أولى معارك الجواهري مع الراديكالية الدينية وحلفائها

أولى معارك الجواهري مع الراديكالية الدينية وحلفائها

جواد غلوم
يُعرف عن الشاعر محمد مهدي الجواهري تصديه الدائم لكل المحاولات المعيقة لرقيّ مجتمعنا وإبقائه متخلفا تابعا ذليلاً سواء صدرت من الجهات الرجعية والسلفية او من خصومه غلاة الليبراليين المنزلقين نحو الهوى الغربي والمنسلخين كليا عن قيم وعادات مجتمعهم، فقد مال شاعرنا الى اليسار الذي طغى على الحياة وقتذاك بعد نجاح الثورة البلشفية في روسيا ووظف غالب شعره في تمجيد رموز الثورية اللابسة لبوس الماركسية

وهو بعدُ شابا فتيا يعتمر العمامة مثلما كان كبار عائلته من مفكّري النجف يعتمرونها في رؤوسهم على عادة رجال الدين ذوي الاتجاه الاثني. ولاشأن للورع او التقوى بهذا اللباس بقدر ماكان اتباعا لما كان يلبسه الآباء والاجداد من عشيرهم وأهلهم.
وكم من معتمري العمائم – بضمنهم شاعرنا الجواهري -- من كان ندّا وخصما شرساً لأحابيل رجال الدين المرتزقة الذين اتخذوا من العقيدة مورد رزق وفير ومكسب جاهٍ وحظوة على حساب السذج والفقراء من مشاركي عقائدهم.
اذكر حادثة تعدّ اولى خصومات هذا الشاعر ضد غلاة المتدينين في مدينته وزمرة الرجعيين الذين لايريدون لبني جلدتهم ان يتسع افق عقولهم ليُبقوا أهليهم في سبات الجهل والظلامة ؛ فبعد تشكيل الحكومة العراقية برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب وتنصيب الملك فيصل الاول بن الحسين ملكا على العراق في ضوء معاهدة سايكس بيكو سنة /1921، وقتها قررت وزارة المعارف التي كان يستوزرها السيد عزت باشا الكركولي ان يقوم بافتتاح مدرسة ابتدائية للبنات في مدينته المحافظة النجف أسوة بالبنين الذين انضووا في المدارس الحديثة على قلّتها بعد ان شعروا ان لافائدة علمية ترجى من الانضمام الى الكتاتيب في الجوامع وتعليم مشايخ الدين التقليدي المقتصر على تلقين الايات القرانية والحديث الشريف وشيء ميسر من الفقه دون متابعة اخر الاساليب العلمية التي بدأت تترسخ منذ اول ظهور عصر النهضة.
هنا ثارت ثائرة رجال الدين التقليديين وأعلنوا بحدة معارضتهم لهذا المشروع التعليمي الحيوي باعتبار ان الفتاة مكانها البيت وتستطيع ان تأخذ نصيبها القليل من العلوم الدينية بحيث يكفيها ان تعلّم اولادها مبادئ الدين وأصوله واركان الاسلام حصرا فما حاجتها الى العلم والتزود به طالما هي قعيدة البيت بين اولادها وخادمة مطيعة لزوجها لتلبي حاجاته كراعية للرجل لتشبع نزواته ومعدته وتربّي أطفالها.
كان اول من تصدى لرجال الدين الممانعين لتشييد مدرسة للبنات في النجف هو شاعرنا الفتى محمد مهدي الجواهري وهو شاب مندفع متطلّع الى المدنية في ريعان العشرين من العمر مليئا بالنقمة على هؤلاء المتحجرين من معممي التخلف وذوي المنافع الخاصة والذين لايهمهم ان ترقى مجتمعاتهم الى مدارج التحضر وسعة الافق ؛ اذ نظم قصيدة عصماء ذكر فيها اهمية الاصلاح وارتقاء امم وشعوب اخرى بينما بلاده تتعثر وساسته من يضع العقبات امام مساره نحو النهوض والتطوّر والنماء.
