في ذكرى رحيله في  14 آب 1944..عندما عمل فهمي المدرس في البلاط الملكي

في ذكرى رحيله في 14 آب 1944..عندما عمل فهمي المدرس في البلاط الملكي

رفعة عبد الرزاق محمد
من القضايا التاريخية التي لم تزل موضع البحث والنقاش، وما اكثرها في تاريخنا الحديث،قضية عزل فهمي المدرس عن امانة البلاط الملكي سنة 1922 اثر مظاهرة بيوم التتويج.والمقال الذي بين يديك توضيح لهذه القضية التي مازالت – كما يبدو – محلا لطرح الروايات والاراء المختلفة. ان الشواهد التي اذكرها هنا تؤكد ان المدرس – رحمه الله – لم يخطب اية خطبة يومذاك،

وان عملية فصله كانت مؤامرة محاكة ضد الوطنيين المقربين من الملك فيصل الاول، ولعل الحاشية المحيطة بالملك كانت تخشى اي صوت عراقي وطني مقرب للملك وتلصق به التهم المختلفة لايغار صدر الملك ضده او التنسيق مع (دائرة المندوب السامي) لتصفيته.
والحقيقة ان الذي اثار الالتباس هو امين الريحاني الذي روى في كتابه عن الملك فيصل الاول (ص 115- 116، ط2) ان الملك بعث رئيس امناء البلاط – يقصد المدرس – ليقابل الوفد ويجيب الخطيب بكلمة شكر تناسب المقام، ولكن الرئيس وهو يسمع حماس الجماهير، ذهل ونسى مقامه الرسمي واشتعلت فيه الحميه والحماسة فراح في جوابه يخوض في مضمار السياسة والوطنية فهتف له الجمهور اضعف هتافهم لخطيب الوفد، وبينما هو يخطب وصل المندوب السامي السر برسي كوكس لتهنئة الملك، وكان واجب رئيس الامناء ان يستقبل المهنئ فختم خطبته بكلمة من نار فصاح انذاك الناس قائلين: ليسقط الانتداب ليسقط البريطانيون، ويقول الريحاني ان هذا الحادث زاد في الام الملك فكتب الى كوكس يفصح عن اسفه الشديد. ثم اقال رئيس الامناء من وظيفته.
هذه هي الرواية التي ذكرها الريحاني حول قضية فصل المدرس، وملخص الحادثة كما يصفها شاهد عيان، واحد الثقاة، هو المرحوم الدكتور محمد مهدي البصير في كتابه (تاريخ القضية العراقية، ج2 ص41) والتي استمر في تأكيدها في مناسبات لاحقة، هي انه لما حلت الذكرى الاولى ليوم تتويج الملك فيصل في 23 آب 1922 استغلت قيادة الحزب الوطني العراقي هذه المناسبة فقامت بمظاهرة الى البلاط الملكي، وبعد تهنئة الملك من قبل القيادة تقدم جعفر ابو التمن واخبر الملك ان الحزب يرغب في القاء كلمة وطلب من الملك ان يأمر احد رجاله ليحضر بالنيابة عنه للاشراف على الجمهور وسماع الخطاب، فندب الملك كبير امنائه فهمي المدرس لذلك.
وكانت اللجنة التنفيذية للحزب الوطني قد اتفقت مع حزب النهضة على ان يعهد الى محمد مهدي البصير لالقاء الخطاب من على شرفة بناية (المشيرية) في القشلة والتي اتخذت بلاطا ملكيا.
والقى البصير الخطاب على الجماهير المحتشدة في ساحة المشيرية (رأيت الخطاب كاملا في جريدة المفيد ليوم 25 آب 1922).. وفي هذه الاثناء قدم المندوب السامي الى البلاط لتقديم التهاني فلما وصلت سيارته الى مكان التجمع لشعبي لم تستطع سيارته اجتياز الجماهير الا بصعوبة، واثناء سير كوكس الى مكان الملك ارتفع صوت بين الجماهير وبعده عاصفة من التصفيق والهتاف، وعلم فيما بعد ان الصوت كان ينادي بسقوط الانتداب البريطاني. ويقول البصير ان الصوت اثار استياء اعضاء حزبي الوطني والنهضة لعلمهم ان كوكس سوف يستغل ذلك.
