ليف أولمن.. تتغيّر

ليف أولمن.. تتغيّر

أحمد ثامر جهاد
“أريد أن اكتب عن الحب، عن كوني كائنا بشريا،عن العزلة،عن كوني امرأة..”
من أجدر من الممثلة العالمية ليف أولمن،المعروفة، بغنى حياتها وإبداعها، في كتابة مذكراته، من امتلك مثلها ذاكرة عامرة بالمواقف والإنجازات والمشاعر الكبيرة؟.
إن أولمن من بين قلة من مبدعي العالم، نحتت اسمها بقوة في ذاكرة الجمهور..

في مذكراتها الموسومة (أتغيّر) والمهداة إلى ابنتها لين، تستعيد أولمن أهم محطات حياتها بأسلوب رشيق ومؤثر يليق بسيرة فنانة استثنائية نذرت روحها وسخرت جسدها للفن في المسرح والسينما.
وقد اختارت لمذكراتها الصادقة والجريئة مسارا حرا لا يلتزم بسرد نمطي يلاحق تغيرات الحياة عبر تتابعها الزمني، وإنما ركزت حديثها حول المواقف التي أثرت في حياتها والأشخاص الذين تفاعلت معهم، فضلا عن طرح تصوراتها حول أبرز أدوارها السينمائية، والأهم من ذلك كله طبيعة فهمها للحياة، ومحاولة قراءة ذاتها والآخرين في تأمل يتسم بالوضوح والجرأة والخفة..
عبر مشوارها الفني الطويل خبرت أولمن كيف أن النجاح والفشل يغيران الإنسان من حال إلى حال، وأن الفرد وحده من يصنع أقداره في هذه الحياة، بتوقه إلى السعادة أو مواجهته للفشل. لكن الألم يختبئ هو الآخر عند نهاية كل ابتسامة، فيكون الأسى أكثر ما يحصده البشر في حيواتهم، إذا ما تأمل المرء صور ماضيه ومستقبله، إذا ما أخطفته الوحدة في غفلة من الزمن، وانفض الجمع الأثير من حوله.
الفتاة النرويجية التي خلا وجهها من مسحة الجمال الاسكندنافي حملت في دواخلها روحا أوربية أعمق مما تفعله مساحيق التجميل على محيا نجمة سينمائية طافت شهرتها العالم كله.خاصة أن تلك النجومية اقترنت بأبرز أفلام المخرج السويدي الكبير انغمار برغمان الذي أصبح زوجها في منتصف مشوارها الفني.
***
أول صورة تخطها ليف أولمن في مذكراتها تتعلق بولادتها عام 1938 في مستشفى صغير بطوكيو. إشارة ذات دلالة عميقة تستعيد أولمن من خلالها تلك الحادثة وتقول إن أمها تتذكر شيئين عن ولادتها.
“الأول أن فأرا مر من أمامها واعتبرته فألا حسنا، والثاني أن الممرضة همست في أذنها بنبرة اعتذار..يؤسفني أنها فتاة.هل تفضلين إخبار زوجك بنفسك؟”.
من تلك اللحظة لم يفارق أولمن الشعور بأنها ليست أفضل شيء يمكن أن يحدث بالنسبة لوجودها.رغم ذلك رسمت الفتاة الشهباء ذات الملامح الحادة لنفسها مسارا قاسيا ومثابرا من أجل تحقيق أحلامها وطموحاتها.. عشقت الكتابة والموسيقى وأبدعت في التمثيل المسرحي منذ مطلع شبابها، وامتحنت قدراتها الأدائية وطاقتها الذهنية على الابتكار والتقمص والتنويع وهي تؤدي على خشبات المسارح الأوربية عشرات الأدوار الصعبة في أعمال مسرحية بارزة لكتاب مثل سترندبرغ وابسن وبريخت وآخرين.
ومثلما لم تبعدها السينما عن عشقها القديم للمسرح، فإن بريق نجاحها السينمائي لم يسرق منها لذة الهدوء الداخلي الذي طالما انجذبت إليه.لقد وجدت أولمن نفسها في الاسترخاء والصمت والتأمل؛ في ذلك النوع من السكينة والصفاء الذي عرفت به المدن الاسكندنافية الباردة،حيث يمكن للمرء بعد انتهاء يوم شاق التمتع بالجلوس إلى جوار نافذته في شتاء ممطر،يراقب حركة الناس العائدين إلى منازلهم بخطى عجولة.