سـتـبـقى طويلا هـذه الأزمـاتُ
اذا لم تقصرْ عمرَها الصدمات
اذا لم ينلْـها مصلحون بواسـلٌ
جــريـئُـون فـيـما يَـدّعون كُــفــاة
سيبقى طويلا يحمل الشعبُ مكرها
مساوئ من قـد أبْـقت الفترات
الم تر ان الشعب جلّ حقوقــهِ
هـي اليوم للأفراد ممتلكات
ومن عجبٍ ان الذين تكفّلوا
بإنقـاذ أهليه همُ العـثرات
يستمر الشاعر في إدانة رؤوس السلطة وبدلا من ان يكونوا هم الحل والخلاص تراهم مصدر البلايا وأصل المشاكل وهم من يخلقها عامدا لإبطاء النهوض وتعطيل العلم وبث الجهل واشاعة الفروق الطبقية بين الناس حتى يعرج على اصل المشكلة التي تتمثل في إشاعة الجهل وتعطيل عقول الشبيبة من الفتيان والفتيات اللائي يطلبن العلم ليتكفلن بناء البلاد على أسس صحيحة مع أقرانهن الفتيان المتعلمين.
غدا يُمنع الفتيانُ ان يتعلّموا
كما اليوم ظلما تُمنع الفتياتُ
هذه القصيدة قيلت في اوائل العقد الثاني من القرن العشرين يومها رفض رجال الدين وكثير من علية القوم الماشين في ركاب التخلف ممن يخافون على مصالحهم الفردية اذا نهض العلم وخفق بجناحيه واستقرّ في عقول الفتية والفتيات،حقا ان العلم كائن مخيف لمن بنى مجتمعه من ركام الجهل والتخلف واحكم سطوته على الناس بالقوة.
يانديمي حتى الحروفُ تُخيفُ ------ في دساتيرَ شرّعتها السيوفُ (الجواهري أيضا في قصيدة أخرى)
فما الذي يعمله الجواهري سوى رمي العمامة جانبا ونزعِها من رأسه السليم في رؤاه وتفكيره وقذفها بعيدا في اقرب حاوية للنفايات طالما بقيت توصف بانها لباس الثعالب الماكرة التي لاتليق به وبعقله المنير ونفسه التي خلقت تواقة للصعود الى القمم والمدارج العليا مثلما انشد يوما ما وهو يهجر العمامة ويعتمر طاقية الرأس بدلا عنها والتي ظلّت ملازمة لعقله حتى وفاته :
لبستُ لباسَ الثعلبيين مكرها ---- وخالفتُ نفساً إنما خُلقتْ نسرا.
شاعرنا الجواهري استغل حادثة افتتاح مدرسة ابتدائية للبنات في النجف اوائل العشرينيات من القرن الماضي والتي لم يكتب لها النجاح بفعل القوى المعارضة للحداثة والتنوير المتمثلة في رجال الدين ولفيفهم من انصار العتيق من الفكر المعوج المائل للسلفية والماضي المدلهم وهم ثلّة من رؤساء العشائر والنفعيين مِن تسيّد الجهالة ومنغلقي الفكر والموتورين من اية نهضة قد تطيح بهم وبأحلامهم في ابقاء الشعب واهنا متخلفا كسيحا وقد استغل هذه الحادثة ليكشف عن فضائحهم ويعرّي نواياهم الشريرة كما نقرأ في الابيات التالية :
أقـول لِــقومٍ يحمدون أناتـهــم
وما حمدت في الواجبات أناةُ
أأسرع من هذي الخطى تدرك المنى
بطاءً لعمري تدرك الخطواتُ
وما أدّعي ان التهوّر صالِـحٌ
متى صلحت للناهض النزوات
ولكن ارجّي ان تقوم جريئة
لصدّ أكفِّ الهادمين بُــناة
فان ينعَ أقوام عليّ مقالتي
وماهيَ الاّ لوعة وشكاة
فقد ايقنت نفسي وليس بضائري
بأنيَ في تلك العيون قذاة
وما النقد بالمرضى نفوسا ضعيفةً
تهدّ قواها هذه الحملاتُ
وهبني ما صلّتْ عليّ معاشرٌ
تباع وتشرى منهم الصلوات
فلو كنت ممن يطعمون بمالهِ
لعادت قداسا تلكمُ اللعنات
ثم يصب الشاعر جام غضبه على أوصياء الدين وأدعيائهِ الماكرين قائلا :
فما كان هذا الدين لولا ادعاؤهمْ
لتمتاز في أحكامه الطبقات
