من التاريخ الاداري في اواخر العهد العثماني.. عندما اصبح عبد العزيز القصاب قائمقام السماوة

من التاريخ الاداري في اواخر العهد العثماني.. عندما اصبح عبد العزيز القصاب قائمقام السماوة

وصال عبد العزيز محمد
أصدرت الارادة السنية من نظارة الداخلية في اسطنبول أمراً بتعيين عبد العزيز القصاب قائمقاماً اصيلا في السماوة في 9 شباط 1909 ووصلها يوم 8 اذار 1909 في عهد والي بغداد نجم الدين منلا. وكانت الاحوال العامة في السماوة شانها شأن المدن العراقية الاخرى تتصف بفقدان الامن وانتشار الفوضى والاضطرابات. ويكفي القول ان السماوة شهدت تبدل ثلاثة وثلاثون قائم مقاما اصيلا ووكيلا في سنة واحدة. بسبب اضطراب الاوضاع على خلفية

المشكلة العشائرية المستحكمة في مناطق الفرات الاوسط نتيجة لتازم العلاقة بشكل مستمر بين العثمانيين والعشائر بسبب الضرائب والارض والتجنيد.
بذل عبد العزيز القصاب في هذا المنصب جهودا كبيرة لاستباب الامن وحل المشكلات العشائرية ومحاربة الفساد وانتشار الرشوة، وكانت اول قضية تعرض عليه هي قضية اخراج (بيع) الحنطة من السماوة الى البصرة حيث عزم التاجر اليهودي يوسف رجوان على تحميل سفينتين من الحنطة لغرض إرسالهما الى البصرة، فأمر عبد العزيز القصاب رئيس البلدية باخذ عضوين من المجلس البلدي للوقوف على كمية الحنطة المتوافرة في السوق وبشكل دقيق. وامر قائد الجندرمة بان يبلغ التاجر اليهودي يوسف رجوان بمنع سفر السفن حتى يتم التحقق من كمية الحنطة الموجودة في الاسواق. وقد نفذت تلك الاوامر وارجعت الحنطة الى الاسواق لحاجة اهل السماوة لها وفي اثناء التحقيق تبين ان وراء تلك القضية رشوة مقدارها خمس وعشرون ليرة ذهبية دفعها التاجر اليهودي الى بعض الموظفين والوسطاء لغرض اخراج الحنطة الى البصرة.

وقد دلت تلك القضية ومتابعتها على مدى مواصلة عبد العزيز القصاب في سعيه الدوؤب لتحقيق الخدمة في مواضيع تتعلق بمعيشه الناس وحاجياتهم الاساسية كالغذاء.
وكان عبد العزيز القصاب يستقبل الناس في سراي الحكومة، مما اتاح له الفرصة لمعرفة شكاوي المواطنين، فضلا عن اكتسابه خبرة لمعالجة قضاياهم.
وقد لاحظ ان الحركة التجارية اصيبت بالشلل والكساد بسبب النزاع بين الغربيين والشرقيين. اذ تقع السماوة على جانبي نهر الفرات، فالجانب الواقع على الضفة اليسرى يسمى القشلة. ويسكن هذا الجانب ضباط الجيش وبعض المدنيين والتجار. اما الجانب الايمن فيسكنه اهل السماوة الاصليون ويقسم الى محلتين الشرقي والغربي ويفصل بينهما سوق كبير وطريق يبدا من راس الجسر وينتهي بسور المدينة. وقد ساد محلة الغربي نفوذ رباط السـلمان لكثرة اقاربه والمنتسبين اليه فيه. اما المتنفذون في محلة الشرقي فكان من بينهم طفار النعمة وعبد الله النايف وصلاح كصيص من فرقة المكارية. وكان الكثير من هؤلاء يوصدون ابواب دكاكينهم خوفا من بعضهم البعض. وقد يهرب البعض منهم نتيجة للحكم عليهم غيابيا لمجرد تعرضهم لاتهامات خصومهم وكانت الاحكام تصدر عليهم من غير تبليغهم. كما تبين لعبد العزيز القصاب ان القاضي كان يأخذ افادة المشتكي والشهود سرا في داره من غير تبليغ المتهم. فضلا عن انه كان يتعاطى الرشوة.علما بان اكثر المحكومين كانوا من الفقراء.
