الحب المَرَضي والشهوة العمياء في قصة (او) لبولين رياج

الحب المَرَضي والشهوة العمياء في قصة (او) لبولين رياج

سعد محمد رحيم
هذه رواية تصدم، تحيِّر، تترك القارئ على حافات مشاعر مختلطة.. إنها تحكي عن حالة غير مألوفة، ما خلا في نطاق ضيّق جداً، وأيضاً غير مستساغة، وغير مبرّرة.. ولكن، بلغة مألوفة، مستساغة، مبرّرة.. تحيل إلى المركيز دي ساد، ولا تحيل إلى أناييس نن وهنري ميللر.. إباحية الأخيرين متفجرة، مشعّة، منعشة للحواس، وحرّة، على عكس إباحية (بولين رياج) فهي صارمة وجارحة، قاتمة، مشوِّشة للحواس، وقابضة للنفس.

حين تنتهي من قراءة رواية (قصة او Story Of O) لابد من أن تتساءل فيما إذا كانت كاتبتها امرأة سويّة، وفيما إذا لم تكن تعاني من عُقد نفسية مركّبة قد تتصل بذكريات طفولتها، أو بخبرات جنسية لم تستطع مواراتها بشكلٍ كافٍ في طبقة تحتية من عقلها اللاواعي؟. أم أن الأمر لا يعدو كونه مغامرة إبداعية للخيال السردي ليس إلاّ؟.

إنها قصة الحب العاري، المجرّد من الكرامة.. الحب الذي لا نجد له مسوِّغاً، أو شيئاً يتصل بخارجه، أو هدفاً!!. هو الحب الوحشي، البدائي، النقي بحدّة كسكين جارح.. حبٌ هو غاية ذاته.. الحب الذي لا يبالي بالثمن الذي يُدفع من أجله مهما كان قاسياً موجعاً وباهظاً.. الحب الذي لا يعنيه شيئاً سوى أن يستمر إلى الأبد.. الحب الذي لا يقترن بالتفكير بالموت إلا في النهاية.. حب ـ ولن نتأكد من حقيقته الشعورية ـ في مقابل التخلي عن الذات والروح والحرية.. حب مرضي إن صحّ القول.
تدخل الشخصية الرئيسة للرواية (او) مكاناً غريباً، مخيفاً اسمه (رواسي) بناءً على اقتراح عشيقها (رينيه) من غير أن يبدو عليها أنها مترددة أو قلقة. والأدهى أنها تعرف ما الذي ينتظرها هناك، فضلاً عن أنها تتقبل كل ما تتعرض له، وكأنه قدر محتوم لا راد له، أو من طبيعة الأشياء.. هناك تُجلد، وتكوى بالنار وتُغتصب بطرق شاذة وقاسية ولا تعترض، كما لو أن رضوخها السلبي المغيظ، وخنوعها هو الطريق الملكي لقلب حبيبها. فلكي لا تخسره، على الأقل هذا ما تدّعيه، أو ما يخبرنا به الراوي، تُمتهن كرامتها، ويجري التعامل مع جسدها بعنف مفرط وبشع كمرمى للمتعة السادية.
تُربط بخطّافات، وتُقيّد بسلاسل، وتوسم بالنار، وتُثبّت حلقات بأعضائها، وتنهال عليها السياط، ويُخترق جسدها بلا رادع من قبل أشخاص عديدين.. ولن تفكِّر أن تغادر، أو حتى أن تشتكي.. لا حول لها، ولا رأي. فقط كانت تذعن لما يُطلب منها..”كانت تلتزم بتنفيذ تلك الأوامر كأنها تنفِّذ واجباً. كان من المستغرب أن تكون راضية عن هذا تماماً، ولكن تلك ما كانت عليه الحال”ص151.
الأجواء في (رواسي) طقوسية صارمة، تفتقر إلى التعاطف والشفقة والحنان والحميمية والدفء. وما تصوِّره الروائية أشبه ما يكون بحلم تعيس، أو كابوس.
“كانت (او) تشعر بالسعادة لأن رينيه كان يطلب من الآخرين جلدها ولأنه حوّلها إلى عاهرة، وذلك لأن خضوعها المشبوب بالعاطفة يثبت لحبيبها بأنها مُلكٌ له وحده، ولأن ما كانت تختبره من ألم وعار تحت ضربات السوط، وما كان يُظهره من غضب أولئك الذين يجبرونها على منح المتعة لهم، غير آبهين بمتعتها وسعادتها، بدا لها الطريقة المثلى لتكفّر عن ذنوبها"!! ص109. وماذا كان يمكن أن يكون ذنبها الذي تستحق عليه هذا العقاب المشين يا ترى؟.