ومن هذه الرواية نجد ان المدرس لم يكن سوى مستمع لخطاب البصير بتكليف من الملك. ويقول البصير في مكان آخر ان المدرس لم يفه بكلمة واحدة في ذلك الموقف وان كل ما فعله هو الاستماع لخطابه وخطاب المرحوم محمد حس كبه خطيب حزب النهضة وان ما نسبه الريحاني الى المدرس هو من قبيل الزور والبهتان (سوانح ج2 ص 181). وفي مقابلة مع البصير اجرتها مجلة الف باء (10 كانون الثاني 1973) يضيف البصير قائلاً:
"... والحق انني القيت خطبتي دون ان اهتف بحياة الملك وعندما انتهيت همس لي المدرس بان اهتف فهتفت ولم يلق هو اية خطبة". ويبدو ان هذا ما قصده المرحوم توفيق سعيد الدملوجي مرافق الملك في حديثه مع الاستاذ حارث طه الراوي من ان المدرس لم يتجاوز مقتضيات الموقف الرسمي.
ومن الشهادات الخطيرة شهادة الاستاذ سامي خوندة الذي يذكر ان المدرس كان ينصت الى الخطيب باهتمام عندما دخل كوكس الى ساحة البلاط وتعالي الهتافات ضد الانتداب البريطاني، وان الذي هتف ضد الانتداب واثار الجماهير هو حسون ابو الجبن. ويذكر خوندة انه اتصل بابي الجبن بعد سنوات وعرف منه انه كان يجهل نتيجة عمله وقد اعلن امامه ان جهات رسمية طلبت منه ان يهتف حال وصول كوكس فقبل دون تردد!!.
وقد تبين فيما بعد ان كل ما يدبر ويحاك في البلاط من مؤامرات ضد الشخصيات الوطنية كان يقوم بها احد حاشية الملك ومن رجال رستم حيدر، وهو امين الكسباني. وقد اشار اليه غير واحد من الذين نثق برواياتهم. على ان المدرس بعد عزله ظلت الانظار ترنوا اليه لما امتاز به من اخلاص ونزاهة.
ولما اتجهت الرغبة الى انشاء جامعة آل البيت اختير المدرس رئيسا لها سنة 1924 حتى الغائها على يد نوري السعيد سنة 1930 بحجة ضيق الميزانية، وبعدها تقلد مديرية المعارف العامة لكنه اثر الاستقالة والانصراف الى ميدان الصحافة السياسية كما هو معروف في سيرته اللامعة.
***
والاخطر من كل ما ذكرناه اعلاه، الوثائق البريطانية التي تتيح للباحث فرصة طيبة لتقصي الحوادث ومعرفة الوجه الرسمي للموضوع. لاسيما وان دائرة المندوب السامي هي احد اطراف قضيتنا. وقبل ان اسوق الوثيقة البريطانية وهي القول الفصل هنا. اود ان اذكر ان (المس بل) السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي انذاك تقول في رسائلها (رسائل المس بل – ص648) انها كانت مرافقة كوكس في زيارته للملك وانها قد وصلت الى البلاط وكانت ساحته غاصة بالناس وحوالي ثلثمائة او اربعمائة يقفون تحت السلم، وبينما كان كوكس يرتقي السلم انطلق صوت بين الحشد لم يتبين معناه واعقبته موجة من التصفيق وتقرر (الخاتون) ان المظاهرة كانت مدبرة لتحدث في الوقت المحدد لاستقبال كوكس.
كما يذكر التقرير البريطاني عن احوال العراق لسنة 1922 – 1923 0ص18) ان القادة الوطنيين طولوا مقابلتهم للملك الى وقت وصول المندوب السامي حتى يؤكدوا له انهم حاضرون. وفي اليوم التالي ارسل المندوب السامي انذارا شديد اللهجة الى رئيس الديوان الملكي يحتج فيه بعنف على ما لقيه من معاملة يوم التتويج ويطلب منه الاعتذار وعزل فهمي المدرس اذ كان هو المسؤول رسميا ويطلب بيانا بالاجراءات التي ينوي الملك اتخاذها ضد المواطنين.
واوعز فيصل الى سكرتيره رستم حيدر ان يرد على الانذار البريطاني فارسل كتابا الى المندوب السامي اعرب فيه عن التأثر الشديد الذي اصاب الملك والتأكيد له بان الملك سيعمل كل ما هو ضروري.
واليك الوثيقة البريطانية التي كتبها المندوب السامي ووصف فيها احداث ذلك اليوم، والوثيقة من محفوظات مركز الوثائق البريطاني في لندن ورقمها (اف. اف 7771/371).
