مي زيادة بقلم انستاس الكرملي

مي زيادة بقلم انستاس الكرملي

1.مقدمة
كثير هم الناس الذين في حاضرتنا والمقالات في الصحف والمجلات كتبوا مقالات في الصحف والمجلات عن الانسة مي، وكثرا ماطلبوا الينا ان نهتم بها، ولما لم نستطع ان نصم الاذان لالحاههم علينا اتيناهم بهذه العجالة، في نفوس وطنياتنا حب الادب ومكارم الاخلاق واقتفاء اثرها.

2.من هي؟.
مي هو اسم الانسة في ماتكتبه في الصحف والمجلات العربي، وقد ذيلت بعضها باسم (خالدة رأفت) كما انها استعارت اسم (ايزيس كوبيا) في ماتنشره بالفرنسية او الانكليزية وهي شابة غضة الاهاب في العقد الثالث من عمرها، وحيدة لابيها الياس زيادة صاحب جريدة (المحروسة) الشهيرة التي تبرز في مصر.
وهي تفهم تسع لغات وهي: العربية والفرنسية والانكليزية وتجيدهن، فقد كتبت في هذه اللغات الثلاث حتى اذا قرأ الواحد مقالة لها في احدى هذه اللغات ظن انها لاتعرف سواها لحسن اسلوبها وتوغلها في معرفة دقائق معانيها ومبانيها فوق مايتصور، وتفهم ايضا الايطالية واليونانية الحديثة والاسبانية واللاتينية والالمانية والسريانية.
3.اوائل ايامها
ولدت في الناصرة ولم تدخل المدرسة الاّ بعد ان جازت العاشرة من سنيها، فدخلت مدرسة عين طورا فقضت فيها ثلاثة اعوام، ثم انتقلت منها الى مدرسة الراهبات في بيروت فاقامت فيها سنة ومن هناك الى مصر مع اهلها فدرست الانكليزية على الاستاذ فنتش.
4.اوائل كتابتها
بدأت تكتب في العربية سنة 1911 مع انها لم تدرس من هذه اللغة الشريفة الا مبادئها البسيطة على ماتدرس في المدارس الاجنبية النسائية ذات الصبغة الاجنبية، ثم اخذت تنمو قليلا قليلا، باحثة عن الكلمة التي قدر لها ان تقولها في الحياة، وقد زاد في نزعتها الفطرية الى الاستقلال الفكري والاسلوبي، انها لم تدرس اللغة العربية في غير حبا لها.
الا ان الكتابة التي لم تكن في البدء سوى ميل وسلوك، صارت اليوم احتياجا عميقا، صارت جوعا وعطشا، صارت شعلة تتقد بين جوانحها ولا تفتأ من ان تفني نفسها لتحييها، صارت سلطانا قاهرا يدفعها الى الافصاح عما يشغلها مسيرة غير مخيرة.
هذا ماكان من امر اول قبضها على اليراعة وتدرجها في الكتابة واليوم اصبح اسمها معليا لشأن الانثى، مقدرا لها القدر الخطير، اذا ماعني بتهذيبها وتخريجها على اصول الآداب والعلوم الحديثة.
5.نتاج قلمها
او ما بدأت به من تقييد المنشات قلمها العسال كتيب بديع النسج فرنسي العبارة سمته (ازهار الحلم) وقد حبكت درره ولآلئه حينما كانت تلميذة صغيرة واتمت مابقي منه في الشهور الاولى بعد عودتها الى بيت والدها، حيث لم تنقطع من متابعة دروسها.
ثم زاولت اليراعة العربية فابرزت من وشيها مايخلب اللب ويحير العقل. وهذه اشهر مجلات مصر وبيروت وصحفها تفتخر بأن تحصل على نفثة من قلمها فتدرجه مع التنويه بفضلها وادبها كل مرة، حتى قال فيها احد الادباء بعد ان رآها كتبت في الجرائد اربع سنوات منذ نشوئها الادبي: (اصبح اسمها رنانا ذا دوي في المجامع الادبية، يحبها الجمهور للنفس النسائي في كتاباتها كأنها تكتب عفوا وغريزة عن غير تكلف، تعبر عن طبيعتها النسائية، لا تكذبها ولو مرة واحدة وهي ابدا تنتزعنا من المادة التي تحوطنا الى المثل الاعلى- مثلها الاعلى الخاص من ميل للجمال الى اناقة الى ذوق نسائي.
