صفحة مخفية من تاريخ العراق في العهد العثماني.. مذبحة المماليك في بغداد سنة 1831

صفحة مخفية من تاريخ العراق في العهد العثماني.. مذبحة المماليك في بغداد سنة 1831

رنا عبد الجبار الزهيري
مع مرور الوقت بعد محاصرة قوات علي رضا اللاظ الذي ارسله السلطان العثماني محمود الثاني لاسقاط حكم المماليك في ولاية بغداد واعادة الحكم المركزي عليها، ساء الوضع المعيشي للسكان، مما هيأ لعلي رضا الفرصة ليس لكسب بعض وجهاء بغداد فحسب، بل لكسب أعداد غفيرة من جنودها أيضاً، فقد كسب علي رضا الى جانبه أحمد أفندي خطيب الروضة الأعظمية،

والشخصية البغدادية المؤثرة في المجتمع عبد الرحمن الأورفلي، وفي الوقت نفسه أخذ الجنود يهربون الى الجانب المعادي يومياً.
ومن الجدير بالذكر أن علي رضا وجنوده لم يكونوا في وضع أفضل كثيراً من المحاصرين، سوى ما كان يتمتع به علي رضا من المزايا التي خوله إياها الفرمان السلطاني الذي يحمله، وهو أمر يحسب له المواطنون حساباً، كما كانت لديه القدرة على إعطاء الوعود المطلقة أيضاً. فقد أخذت قوات علي رضا تسأم القتال، في وقت إنصرمت فيه ايام الخريف، وبدأ الشتاء ينذرهم بالبرد والمطر، لذا تصرف بذكاء، فأكد للماليك أنه يرمي إلى إقصاء داود باشا ثم يعود الى حيث يريد، مما حملهم على الاعتقاد بأن مهمة علي رضا باشا تستهدف إعادة المماليك الى عظمتهم السالفة بإشراف ثانٍ.

وعندما أجاز الباب العالي لعلي رضا العودة الى استانبول، والعفو عن داود باشا، إذا لم يزل مخفقاً في تحقيق أهداف حملته، أخفى الأمر عن أهالي بغداد الذين كانوا يترقبون العفو عن واليهم المتمرد، فدعا وجهاء بغداد للتفاوض، وأبلغ ممثلهم ملا حسين، بأن أمراً سلطانياً قد ورده، ينص على عدم رضا السلطان منه إلا دخول بغداد، لذا فأمام أهل بغداد خياران لا ثالث لهما : إمّا الاستجابة للأوامر السلطانية والعفو وإما العصيان فالعقاب.
أحدث هذا الأمر إرباكاً في صفوف المدافعين، ففترت هممهم فداهمت مجموعةٌ من أهالي بغداد، المفعمة بالقلق، ليلة 14 أيلول، مزالج باب الظلمات، وسمحوا لسرايا علي رضا بدخول المدينة من دون مقاومة. وخطفت مجموعة موالية للسيد أحمد أفندي، خطيب الروضة الأعظمية، السيد (محمود النقيب)، وذهبت به إلى معسكر علي رضا، وبذلك تم عزله عن قيادة الجماهير البغدادية المدافعة عن
المدينة.
كان القائمقام صالح أغا خلال هذه الأزمة،”منصرفاً إلى الكأس.. ومجالس الأنس والطرب ويقضي وقته في اللهو”، أما داود فقد بقي محجوزاً ومهجوراً لا يطيق حراكاً في دار صالح أغا، وترك الأمور تجري كيفما تشاء. فامتنع من الفرار مع عشائر العقيل الى المنتفك. وبعد أن رفض ملا حسين لجوءه الى القلعة، توجه إلى بيت أحد أتباعه، مسلماً أمره لحكم القدر، فجاءته ثُلَّةٌ من ضباط غريمه لاصطحابه الى خيمة علي رضا حيث رحب به وتعهد له بأن لا يمسَّهُ بسوء، ويعده للرحيل الى الاستانة بكل احترام، وعندما استعدوا للرحيل، امر علي رضا كتيبة من الفرسان واخرى من القوات النظامية ان تحرس داود وقافلته، وعندما وصل الى الاستانة عفا عنه السلطان، وولاه البوسنة (1833-1835) ثم تولى منصب رئاسة مجلس الشورى سنة 1838، ثم تولى انقرة سنة 1839 وعزل سنة 1840، ثم حقق السلطان لداود باشا طلبه بان توجه اليه مشيخة الحرم النبوي، وظل هناك حتى توفي سنة 1850 ودفن بالبقيع.