تتحدث أولمن في مذكراتها عن ذلك الوجود الحميم للأشياء.متعة تناول وجبة عشاء مع الأصدقاء على مائدة واحدة تزينها الشموع وكؤوس الشراب الأحمر، والاستماع إلى ثرثرتهم وهي تخلف سعادة خاصة وشعورا أليفا من أن لا شيء يحصل،لا شيء يمكن له أن يكدر المرء في أمسيات كهذه.
هذا الميل الذي تكنه أولمن لنمط بسيط من العيش يمكن عده وسيلة ذاتية لمكافحة القلق المتأصل في حياة الكائن. قلق أزلي برعت أولمن في التعبير عنه عبر العديد من الشخصيات التي جسدتها في السينما، خاصة أدوارها في أفلام برغمان:العار، وصرخات وهمسات، وبرسونا، وسوناتا الخريف.
كيف يمكن لنا ببساطة نسيان دورها المعجز في فيلم برسونا،أحد أجمل وأعمق أفلام برغمان. أظهرت أولمن في هذا الفيلم جل قدراتها الأدائية من خلال التعبير بوجهها وحركاتها فقط من دون أن تنطق بكلمة واحدة. إنها تتذكر على نحو خاص هذا الفيلم الذي شاركتها البطولة فيه الممثلة بيبي اندرسون، وتقول إنها كانت سعيدة بالحوارات التي تثار بين الممثلين والمخرج، كما تعبر عن إعجابها بموهبة اندرسون وكيف أنهما أمضيتا معا أياما جميلة في جزيرة فارو حيث تم تصوير مشاهد الفيلم.
عن زميلتها بيبي اندرسون تقول أولمن:”كنا نتخيل المستقبل، وزواجنا، وطفولتنا وشبابنا، ونعد بأن نصبح عرابتين كل منا لأطفال الأخرى”.
“كنت معجبة بكرمها وإخلاصها. قويت صداقتنا وصمدت على مدى السنين.”
كما تبدي احترامها لطريقة برغمان في العمل السينمائي وقدرته السريعة على فهم الممثلين، فضلا عن بداهته في توجيههم والنقاشات الطويلة العسيرة والجميلة التي تثار من أجل الوصل إلى أفضل رسم ممكن للشخصية.
“كانت المرة الأولى التي أقابل فيها مخرجا سينمائيا يدعني أميط اللثام عن مشاعر وأفكار لم يكن أحد قد لاحظها من قبل.كان ينصت بصبر، وسبابته على صدغه، ويفهم كل ما كنت أحاول التعبير عنه.كان عبقريا خلق جوا يمكن أن يحدث فيه كل شيء،حتى ما لم أكن أعرفه عن نفسي”.
***
ما لا تخطئه عين القارئ، ذاك الحزن المستتر خلف عبارات أولمن، وإن بدت احتفائية في بعض المواضع، فهي وإن كانت تستعيد أجمل لحظات حياتها في الحديث عن فترة زواجها عام 1967 برفيق رحلتها المخرج برغمان (له أربع زيجات سابقة) وخصوصية علاقتهما ومشاريعهما المشتركة، إلا أن قسوة انفصالهما كانت دافعا قويا لإعادة التفكير بالأشياء على نحو مغاير، فالألم على ما يبدو أكثر ملائمة من سواه لأن يكون حافزا فعالا للتغيير.
مع ذلك تحافظ أولمن على طرافتها وانفتاحها على الحياة، وتمنح نفسها فرصة أخرى للنظر إلى ما حدث ويحدث بشكل يتسم بالتبصر والإدراك العميق. ربما يكون وجود برغمان أفضل شيء حصل في حياتها، لكن مواصلة رسالتها في الفن ومنح ابنتها الذكية لين كامل حنانها وآمالها يشكلان قيمة إنسانية لا تعوض، وليس مهما حينذاك التفكير بإجابة عن كون ذلك الانفصال ضروريا أم لا. المهم هو الحفاظ على الصداقة الخاصة التي جمعت المخرج بهذه الممثلة في أروع مسيرة تعاون مشترك في تاريخ الفن السينمائي.