ولها ما عدا المقالات الكثيرة اربعة كتب: الاول، رواية اسمها (الحب والعذاب) وهو معرب من الانكليزية والثاني، رجوع الموجة، وهو منقول نقلا بديعا من الفرنسية، والثالث، نثر شعري ترجمته من الالمانية، بعنوان: (ابتسامات ودموع) وقد برزت في استخراجه الى لغتنا على ابلغ حملة الاقلام.
اما شهرة كتابها الرابع (باحثة البادية) فقد اصبح موضوع حديث الادباء في كل نادٍ وواد، بل على لسان كل حاضر وبادٍ.
ولها مذكرات ادبية وخطب بليغة وقف على احدى هذه الخطب الشاعر المجيد احمد الكاف فكتب اليها رسالة نشرتها مجلة سركيس. وهي هذه:
حضرة الكاتبة البارعة الانسة مي:
قرأت الان خطبتك الاخيرة التي تفضلت بها في النادي الشرقي، وقد اعجبني ابتكارك وابتداعك، حتى اشتريت من نسخ جريدة المحروسة على قدر المتعلمات من قريباتي وصديقاتهن، وارسلته اليهن هدية غالية، وتذكارا ثمينا، ليعرفن فن مقدار الفكر السوري في هذه النهضة النسائية المباركة وغاية ما ارجوه من ادبك وفضلك ان تخبريني كلما شئت القاء خطبة في ناد او شبه ناد، لاتلقى هذه الجاهر بسمعي وبصري، لاني لا انسى موقفك الجليل في حفلة تكريم صديقنا خليل مطران، والسلام على هذا المقام المحترم، الذكاء المتوقد، والهمة العالية.
احمد الكاشف.
6.مجلسها
قال سليم سركيس واصفا مجلسها في مجلته 8: 268: مساء كل يوم ثلاثاء يتحول منزل حضرة الياس افندي زيادة صاحب جريدة المحروسة في القاهرة الى منزل فخم في باريس، وتتحول لفتاة السورية التي لاتزال في اواخر العقد الثاني من عمرها، (والواصف يصفها قبل 6 سنوات) الى مدام دي سيفينية، ومدام دي ستايل، ومدام ريكاميه، وعائشة الباعونية، وولادة بنت المستكفي، ووردة اليازجي، في شخص ومدارس الانسة ميّ، ويتحول مجلسها الى مزيج من سوق عكاظ والاكاديمي، وتورج المباحث العلمية والفلسفية والادبية في مجلس يحضره اسماعيل باشا صبري بشعره الراقي، واحمد لطفي بك السيد بمنطقه وقوة حجته، والدكتور شبلي شميل بفلسفته، وخليل مطران بطلاقة لسانه، والمطران دريان بعلمه الواسع، واحمد زكي باشا بسعة معارفه، وامثال هؤلاء الفضلاء.
جميعهم يهزون باحاديثهم ومناقشاتهم اغصان شجرة ذات ثمر، ويحركون وردة ذات اريج عطر والانسة مي بينهم تناقش هذا، وتدفع حجة ذاك، ثم ينصرفون، وقد اجمعوا على صحة رأي دولة البرنس محمد علي باشا: نهنئ انفسنا بك،
7.صورتها
وصفها سلامة موسى فقال:
هي ربعة، مستديرة الوجه، زجاء الحاجبين، وطفاء الاهداب، دعجاء العينين، يتألق الذكاء في بريقها، يجلل وجهها الجميل شعر جثل اسحم، وتلعب ابدا على شفتيها ابتسامة الخفر، ولعل زجج حواجبها ووطف اهدابها اعلق الاشياء بذاكرة من يراها، وعلى الرغم من سعة اطلاعها واستنارتها لاتزال ابعد النساء عن الاسترجال واشدهن انثوية، كثيرة التواضع والاستكانة.