ارتقى علي رضا اللاظ باشوية بغداد والبصرة وشهروز، فضلا عن باشوية حلب، في 27 أيلول عام 1831، وبغداد تعيش أسوأ أَيّامها، اذ لم تسترجع عافيتها بعد من كارثتي الطاعون والفيضان، ومؤيدو الوالي المعزول ما يزالون على قوة لا يستهان
بها. فوجد اللاظ أنّ تأسيس حكومة مركزية على دعائم راسخة، يتطلَّب أولا القضاء على المماليك، فدشَّنَ حكمة بتلطيخ يديه بدمائهم، فذبحهم بمكيدة دبرها لهم، اذ دعاهم، في 30 أيلول، الى التجمُّع لسماع قراءة الفرمان السلطاني، وبعد ان اكتمل جمعهم، اْنسَلَّ من مكان الاجتماع، ليأذن لثلّةِ من قوَّاته بإمطار المجتمعين بوابل من رصاص بنادقهم، طبقاً لاتفاق مسبق، فقَتلَ عدداً كبيراً منهم، بضمنهم نحو أحدَ عشر شخصاً من رؤسائهم، وكان صالح أغا (القائممقام) على رأسهم، إذ قَتل في طريقه الى مكان
التجمع.إذ أسرع اليه جمع من الجنود بينما كان راكباً حصانه، وانهالوا عليه ضربا وطعنا فنطق بالشهادتين ثم خرَّ الى الارض صريعاً، فتقدَّموا منه، وجزَّوا رأسه، ثم تركوا جثته عارية في أحد الأزقة،أعقبت هذه المكيدة عمليات مطاردة للمماليك في بقية أنحاء إلايالة، قَتل خلالها من قُتل، وألقي القبضُ على الآخرين، ونجا منهم من كانت له علاقات وثيقة مع البيوتات البغدادية الشهيرة، ومَنْ فَرَّ الى البصرة ملتجأً الى متسلّمها عزيز أغا.
عفا علي رضا عن الوالي داود باشا، وقد عللّ بعضهم هذا العفو بأنّ اللاظ رفض تحمل مسؤولية القتل، ولاسيما ان حادثة قتل خورشيد باشا، لعلي باشا والي يانية، كانت ماثلة أمامَه، إذ لم يتمكَّن خورشيد من تبرئة نفسه منها حتى مماته. ويرى آخرون أَنَّ داود نجا من غضب السلطان، لأنّ السلطان لم يُردْ أن يُنفرَ محمد علي باشا والي مصر، أو أنه أشفق عليه لعلمه بخدماته التي قّدمها للدولة
العثمانية، إلاّ أَنّ الأحداث اللاَّحقة تؤكدِّ أنَّ السلطان العثماني وواليه الجديد في بغداد، أبقياه حيّاً، عسى أَن يُصّرحَ مخابئ ثرواته، ولاسيَّما أَنَّ التعليمات الموجّهة من استانبول الى علي رضا كانت تنصُّ على ضبط جميع الأموال والممتلكات المنقولة لدواد باشا والمماليك، وتسجيلها، وإرسالها الى العاصمة استانبول.
