض تلك القنوات احتل الحيز الأول منها، وبهذا أكمل الجواهري أسطورته الحياتية والشعرية، هو الذي كاد يبلغ القرن من الحياة، وعاصر معارك العراق والدول العربية كلها، له ما له وعليه ما عليه، وسلّمه التاريخ إلى أيدي الدارسين والباحثين، المنقبين في تلافيف تلك الأسطورة الحية كعلاقته بالسلطات العراقية المتعاقبة، والمعارك التي خاضها الشعب ضد الاحتلال الانكليزي والحكومات التابعة له، وسنوات المنفى بعيدا عن دجلة والفرات.
الحقيقة التي رافقت مسيرة الشاعر هي أنه لم يبق أحد، سواء كان مثقفا أو فردا عاديا، إلا وتغنى بقصائده الشهيرة مثل أخي جعفر، و يا أم عوف، ودجلة الخير، وتنويمة الجياع، وغيرها الكثير من روائعه التي داعبت مشاعر العراقيين، خاصة في سنوات النضال، وسنوات المنفى، ومقارعة الطغاة. قرأ المهتمون لديه شاعرية لم يمتلكها أحدا من مجايليه، شعراء القصيدة العمودية، ووجد فيه النقاد تلك القدرة المتفردة في تطويع أحداث الواقع المعاصر داخل القصيدة الكلاسيكية، مما توجه محط إعجاب، لا شعراء العمود فقط، بل شعراء الموجة الجديدة المسماة بالشعر الحر أيضا، وهذا ما جعل الجميع يقرأ الجواهري ويترنم به، الجواهري المتجدد مع كل جيل يولد.
جسدت مواراة الجواهري في مقبرة الغرباء بدمشق فضيحة أخلاقية للنظام العراقي آنذاك، فأن يدفن شاعر بهذا الحجم بعيدا عن وطنه، حال عشرات المبدعين، كان وحده كافيا للتأشير على الخلل الفادح في الوضع السياسي لعراق تلك الحقبة المظلمة ودكتاتورها، وحزبها، وبيئتها الإعلامية والثقافية الدائرة في فلكه، وكأنه بذلك لخص مأساوية الثقافة المغتربة التي لم ترض العيش في ظل العسف، والاضطهاد، وتكميم الأفواه.
طوال حياته المديدة ظل الجواهري رمزا لعراق الرافدين، ذلك العراق المتعايش بمذاهبه وقومياته وأديانه، بعد أن تسامى، حياة وشعرا، على النعرات الظلامية والشوفينية، ولهذا السبب الجواهري، وغيره، تغنى بقصائده الجميع، عربا وأكرادا، مسلمين ومسيحيين، وحظي بتكريم واحترام حتى من اختلف معه فكرا وهوى ولسانا، وأصبح عن جدارة النهر الثالث في بلاد الرافدين.