ماذا أعطينا الجواهري؟

ماذا أعطينا الجواهري؟

فاضل السلطاني
حسنا. قيل كل شيء تقريبا عن الجواهري، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، منذ الأربعينيات في الأقل. رددوا كثيرا، وهم على حق، بأنه”شاعر العرب الأكبر”و”آخر الكلاسيكيين»، و”ومتنبي القرن العشرين»..إلخ. لكن منذ رحيله عام 1997، لم نعد نسمع الكثير. لم نقرأ كتابا نقديا جاداً واحدا عنه، ونتمنى أن نكون مخطئين، ولم تكتب سيرة عن شخصيته الأكبر من الحياة،

ولم تصدر مختارات من شعره يمكن أن نقدمها لجيل أو جيلين ربما لم يقرأوا له شيئاً، ولم يسمعوا سوى باسمه، الذي كان البعثيون يخافون حتى من ذكره، وتبعهم في ذلك الجهلة منذ 2003 لحد الآن، الاميّون الذي رفضوا”أن تتحول”سلام على هضبات العراق”إلى نشيد وطني للعراق الذي غناه كما لم يفعل أحد قبله. ماذا أعطينا الجواهري، الذي ولد قبل تأسيس الدولة العراقية بسنين، ووسم أحدهما الآخر، والذي منحها كل شىء حتى تستقيم؟ لا شيء. لقد بخلت عليه لحد الآن حتى باسم شارع صغير. أمم كثيرة تتمنى لو أن الجواهري ينتمي إليها، لأنها سترتفع به، وتفاخر به بين الأمم، إلا نحن!
أذكر الآن ذلك العظيم”المجنون”عبد الكريم قاسم. ربما كنت في العاشرة. وكانت المناسبة، التي نقلها التلفزيون، احتفالا بذكرى رحيل صديق الجواهري معروف الرصافي، 1959. ما إن ابتدأ الجواهري البيت الأول من قصيدته:»
لغز الحياة وحيْرة الألبابِ أن يستحيل الفكر محض ترابِ
حتى نهض الزعيم والجمهور يستمعون وقوفاً لأبي فرات حتى أنهى قصيدته. وربما هي المرة الأولى في التاريخ التي يستمع فيها الناس وقوفا، وفي مقدمتهم حاكمهم، إلى شاعر. يقال كان ذلك اقتراح الرائع الآخر علي جواد الطاهر. لكن هل يهم ذلك؟.
ما تزال الرعشة ذاتها تنتابني كلما قرأت هذا القصيدة بالرغم من مرور هذا الزمن الطويل، وكلما تذكرت ذلك المشهد المهيب.
قرأت مرة، ولا أعرف دقة ذلك، أن فهد قال: إعطوا الجواهري حركة جماهيرية يصبح منشدا لها. وهو كلام صحيح وغير صحيح في الوقت نفسه. صحيح، من ناحية الشكل، الحاجة لدافع، لقدح شرارة الشعر، كما أي دافع آخر كالحب أو السعادة أو الشقاء. وغير صحيح، لأن الجواهري لم يستند إلى أي شيء خارج الشعر. لم يستند إلى الرصافي ليقول قصيدته الباقية، أو إلى أبي العلاء ليطلق ذلك البيت المدوي:”قف بالمعرة وامسح خدها التربا..». كانوا حجة للشعر فقط.
انتهت الهبات الشعبية، وبقيت القصيدة، وربما نسينا وثبة تشرين 1952، ولكن ما تزال قصيدة”أخي جعفرا..”ترن في آذاننا منذ أكثر من نصف قرن. وانتهى المنفى، الذي كان الجواهري لسان ساكنيه حقباً طويلة جداً، وبقيت قصيدته”يا دجلة الخير..”ساكنة فضاءاتنا.
كان أوكتافيو باث يحلم أن تبقى منه ست أو خمس قصائد. ونعتقد أن ما يبقى من الجواهر ي سيكون أكثر بكثير.