وقد أُشيع أَنَّ داود يملك أموالا طائلة ونفائس كثيرة ومجوهرات، قدَّرها البعض بأكثر من اربعمائة ألف كيس اقجه، تمكَّن من جمعها خلال أربعَ عشرة سنة من
باشويته. لذلك بذل اللاَّظ جهوداً حثيثة لوضع اليد على تلك الأموال، فأرسل رجالا ذوي كفاية لحمايته خلال رحلته الى استانبول ظاهراً، وللكشف عن مخابئ تلك الأموال باطنا. وقد توقع يوسف بن عزرا الصَّرَّاف اليهودي أنَّه من الممكن أن يقود الرجال المقرّبون الى داود المطّلعون على أسراره، الى مخابئ ثروته إذا تمَّ التحقيقُ معهم وهم كُلّ من محمد افندي نجيب زاده الكركوكلي، ورمضان أفندي، والمصرف محمد أفندي، والصَّرَّاف اليهودي اسحق. وقد كَلَّف علي رضا، علي جناب أَفندي بتثبيت ثروات داود باشا في سجلات خاصة، فأغلق أبواب بيوت أبناء داود باشا ورجال باشويته، وختمها بالشّمع. باع علي رضا موجودات بيت صالح أغا بالمزاد العلني، بحضور قاضي بغداد محمد تقي الدين، وعثر في بيته على تسع وخمسين ألف قطعة من الذهب، تمّ نقلها الى خزينة الإيالة.
من جانب آخر فشل علي جناب افندي في العثور على أموال داود باشا، إذ كانت قد نهبت من الأهالي في أثناء حادثه قاسم أغا أو أمنتْ عند الشيخ عجيل شيخ المنتفك. أَكّد السلطان محمود الثاني (1808-1839) وجوب بذل الجهود اللازمة للعثور على أموال الوالي المعزول، إذ أن اختفاءها يلحق ضرراً بخزينة الدولة. فتم تشكيل لجنة برئاسة عارف أفندي للبحث عن الأموال المذكورة، ضمت عناصر اللجنة السابقة (لجنة علي جناب أفندي)، وشُكِّلتَ لجنة ثانية في استانبول للتحقيق مع الوالي المعزول. أكَّد داود باشا أنه لا يملك من الأموال شيئاً، وأن الخمسة آلاف كيس، التي كان يملكها، قد نهبها الأهالي، بينما يذكر بعضهم أن تلك الأموال قد أرسلها داود باشا الى الهند بواسطة القنصل البريطاني.
وفضلاً عن اهتمامه بممتلكات الوالي السابق، أهتم اللاظ بالقضاء على حركة متسلَّم البصرة المملوكي عزيز أغا، إذ كان عزيز أغا قد هرب من البصرة في أثناء دخول قاسم أغا الى بغداد، اثر نزاعه مع الزهيريين، ثم عاد على رأس قوة تمكن من تحشيدها من عشائر كعب وحاصر البصرة، لكنه اضطر الى رفع الحصار عنها بعد دخول علي رضا بغداد، وأخذ يعكِّرُ صفو الأمن ويشيع أن باشوية بغداد قد وجهت إليه. وكان الباب العالي قد أصدر فرمانا يقضي بإعدام عزيز أغا أينما وجد، فطلب علي رضا من الحكومة الايرانية تسليمَهُ إليه مراعاة لبنود معاهدة عام 1823 التي تنص على علاقات حسن الجوار بين الدولتين. فأذعنت طهران للطلب العثماني، وسلَّمت عزيز أغا الى والي بغداد، مع توصية بالعفو عنه، إلاَّ أن اللاظ نَفَّذ حكم الإعدام بحقِّه ولم يلتفت الى التوصية.