"الى وزير المستعمرات (سري) 597 بتاريخ 25 آب 1922)
مرت في يوم 23 آب الذكرى السنوية لتتويج فيصل، وقد اعتبر ذلك اليوم عطلة رسمية كما استقبل الملك المهنئين في السراي، لقد ذهبت للتهنئة مع الهيئة العاملة معي في الوقت الذي حدد لنا. عندما دخلت ساحة السراي وجدت حشدا مؤلفا من بضع مئات من الناس ملتفين حول بناية الملك. لقد افسحوا المجال لسيارتي بالمرور وعندما بدأت اصعد الدرج لاحظت بان الحشد كان يستمع الى خطاب من شخص يقف مع مجموعة من الشخصيات العربية في شرفة الغرفة التي كان فيصل يستقبل فيها وفود المهنئين، وعند اجتيازي للدرج صفق الحشد لبعض الملاحظات التي صدرت من شخص ما من بين المحتشدين والتي لم اتمكن من سماعها بعد مغادرتي السراي بدقائق تفرق الحشد. لقد طلبت اعلامي بما كان يجري، وقد وجدت بان الملك قد استقبل مباشرة قبل استقباله لي الحزب السياسي المتطرف وعند انتهاء المقابلة اتجهوا الى الشرفة المطلة على ساحة السراي حيث القى الاعمى الديماغوجي المنهج للناس، السيد مهدي البصير الحلي خطابا في الحشد ضد السياسة البريطانية والاستعمار البريطاني اما عن الملاحظات التي سببت تصفيق الحشد عند حضوري فقد كان هتافا يقول (يسقط الانتداب). عند اطلاعي على هذا التقرير كتبت في الحال احتجاجا شديد اللهجة الى فيصل مطالبا بالاعتذار حالا عن الاهانة الفادحة لممثل حكومة صاحب الجلالة، واقالة كبير امناء الملك فهمي المدرس الذي اشار او سمح للديماغوجي بالقاء خطابه بل انه وقف الى جانبه عند القائه الخطاب. كذلك طلبت قائمة باسماء الاشخاص المكلفين بحماية القصر الملكي.
لقد نقل فيصل الى فراشه هذا اليوم حيث يزعم انه يشكو من الم حاد في المعدة. ومع ذلك فقد استلمت الاعتذار كما قبلت مطالبي".
وفي اليوم الثاني كتب كوكس الى وزير المستعمرات (تشرشل) قائلا انه اوضح لفيصل بانهما يسيران في طريقين مختلفين وان القاء الخطاب من شرفة احد غرفه تعني انه قد اصبح بشكل واضح مع حزب الوطنيين المتطرفين وانه مسؤول عنهم. ولقد اخبره (اي لفيصل) بان عليه ان يعلن بشكل عام انفصاله وعدم علاقته بالمهيجين ويسير معنا بشكل عام، او ان يتحمل النتائج والتي تعني نهاية عرشه!!.
ملحق: نص الانذار الذي بعثه المندوب السامي الى الملك اثر الحادثة:
سعادة رئيس الديوان الملكي المحترم نرجو ان تخبروا جلالة الملك بان فخامة المعتمد يحتج بعنف ضد ما لقيه من المعاملة في وقت كان فخامته يمثل حكومة ملك بريطانية العظمى، مارا بباب غرفة الاستقبال، ليؤدي مراسيم التبريك وان فخامته اخبر لندن عن هذه الحادثة، ويطلب ان يعتذر اليه، وان يعزل فهمي افندي المدرس اذ كان هو المسؤول رسميا، ويطلب فخامته بيانا عن الاجراءات التي ينوي جلالة الملك اتخاذها ضد الخطيبين اللذين حقرا مقام الملك بالقائهما خطبة مهيجة.
24 اوكست 1922
بيرسي
*****
ولد فهمي المدرس سنة 1873وهو ابن القاضي الشرعي الشيخ عبد الرحمن بن سليم بن محمد بن احمد بن الشيخ سليمان الخزوجي الشهير المدرس، وكان الشيخ سليمان قد قدم بغداد من الموصل واتخذها سكنا. وقرأ مبادئ العلوم على والده، ثم عكف على الدرس على شيوخ عصره كالشيخ عبد السلام والشيخ بهاء الحق والشيخ عبد الرحمن القرداغي واسماعيل الموصلي ونعمان الالوسي والشيخ محمد سعيد ومحمود شكري الالوسي. وتلقى في الوقت نفسه دروسا في اللغتين التركية والفارسية حتى اتقنهما، ودرس بعد ذلك شيئا من اللغة الفرنسية.
ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى عين مترجما في ولاية بغداد ومعاونا لمدير مطبعة الولاية، ثم رفع مديرا للمطبعة ورئيسا لتحرير جريدة الزوراء الرسمية بقسميها التركي والعربي (1901). وعهد اليه في خلال تلك الحقبة ايضا التدريس في المدرسة الاعدادية الملكية وعضوية مجلس معارف ولاية بغداد ونظارة مدرسة الصنائع. وقد نقل مديرا لمطبعة الولاية في جزيرة رودس ببحر سفيد في تشرين الاول 1905 على اثر وشاية رفعت عنه الى السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن اعيد الى منصبه السابق في بغداد في تشرين الثاني 1906.
وفي اوائل ايار 1908 سافر الى الاستانة، فلم يمض وقت قصير على وصوله اليها حتى قام الانقلاب العثماني، وكان فهمي المدرس يحمل توصية الى الشيخ ابي الهدى الصيادي المتقرب الى البلاط الشاهاني، فخرج على ما يرويه الدكتور ناجي الاصيل نقلا عن الاستاذ المدرس نفسه – قاصدا دار ابي الهدى فرأى الطرق تموج بالجماهير الحانقة المتحمسة التي تنادي بالحرية والعدالة والدستور. وعلم ان الثورة قد قامت على الاستبداد فمزق التوصية التي كان يعقد عليها اماله وانغمر مع الجموع المزدحمة الهاتفة لا يلوي على شيء.
وعرفت الآستانة فضل الاستاذ العراقي فعينته استاذا لأوصل الكتابة والانشاء باللغتين العربية والتركية في كلية الالهيات بجامعة دار الفنون فاستاذا للادب في كلية الآداب. وعهد اليه بتدريس اللغة العربية في كلية اللغات وحكمة التشريع الاسلامي في الكلية الملكية الشاهانية والآداب العربية في الجامعة ومدرسة الوعاظ العالية، ووضع في تلك المواضيع كتبا ثمينة.
واوفد سنة 1913 لدراسة مشاكل التعليم في بيروت ودمشق، فقام بمهمته ورفع تقريرا عن اصلاح المدارس.
وقد بقي يدرس في جامعة الاستانة حتى انتهت الحرب العظمى وانسلخت الولايات العربية عن الدولة التركية، فاستدعته الحكومة الفيصلية في الشام في تموز 1919 للقدوم الى سورية، ولم يكن منه الا ان ترك الاستانة على عجل ومضى الى دمشق. ولم يجد فيها ما تأنس اليه نفسه، فلم يلبث ان غادرها في تشرين الاول ميمما ربوع اوربة نحوا من سنة ونصف، ثم عاد الى بغداد بعد غياب طويل.
وعين في 21 آب 1921 كبيرا لأمناء الملك فيصل الاول فبقي في منصبه سنة واحدة ثم فصل عنه وعين بعد ذلك امينا لجامعة آل البيت (13 نيسان 1924) فتولى رئاستها الى سدها في 24 نيسان 1930.
وساهم في النشاط السياسي الذي دار في السنوات التالية، وكتب في جريدة "البلاد" مقالات سياسية خطيرة كان لها دوي شديد في المحافل الوطنية، فابعد الى الشام مع رفائيل بطي صاحب جريدة (اذار 1932).
وعين في 18 آب 1935 مديرا عاما للمعارف، فلم تمض اسابيع قليلة حتى استقال من منصبه (9 ايلول 1935). واختير بعد ذلك مديرا لدار العلوم العربية والدينية في الاعظمية من ضواحي بغداد فتولى ادارتها سنتين (تشرين الثاني 1936 – تشرين الثاني 1938). ولم تفارقه حماسته وقد بلغ الشيخوخة، فلما قام رشيد عالي الكيلاني بحركته الوطنية في ايار 1941، بادر فهمي المدرس الى تاييدها وألقى خطابا دفاعا عنها من الاذاعة اللاسلكية رغم علمه بعدم احتمال نجاحها. وقد توفي في بغداد في 14 آب 1944.
وكان يجلس للناس في داره فيؤم مجلسه رجال السياسة والادب والفضل والشباب الوطني. وكان يعتز بارائه، صريحا في القول، فوار العاطفة، متدفق البيان، وقد روى الدكتور ناجي الاصيل الذي لازمه سنين طوالا ان نوري السعيد سأله ذات يوم في بعض المجالس عن حاله فقال: لست بخير، فنحن كلما زرعنا الورد انبت شوكا.

المراجع : ملوك العرب للريحاني، تاريخ الوزارات العراقية ج1، رسائل المس بيل، اعلام اليقظة الفكرية لمير بصري.