ونتيجة لذلك اصدر عبد العزيز القصاب قراره بإعلان العفو العام عن كل المحكومين غيابيا. كما طالب بارجاع الهاربين الى عملهم. و بعدم التعرض لهم من رجال الامن. وطلب من متصرفية اللواء تنحية القاضي عن القضاء ومنعه من النظر في الدعاوى المقدمه اليه، وبعد شهرين تم اعلان الدستور واعلن العفو العام رسميا وتأسست في 14 نيسان 1909 لجنة للتنسيق اصدرت امرا بعزل القاضي، وبتلك الطريقة تخلص القضاء من احكام وسلطة ذلك القاضي.
ولحفظ السلام في قضاء السماوة امر عبد العزيز القصاب بمنع التجول بعد الساعة العاشرة مساءً وحتى الفجر، وكان يخرج بنفسه للتفتيش بعد منتصف الليل في محلات الشرقيين والغربيين.
وكان عبد العزيز القصاب يتقاضى راتبا مقداره الف وسبعمائه وخمسه وعشرين قرشا ومن ثم صدر امر من الهيئة الاصلاحية بتثبيته قائمقاما براتب جديد قدره ألفي قرش وذلك في 11 شباط 1910. وبلغت خدمته في قضاء السماوة سنة وسته اشهر وستة ايام، غادرها الى الصويرة قائمقاماً مدّة ثلاث سنوات وسبعة اشهر حتى نيسان 1914.
ليعود للمرة الثانية للسماوة التي وصلها في 6 ايار 1914 في عهد والي بغداد جاويد باشا. وكانت السماوة قد اتخذت مقرا عسكرياً عسكر فيه مائة جندي من المشاة ومائة من الخيالة كما اقترح العفو العام عن المحكومين من محكمة السماوة، على ان تنفذ محكومياتهم عند تكرار اعمالهم المخلة بالامن. كما امر بتعيين رجل قدير من رؤساء العشائر لمرافقة القوة العسكرية عند جبايتها الضرائب فضلا عن اوامره بمنع بيع المشروبات الروحية ونفي المومسات من السماوة. وبعد ذلك صدر امر من الوالي جاويد باشا بتنفيذ هذه المقترحات وتطبيقها على بقية لواء الديوانية عند الضرورة.
ويبدو ان عبد العزيز القصاب على الرغم من نجاحه في السماوة وتحقيق بعض علاقات الصداقة مع الزعامات المحلية فيها كان راغبا بالانتقال منها لان مشاكلها لم تنته وكلما نجح في حل مشكلة ما ظهرت مشكلة اخرى لها علاقة بالارض والضرائب والتجنيد. ولهذا يمكن القول ان العلاقات العثمانية مع العشائر العراقية اتسمت وبشكل دائم بالتوتر والمنازعات وعدم الاستقرار وقد فشل معظم الولاة العثمانيين وبدون إستثناء في معالجة المشكلة العشائرية في العراق. وقد استفاد البريطانيون من فشل العثمانيين فيما بعد ليطبقوا أسلوبا جديدا وادارة اخرى في العلاقة مع العشائر العراقية. وقد نجحوا في ذلك باستماله البعض من الزعامات العشائرية النافذه الذين كانوا عونا للادارة البريطانية الجديدة في العراق في تحقيق الهدوء والاستقرار في الريف العراقي. فيما فشل العثمانيون من قبلهم.
و بعد انتهاء مسؤوليته الاولى قائمقاما في السماوة باشر في 14 ايلول 1910 في وظيفته الجديدة قائمقاماً لقضاء الجزيرة (الصويرة). التي كانت تابعة من الوجهة الادارية لبغداد.