حَملتْ أعمالُ الوالي الجديد أهالي بغداد على مقته وكرهه، إذ سكتَ عن قسوة رجاله المفرطة في تجريد الناس من ممتلكاتهم، فما كادت تنقضي المدة التي كانت تسمح بمرورها الفطنةُ ويحتمها الحذرُ، حتى صودرت جميع ممتلكات الذين كان لهم أدنى ارتباط بالباشا السابق. وكان موظفو اللاّظ لا يتورعون حتى عن كيِّ النساء وضربهنَّ لإجبارهن على الادلاء بمعلومات عن الاموال التي يخِّبئها أزواجهُن أو آباؤهَّن. في وقت عَدَّ فيه بعض الأهالي الوالي الجديد مرتّداً عن الدين الاسلامي لارتدائه الزَّيَّ الغربي لبس الوالي الزيَّ المذكور تنفيذا لقانون القيافة (اللباس)، الذي صدر في 3 اذار عام 1829، الذي نص على وجوب ارتداء كل موظف حكومي مدني ورجل دين الجاكيت (السترة) والبنطلون (السروال) وغطاء الرأس (الطربوش).. فزادت هذه الأَعمال من صورة الغضب التي كانت تستعرُ في نفوس الأهالي، حتى جاءت حادثة أّرملة رضوان أغا، فَفَجَّرتها، وهي سيدة علوية من أسرة نقيب مندلي (علي الوردي، لمحات اجتماعية، ج2، ص9). أّمّا رضوان أغا فكان من المماليك، تولى رئاسة احد افواج الجيش الانكشاري في بغداد. ثم عُيّنَ رئيسا لقواتها النظامية، له مجلس وحرمة عند أهل بغداد، وقد بطش به علي رضا، وأخذ أمواله، ونهب داره. فقد التجأت الى بيت المفتي عبد الغني الجميل لتُودعَ عندهم طفلها البالغ من العمر ست سنوات، قبل فرارها من رجال الوالي، لكنَّ رجال الوالي انتهكوا حرمة بيت المفتي فدخلوه عنوة، بحثاً
عنها، مِمَّا أغضب المفتي. وهو”رجل شجاع كريم ذو دهاء وحمَّية على أهل وطنه، يحمي النَزّيل، ولا يعطي الدّخيل، ويطعم البائس الفقير”، فطلب من الوالي، في 28 مايس عام 1832، الكفَّ عن مثل هذه الاعمال، وعندما اخفق في الحصول على جواب قطعي فجَّرَ انتفاضةَ شعبَّيةً ضدَّه.
ويشير صاحب (ذيل مطالع السعود) إلى أَنّ أهالي بغداد شكوا الى المفتي ما يجري عليهم من أنواع التحقير والاهانات، فأمرهم بأن يقتلوا الذين يعتدون عليهم، ويتعرضون للنساء، فنفذ أهل بغداد أمر مفتيهم، حتى بدأت أعداد القتلى من الجنود تزداد يوما بعد آخر، وعندما وشى بعض ضعاف النفوس الى علي رضا باشا بأنّ قتل الجنود مبني على أمر المفتي عبد المغني الجميل وتعليماته، أمر الوالي بالقبض عليه ونهب أمواله. عندها خرجت مظاهرة من محلة قنبر علي (محل سكن المفتي) واتجهت نحو السَّراي، وبدأت أعداد المنضمّين إليها بالازدياد،”فانحاز نصف أهل بغداد الى جانب المفتي".
أخمدت قوات الوالي هذه الانتفاضة بالقوّة، فاشتبكت مع المتظاهرين الذين وصلوا الى باب الحريم في السّراي، وأطلقت عليهم نيران أسلحتها، ثم قصفت المحلة المنتفضة بالمدفعية، فدّمرت أكثر بيوتها، ومنها بيت المفتي، فاحترقت مكتبته التي كانت تضمَّ أكثر من سبعة آلاف كتاب عندها أضطُر المفتي الى الفرار الى عشيرة عقيل.
أُختلف في تقويم انتفاضة المفتي، فعدّها بعض الباحثين ثورةً قومية، وأنّها كانت من وحي الفتح المصري لبلاد الشام، ونتيجة التجاوب مع محتواه القومي. بينما يقلّل آخرون من شأنها بالقول :”إنّ المفتي استنجد بالمغاوير من أبناء محلَّته ونخاهم لحماية (العلويَّة) الشريفة... فهبوا لنجدته كما هي عادتهم في مثل هذه الحالة".
وإذا أردنا أن نضع الانتفاضة في اطارها التاريخي الصحيح، نقول : أنّ حركة عبد الغني الجميل كانت استجابة واضحة للتذمر الذي تفشّى بين أهالي بغداد، نتيجة لسياسة الوالي الجديد وجهازه الاداري، ويشير الى ذلك قائد الانتفاضة بقوله :”إنِّي لم أثُرْ على السلطان، بل على مظالم الوالي التي حلّت بالأهالي". و فضلاً عن ذلك هي حركة لا يمكن فصلها عن مدى تمسك العراقيين بالاستقلال النسبي الذي تمتعوا به خلال سني حكم داود باشا، كما بيّنت مكانه المفتي لدى أهالي بغداد.

عن رسالة (بغداد في عهد الوالي علي رضا)