8.فكرها
ماتكتب كلمة الا ويشعر القارئ انها كاتبة مبتكرة، لاتتأثر احدا او تتعقبه، وانما تسير في طريق خاصة بها، تميزها عن جميع الكتبة والكواتب، وما من كلمة ينطق بها فمها الا وتثير في نفسك خاطرا لم يدر في خلدك سابقا، فهي اذا مبتكرة في نفسها، وباعثة الغير الى الابتكار في مايفكرون ويقولون وبوشون من برود الكلام، فهي حقيقة (الهة الابتكار) و(ربة الافتكار).
وقد ظن قوم منا ان احد الادباء الفضلاء هو صاحب تلك المبدعات الرائعة، وماذلك الا لانهم لايتصورون ان فتاة يبلغ بها النبوغ هذا المبلغ، وما احسن ما كتبته الى احد البغداديين جوابا عن هذا الخاطر الذي وقع لهم في نفوسهم: اما قول اخواننا هناك (في العراق) ان لي من يكتب عني، وينقح لي، فقد سبقهم اليه اخواننا في مصر، فصاروا يبحثون عن هذا الذي يضحي نفسه لاجلي، فوجدوا لابي اهتماما عاديا بموضوعات تهمني شديدا، وعلموا ان لا اخوة لي، لاني وحيدة ابويَّ، واقتنع زوارنا ان الذي يعمل لي قد اختبأ في دماغي ليكون طوع امري في كل كلمة اقولها، ولما شاءت الاحوال ان اقف خطيبة، قاموا يشبهون ما اكتب بما اقول!
9.اسماؤها المستعارة
اعتاد بعض الكتاب قديما وحديثا ان يتواروا عن الانظار لغاية في النفس فيستعيروا لهم اسماء ينحتونها لانفسهم او يضعونها وضعا نقلا عن اسماء غيرهم، وقد يبقون نتاج فكرهم غفلا من كل اسم، اما كاتبتنا فقد اتخذت لها عدة اسماء منها:
ميّ، وفيها لغات وهي مية وميا من الاسماء التي عرفها العرب، لكنهم لم يعرفوا اصلها ولاحقيقة من تسمى بها، فميّ على ما في المؤلفات اليونانية هي الابنة البكر من البنات السبع المعروفة بالثريا. ابوها اطلس وامها بليون، فاحبها زفس فكانت ام هرمس (او عطارد) وعهد اليها ايضا ان تطعم ارقش الذي ولد له من كلستو، فاستنزلت هذه العناية بالوليد حقد هيرة، وبعد ذلك بحين نقلت ميّ الى السماء مع سائر اخواتها الثريا.
وميّ في معتقد الرومان تمتزج بميّ اليونان، وميّ عندهم او مية او ميا او ميستاس: معبودة النمو، وكانوا يقربون لها خنزيرة في العقد الاول من شهر ميّ (ايار) المرصود لها.
وميّ عند الهنود هي تمثيل المبدأ الخالق الانثوي.
فترى من هذا ان مي من المعبودات فلا عجب اذا اتخذت آنستنا هذا الاسم الخفيف الرشيق.
ومن اسمائها التي اتخذتها سترا لاسمها (خالدة رأفت) وفيها من المعنى الذي يشير الى ماتصير اليه من خلود اسمها والرأفة بالاناث مايدفع الرجال الى ان يبذلوا كل العناية بتربية ذوات الاسورة، اللواتي هن نصف الخلق في العالم.
وهي اذا انشأت مقالا في الفرنسية او الانكليزية وقعته باسم (ايسيس كوبيا) وايسيس اسم معبودة للمصريين وكانوا يسمونها (سيت او تسيت) وكانت اوسيرس وامرأته وام هورس، وهي ربة الطب والزواج وزراعة الحنطة الى غيرها، وهي تمثل – على ما يراه علماء العصر- الحضارة المصرية. ومعنى كوبيا باللاتينية الخصب والنمو والتكاثر، فاتخاذ الانسة لهذين الاسمين مما يدل على ان المصريين، سوف يقدرون يوما نسمات افكارها، فيتخذها كتابهم العصريون مثالا لافكارهم كما اتخذ اجدادهم ايسيس معبودة لحضارتهم وماهذا الفأل ببعيد ان شاء الله.

م/ دار السلام 1920