بعد الصويرة كلف ان يكون قائمقاماً للسماوة مرة ثانية وقد باشر وظيفته فيها في 6 ايار 1914. وكانت تلك الايام مشحونه بالترقب والحذر لان نذر الحرب العالمية الاولى كانت على الابواب...وعند اندلاعها فعلا حاربت بريطانيا الدولة العثمانية في ممتلكاتها ومنها العراق حيث احتلت القوات البريطانية البصرة في 23 تشرين الثاني 01914 ولما كان عبد العزيز موظفا عند الدولة العثمانية قام بواجبه في خدمة مصالح الدولة ومنها الجوانب العسكرية لذا عمل على اسناد مهمات الجيش العثماني القادم من بغداد وحركاته وتسهيل تموينه وتجميع الاهالي والحاق المتطوعين والمجاهدين من العشائر به في المناطق التابعه لسلطته الادارية.اذ كان يشرف بنفسه على تجهيز المجاهدين بالمواد الغذائية والعناية بهم وتزويدهم بالطعام والسكائر والحاجيات الاخرى. وكان يقدم لهم ذلك من التبرعات التي جمعها من اهالي السماوة, كما بذل جهداً في توفير الماوى المؤقت لهم خلال مرورهم بالسماوة متجهين نحو جبهات القتال في المنتفك.
لم يكتفِ عبد العزيز القصاب بذلك بل عمل على تشكيل سرية من مجاهدي السماوة الغربيين وسفرهم الى(المنتفك) بقيادة بربوتي السلمان احد رؤسائهم. وعند رجوع السرية سالمة ولم تفقد احداً من افرادها هوس اهل السماوة (ثلث الجنه لهادينا وشوية شوية لبربوتي) ويقصد بالهادينا السيد هادي المكوطر.
ولما اشرف القتال في الناصرية على الانتهاء في 24 تموز 1915 , تلقى عبد العزيز القصاب امراً من القائد العام نور الدين باشا.بتعزيز الخطوط الدفاعية في السماوة وحفر الخنادق. واعطى عبد العزيز القصاب التعليمات اللازمة لتنفيذ هذه الاوامر لقائد إلدرك. ولشدة حرص عبد العزيز القصاب على سلامة اراضي السماوة امام قوات الاحتلال البريطانية طلب ارسال تعزيزات اضافية للسماوة اذ لم يكن عنده التعزيزات العسكرية انذاك سوى تسعين جندياّ من صنف الاحتياط مسلحين باسلحة قديمة, مع سبعة عشر جندياً من قـوات الدرك. و حذر القيادة العامة في بغداد بأن الدفاع بتلك القوة الصغيرة يكاد يكون امراً مستحيلاً , الا ان طلبه لم ينفذ.