بالمقابل؛ أن تقبل (او) بما يجري لها، بإذلالها وتعذيبها واعتداء شلّة من الأشقياء عليها وقسرها على ممارسة الجنس معهم بطرق غريبة، وحتى شعورها بالمتعة، لا يجعلنا نتعاطف معها، ونقول أنها ظُلمتْ وسلبت منها حريتها. وحالة أنثى تقدّم بهذه الصورة لا شك ستثير معارضة واستنكار الجمعيات النسوية والهيئات المدافعة عن حقوق المرأة.
لا يمكن تقويم حبكة هذه الرواية في ضوء المعايير الإنسانية المشاعة.. لا يمكن فهم لماذا تضحّي امرأة بكرامتها وحريتها، وترضى بالتعذيب والاستعباد.
“وبدأ حديثه بإخبارها ألا يخطر ببالها أنها أصبحت الآن حرّة، باستثناء أمر واحد، فلها الحرية بأن تتوقف عن حبّه، وأن تغادره على الفور”ص64. بيد أنها لا تريد أن تفعل.. لا تريد المغادرة!!.
أهو أمرٌ من أجل الحب كما تقول؟ أهو حبٌ حقاً؟.
“لم تعد حرّة بعد الآن؟ لا، حمداً لله، لم تعد حرّة. ولكنها كانت تشعر بالخفّة، كانت تشعر كأنها حورية سابحة بين الغيوم، سمكة عادت إلى الماء، تائهة في ذلك المزيج من السعادة، ذلك لأن تلك القيود، تلك الأسلاك التي أمسكها رينيه بيده، كانت الشيء الوحيد الذي تشعر من خلاله بتدفق الحياة في جسدها”ص107 ـ 108.
ترضى (او) أن تصبح شيئاً، ملكية شخص، جاهزة للاستعمال في أي وقت.. شخص من حقه أن يفعل بها ما يشاء، ويهبها لمن يشاء.
الحياة النفسية لـ (او) هشّة.. فهي بقدر ما تتأثر بقدر ما تعيش تقلّبات مشاعرها، وفي لحظة يمكن أن تتمكّن منها اللاأبالية..”لم تستطع (او) أبداً أن تفهم اختلاط واختلاف مشاعرها المفاجئ والدائم، لكنها قبلت به كحقيقة مهمة لا يمكن لها إنكارها: كانت فكرة التعذيب تروق لها، لكن حين كانت تُجبر أن تخضع لأنواع التعذيب، كانت تشعر أنها مستعدّة لبذل كل ما بوسعها لتجد طريقة للهروب. وبعد أن ينقضي الأمر، كانت تشعر بسعادة لكونها خضعت للتعذيب، خاصة إن كان التعذيب قاسياً واستمر لفترة طويلة”ص172.
كانت لها حياتها الطبيعية في الماضي، وكان عملها في قسم الأزياء في إحدى وكالات التصوير. غير أن وقوعها في حبِّ رينيه غيّر مسار كل شيء. رينيه الذي سيقدِّمها لقمة سائغة لصديقه ستيفن. وعلى الرغم من هذا السلوك الغريب ستقول له:
“ـ أنا ملكك، قالتها أخيراً لرينيه. سأكون ما تشتهيني أن أكون.
ـ لا، قاطعها قائلاً، ملكنا، رددي ما سأمليه عليكِ: سأكون ملكاً لكما. سأكون ما تريدان مني أن أكون”ص86.
من ثم سيبلغها رينيه أنه لم يعد مسؤولاً عنها.. وسيديمان معاً (رينيه وستيفن) احتفالات تعذيبها.”فإلى جانب المتعة التي يجدانها في سماع صراخها ورؤية دموعها، كان قرارهما أن يتم جَلدها مراراً لتبقى آثار التعذيب ظاهرة عليها دوماً”ص130.
إخضاع جسد الآخر للإهانة وتعريضه للألم لا يُحتسب هنا، في هذه الرواية، ظلماً طالما أن (او) تتلقى هذا الهوان برضاها، باختيارها الحر.. كانت تستطيع أن تقاوم وأن ترفض وأن تذهب إلى حال سبيلها لكنها لم تفعل، كما لو أنها ترغب بما يُطلب منها، حتى أنها تشعر بالمتعة والسعادة، إذ ينال جسدها ضربات السوط وتُغتصب بطرق عنيفة وشاذة. وشخصياً لا أقدر على تقبّل فكرة أن السادية والمازوخية سلوكيات اعتيادية يجب تفهّمها واحترامها. وأراها حالات مرضية لابد من أن يخضع المصابون بها للعلاج.