إن أولمن بفعل طبيعة شخصيتها المعقدة من جانب، والإصرار على فعل شيء ذي قيمة، تعلمت أخيرا أن تتغير، لكن على طريقتها الخاصة.
هاهي تقول”إن الأشخاص الذين تلامست حياتهم، يحتاجون إلى تجديد الاتصال، حتى بعد أن يذهب كل منهم في اتجاه مختلف،حتى وإن أصبحت الحياة الجديدة لكل منهم جزء مما يتقاسمونه الآن..”
“لا أحد يمتلك أي شخص آخر.إننا معا يملك كل منا الآخر والطبيعة والزمن.”
ربما الأجمل في تفكير أولمن أنها تستمد قوتها ليس فقط من مؤازرة الآخرين الذين أحبوها،بل من الأشياء والطبيعة..من كل ما تحبه بقوة..
رغم تلك المشاعر المؤلمة لم تتوقف أولمن عن سرد ذكرياتها الجميلة عن المدن الأوربية التي زارتها والمسرات التي عاشتها في السفر إلى أماكن مختلفة، فضلا عن الأوقات التي أمضتها بصحبة الأصدقاء والمعجبين ولقاءاتها بعدد من الشخصيات العالمية المعروفة. وعلى الدوام هناك مساحة كافية لإيفاء الآخرين حقهم من الكلام. تستطيع ليف تذكر الجميع وهي تتحدث عن الأوقات التي استغرقتها التحضيرات لبعض الأدوار السينمائية وطبيعة العلاقة الحميمة مع المسؤولين عن تصميم الأزياء والمكياج والمساعدين في حفظ الأدوار. لكل شخص مذاق خاص يصعب نسيانه.
أما حسها الأدبي في التعامل مع الأشياء وتأمل طبيعتها فقد كان زادها الذي تلجأ إليه دائما وهو مصدر شاعريتها ورهافتها.
تذكر أولمن”أن الإحساس بالريح وأشعة الشمس تلامس الوجه، وفي الوقت نفسه الإحساس بعبير الأشجار والصخور وتربة الأرض التي أسير عليها يلامس بشرتي، إنما يشكل جزء مما يغيّر حياتي”.
إن هذا الانتماء الروحي للطبيعة والشغف الجواني بكائناتها وأصواتها جعل أولمن من نمط أولئك الفنانين الذين يظهر عليهم جليا الانزعاج من البهرجة والإسراف في المظاهر، وعدم الارتياح للأماكن الفخمة وأجواء الكرنفالات الفنية التي تعج بالنجوم والمنتجين المهمومين بسبل توظيف أموالهم..لم تحب أولمن كل من يبدو عليهم الارتزاق من الفن،الذين يتاجرون بكل ما له قيمة إنسانية، أولئك الذين يضطرون لسرد الكثير من الأكاذيب واختلاق المزيد من الحيل للوصول إلى غاياتهم.
حتى أنها تذكر الاحتفاء الكبير الذي استقبلت به لدى زيارتها أمريكا..وكيف أنها لم تستطع التجاوب مع وجود شاب مهذب بثياب أنيقة يقف طوال الوقت عند باب غرفتها في الفندق من أجل تلبية طلباتها كنجمة سينمائية عالمية.
على الدوام أرادت أولمن أن تفوز بلحظة خاصة مع ذاتها. لحظة تراجع فيها ما فعلته وما ينبغي عليها فعله.
لقد منحتنا أولمن في هذا الاعتراف الطويل عزيمة أكبر على مواجهة مشاق حياتنا، إذا ما تقبلنا خسارتنا وسعينا لتقديم ما هو أفضل لأنفسنا وللآخرين..
“لم يعد في إمكان شيء أن يؤذيني بعد الآن”..قالت أولمن.

* أتغيّر- مذكرات ليف أولمن-دار المدى
ترجمة أسامة منزلجي