وبقي الوضع على ماهو عليه تحيطه الشكوك والترصد وعوامل الترقب والانتظار حتى يوم 28 تموز 1915 حين علم عبد العزيز القصاب بسقوط الناصرية وبوصول بعض الزوراق الانكليزية الى ناحية الخضر متجهة نحو السماوة. فعقد اجتماعاً مع رئيس البلدية ورؤوساء وشيوخ العشائر واخبرهم بقرب وصول الزوارق البريطانية الى السماوة. وسألهم فيما اذا كانوا مستعدين للدفاع عن بلدتهم فعاهدوه بالدفاع عنها. ولكي يتأكد من اقوالهم طلب منهم ان يقسموا بالقرآن الكريم فأقسموا بذلك. كما تناول عبد العزيز القصاب عصا وقال لهم ((هذه عصا العباس اطلب منكم الحلف بها)) فأمسكوا العصا وحلفوا بها واحداً بعد الاخر وعاهدوه بأن يحيون معه ويموتون معه.الا ان العهد سرعان ما نقض , ففي الوقت الذي عاهدوا فيه عبد العزيز القصاب بالدفاع عن السماوة قام جمع من اهل السماوة بالتوجه نحو مخزن الاعاشة العسكري ونهبوا كل ما فيه من اطعمه وهجموا على سراي الحكومة ودور الموظفين. ثم توجهوا نحو دار عبد العزيز القصاب فوقعت مناوشه بالرصاص بينهم وبين حراس الدار استمرت مدَة ثلاث ساعات.وعلى اثر هذه التطورات انسحب عبد العزيز القصاب ومن معه من الموظفين وعوائلهم الى الرميثة. ونزل في سراي الحكومة , بينما نزل الموظفون ومرافقيهم في الحسينية. ومن بعد الرميثة التي استقر فيها بعض الوقت قرر ارسال الموظفين مع عوائلهم الى الديوانية وارسل معهم ولده عبد المجيد وعمره لا يتجاوز السبع سنوات مع جدته , ومعهم الحاج عبد الواحد احد اقاربه. وفي الطريق بين الحمزة والديوانية وخلال وصولهم الى عشيرة الاكرع. خرج عليهم بعض افراد تلك العشيرة فسلبوهم كل ماعندهم من حقائب وصناديق حتى ملابسهم, فقام الحاج عبد الواحد ورمى بنفسه على عبد المجيد ليحميه وقال ((خيراً له ان يموت ولا يموت عبدالمجيد والذي هو امانة في عنقي)) , وعند وصولهم الى كرد من الكرود القريبة من الديوانيه حيث تسكن عشائر الاكرع خرج متصرف الديوانية عزت باشا. بنفسه اليهم ومعه عدد من المرافقين، ووفروا لهم احتياجاتهم وبعض الاماكن لسكناهم.اما اهل السماوة فقد ندموا بعد عصيانهم السابق على الحكومة ونقضهم وعدهم السابق. اذ عادت الصراعات العشائرية بينهم واخذ رؤوساء السماوة وتجارها يراجعون عبد العزيز القصاب في الرميثة راجين منه العودة الى السماوة، حتى عاد اليها واستقبل بترحاب من قبل البعض من سادتها وعلمائها. وبدا باجتماعاته المتواصلة مع رؤؤسائها لبحث امور الدفاع عن المدينة واتفقوا على القيام باحكام تحصينها للدفاع عنها ضد الجيش البريطاني الزاحف نحو مناطق الفرات. وفي 28 تموز1916 هاجمت السماوة باخرتان حربيتان ووصلتا قرية عين صيد وقد تصدى لهم افراد العشائر ووقفوا بجانب عبدالعزيز القصاب واستطاعوا اصابة احداهن اصابة بليغة، وعند انتهاء الهجوم طلب اهالي السماوة من جماعة الغربيين من عبدالعزيز القصاب الاحتفال بالنصر امام داره،وفي ذلك الاحتفال حاول احد اتباع طفار وهو حنيش علي البدراوي من الشرقيين اغتيال عبد العزيز القصاب الا انه فشل في ذلك وحاول الاخر الهجوم على داره فقتله الحارس.
كان من نتائج الجهد المتواصل الذي بذله عبد العزيز القصاب في السماوة على مختلف المستويات الى تدهور صحته العامة واصابته بمرض جلدي (الاكزما) في يديه.
قضى عبد العزيز القصاب في قضاء السماوة مدة ثلاث سنوات اعتبارا من 6 ايار 1914 الى 20 اب 1916 وكان يتقاضى راتبا قدره 2000 قرش.
ويتضح ان السبب في استمرار عبد العزيز القصاب في منصبه كقائمقام للسماوة على مرحلتين للمدة من 1909 وحتى 1916 الى ان السياسة اقتضت في تلك المرحلة ابقاء الموظف الكفء الذي يشغل هذا المنصب الاداري مدّة طويلة في وظيفته لضمان استمرار عمل الجهاز الاداري بنجاح وكفاءة.

عن رسالة (عبد العزيز القصاب ودوره الاداري...)