يفقد الجنس هنا بعده الطبيعي الحميمي الممتع، وجماله.. يصبح ممارسة وحشية، بلا رقة، بلا لطف، بلا احترام. علاقة التشارك فيه تتخللها آلية شيطانية.
“المديح الذي كان يكيله رينيه لجسدها، وتعقيبات السيد ستيفن، إضافة إلى خشونة الأسلوب الذي اتبعه الرجلان في الحديث عنها، كل ذلك أغرقها في خزي قارب في شدّتها دهشتها لاختفاء رغبتها بأن تكون ملكاً للسيد ستيفن، وحلّت مكان تلك الشهوة بأن تُجلد كنوعٍ من الخلاص، شهوة في الألم والصراخ كمبرر مناسب لها. امتدت يدا السيد ستيفن نحوها، ومجدداً استمرتا في مداعبتها حتى تأوهت. وبتأوهها هذا، كانت قد هُزمت، حُطِّمت وأُذلت”ص91.
سيهجرها السيد ستيفن أيضاً، وستعود إلى رواسي مرة أخرى لتكرِّر التجربة عينها، بما تحمل من شعور بالهزيمة، وطبيعة مازوخية.. وتقترح مؤلفة الرواية نهاية أخرى، كأنها أُخبرت بها، أو افترضت ذلك، واضعة حداً مأساوياً لحياة (او) بقرارها هي:
“وهنا نهاية أخرى لقصة (او) تقول بأن (او) حين شعرت بأن السيد ستيفن ينوي هجرانها، قالت بأنها تفضِّل الموت على ذلك. فمنحها موافقته على ذلك”ص224.
أعلينا أن نلوم (او) أو ندينها؟ لا شك أنها إنما تسلك بدوافع فيسيولوجية ـ نفسية خاصة بها. لكن أن يكون كل من تلتقيهم على شاكلتها تقريباً فإن الأمر يتعدى ذلك إلى ما يخص طبيعة العمل الروائي نفسه، ومؤلفته، والتي تكاد تقول لنا؛ إن البشر هم هكذا، في دوافعهم الخفيّة، ورغباتهم الدفينة.
(او) ليست امرأة سويّة، وكذلك رينيه ليس رجلاً سويّاً، ولا أي من شخصيات هذه الرواية تحمل شيئاً من السويّة البشرية. نحن معهم في جزيرة معزولة يقطنها نمط مختلف من الكائنات. فمقابل إيثار (او) الذي يصل حدّ المرض، نجد أنانية رينيه، وروحه الميتة، وهذا ما ينطبق على بقية شخصيات الرواية بهذه الدرجة أو تلك..
لا شك أن المرأة التي تكتب مثل هذه الرواية جريئة، غير أنها في الوقت نفسه ضعيفة بمعنى ما.. ففي تلك النقطة الحرجة، الزلقة، الشوهاء بين الجرأة والضعف كان المتن الحكائي لهذه الرواية ينمو.
أيمكن القول أن ثمة افتعالاً ما في عالم (او).. ناحية غير مقنعة، متصنِّعة؟.
أستطيع التأكيد؛ نعم. فـ (او) لا يبدو اسماً حقيقياً.. ففي موازاة تقنّع المؤلفة باسمٍ ليس اسمها، تمنح بطلة روايتها اسماً زائفاً.
تصرِّح (بولين رياج)، وهو اسم مستعار بأنها كتبت رواية (قصة او) لتثبت لعشيقها (بولان) بأن المرأة قادرة على كتابة رواية إيروتيكية، على عكس ما كان يظن.. لكنها في الحقيقة أرادت أن تحتفظ به بوساطة الطُعم السردي لأنها لم تكن واثقة من أن جمالها الجسدي سيُبقيه إلى جانبها. هذا ما ستعترف به بعد أربعين سنة من كتابتها لهذه الرواية حيث يكون الموت قد اقترب منها إلى حد مفزع، وحيث تكون مشاعر الخجل والكبرياء قد شحبت ولم تعد عائقاً. وحيث ستفاجئ الوسط الأدبي بشخصيتها الحقيقية (آن ديلكو). ولكي نفهم مغزى هذه الرواية يجب أن نعود إلى سياق تأليفها.. تقول رياج:”لقد كتبتها له وحده (تقصد حبيبها)، إرضاءً له، ولكي أستحوذ على تفكيره”ص9.
*(قصة او) رواية: بولين رياج.. ترجمة: ميرنا الرشيد.. دار المدى/ بيروت.. ط1/ 2017.