أتجبى ملايينٌ لفردٍ وحولهُ
ألوف عليهم خلّت الصدقات
وأعجب منها أنهم ينكرونها
عليهم وهم لو ينصفون جُـباة
وفي تلك مبطانون صغرٌ نفوسهم
وفي هذه غرثى البطون أباة
ولو كان حكمٌ عادلٌ لتهدّمت
على أهلها هاتيكم الشرفات
على باب شيخ المسلمين تكدست
جياعٌ علتهمْ ذلّة وعراة
هم القوم أحياءٌ تقول كأنهم
على باب شيخ المسلمين موات
يلم فتات الخبز في الترب ضائعا
هناك وأحيانا تمصّ نواة
بيوت على أبوابها البؤس طافح
وداخلهنّ الأنس والشهوات
تحكّم باسم الدين كلّ مذممٍ
ومرتبكٌ حفّت به الشبهات
وما الدين الاّ آلة يشهرونها
الى غرضٍ يقضونها وأداة
وخلفهم الأسباط تترى ومنهمو
لصوص ومنهم لاطةٌ وزناة
فهل قضت الاديان الاّ تذيعها
على الناس الاّ هذه النكرات
يدي بيد المستضعفين أريهمو
من الظلم ما تعيا به الكلمات
أريهم على قلب الفرات شواهقا
ثقالاً تشكّى وطأهنّ فرات
بنتهن أموال اليتامى وحولها
يكاد يَبين الدمع والحسرات
فما اشبه الليلة بالبارحة وما أقرب الامس باليوم فالصورة نفس الصورة والمشهد ذات المشهد وكأنك ياعراق منذ تأسست كدولة ذات سيادة مفتعلة في اوائل العشرينات من القرن الماضي يتحكّم فيك اللص والابله والعقيم من الابداع والانجاز والضيّق الافق والاثني المبعثر العقل ومشعل الحرائق والكاره والحقير الممقوت وكما ينعتهم الشاعر من ذوي البطنة الغارقين في الشراهة والنجسين من الزناة واللواطيين والنكرات وجباة المال من الفقراء والمعوزين دون وجه حقّ.
كنّا قبلا نجد المثقف العضوي والشاعر الرافض المكابر ونخبة الفكر في طليعة من يحتجّ ويعارض ويمتزج مع الشغيلة والمتظاهرين الناقمين من عمال وفلاحين وحرفيين أصابهم العوز والحيف وطلبة متنورين وشباب عاطل عن العمل والأمل ويكونون رأس حربة أمام الملأ العريض وقادة اوفياء للمسحوقين ولا يتركونهم حتى ينالوا مطاليبهم ؛ ليس في بلادنا وحدها انما كان هذا ديدن مثقفي العالم وشعرائهم ومناضليهم كما كان يفعل جان بول سارتر ورفيقته سيمون دو بوفوار والفيلسوف ميشيل فوكو وشخوص اليسار عامة ايام انتفاضة الطلبة اواخر ستينيات القرن الماضي وبداية السبعينيات في فرنسا وغالبية دول اوروبا حيث الاحتجاجات تتصدرها الانتلجنسيا المثقفة حتى في الولايات المتحدة الاميركية يقف المثقفون في الصدارة محتجين معارضين كما رأينا بيل كلنتون ورفيقته هيلاري وغيرهما وهم يرفعون الشعارات ضد حرب فيتنام والتدخلات الاميركية ضد الشعوب الفقيرة المقهورة، فهذه الامثلة التي أذكرها هي نزرٌ من كثرٍ وغيض من فيض مثقفي العالم والتحامهم مع شعوبهم المقهورة المطالبة بحقوقها.
لكن هنا في بلادي فان اخفت الاصوات لصوت المثقف والشاعر والمفكر ومن السهل جدا شراؤه بالبخس من المال والدبق من مغريات العمل ليكون بوقا لحزب إثني وثرثارا لقناة تلفزيونية مشبوهة ولسانا ناطقا رسميا باسم كتل ومكونات عِرقية سقيمة او تيارات سياسية نفعية لاتعرف سوى اثارة النعرات الطائفية والقومية ذات الطابع الشوفيني.
وما أرخصنا وما أبعد منانا في تحقيق مايريد شعبنا لو أضعنا يد الثوريّ الضاربة بقسوة ولسان المثقف الحقّ ذي الضمير الحيّ الذي يعرّي فضائح السلطة الغاشمة العارية من الشرف.