محمود البريكان يتحدث عن تجربته مع الشعر الحر..إن تبدع أو لا تبدع.. هذه هي المسألة..

محمود البريكان يتحدث عن تجربته مع الشعر الحر..إن تبدع أو لا تبدع.. هذه هي المسألة..

أعد المقابلة : عبد الرزاق سعود المانع
الستاذ محمود داود البريكان، مدرس اللغة والأدب العربي، في معهد إعداد المعلمين في البصرة. ورئيس تحرير مجلة (الفكر الحي) التي تصدر عن مديرية التربية في لواء البصرة، وهو واحد من الشباب المثقف، ذوي الأطلاع الواسع في الأدبين العربي والغربي، وصديق الشاعر المرحوم (السياب) له تجربة واعية مع الشعر المعاصر، وله فيه رأي خاص، ننقله في هذا الحديث السريع الذي اجريناه معه..

– نحب أن نبدأ ببعض الأسئلة الخاصة، منذ متى بدأتم، يا استاذ محمود، قرض الشعر؟
* البداية الحقيقية للشاعر هي الفترة التي يتبلور فيها اسلوبه الخاص، وموقفه من الوجود، وكل ما قبل ذلك فمحاولات بدائية. لقد كتبت كثيراً ومزقت. على أن التحول الشعري لدي بدأ في وقت مبكر جداً، خلال سنوات الدراسة.
– وهل قلتم الشعر في البداية على اسلوب الشعر الحر أو الشعر المقيد ظ
* لقد بدأت بداية كلاسيكية، وخبرت ألوان الشعر واوزانه، ثم اتجهت إلى طرق أبواب جديدة ومن ثم، إلى سلوك سبيل التحرر في الأوزان. غير أني لم أتخل عن العمودي، وبقيت ألجأ اليه في بعض الحالات، ولا أرى تعارضاً في ذلك.
– سمعت أخيراً أنكم تنوون اصدار ديوان لكم، فما مدى صحة هذا الخبر؟
* في النية اصدار ديوان هو جزء من مجموعة مؤلفاتي الشعرية غير المنشورة، ويؤمل أن تصدر بعده الأجزاء الأخرى. المشروع قائم، وقد يحتاج إلى بعض الوقت.
– وعن الشعر الحر، ما رأيكم في التهم التي يوجهها خصومه اليه والى القائلين فيه؟ على سبيل المثال : انه انما يقصده القائلون فيه طلباً للسهولة وقصوراً منهم عن الشعر المقيد؟
* لقد كثر الكلام حول (الشعر الحر) كما كثر الذين ينظمونه من غير المؤهلين، أن أكثر ما ينشر من الشعر (الحر) لا يمت إلى الشعر ولا إلى الحرية. بل هو كلام هجين، ليس فيه جمال الشعر ولا بساطة النثر. وهذا لا يعني سقوط الشعر الحر، بل سقوط الشعراء. أن الشعر الحر موافق لمطالب التعبير العصري، ولكنه أنما يتألق على أيدي الشعراء الحقيقيين، فاما التافهون فيحولون كل شيء إلى تفاهة، وسواء كتبوا شعراً عمودياً أو حراً فأنهم لن يأتوا بجديد. إن المسألة مسألة خلق، والتجديد الشعري أدق وأعمق بكثير من أن يكون مجرد إيثار لهذا الضرب أو ذاك من ضروب النظم. وهكذا يمكنك أن ترى أن الشعر الحر بريء من سخافات المتشاعرين. فالشعر الرديء، رديء سواء كان عمودياً أو حراً. المهم أنما هو امكانات الخلق ومع كل ما لحق الشعر الحر من ابتذال، فأنا على ثقة إن الأمكانات الجديدة تجنح إلى الحرية وتحسن استعمالها.
أما القول بأن الجنوح إلى الشعر الحر سببه القصور عن اتقان الشعر المقيد، فهذا بصراحة كلام يشف عن جهل. ومن المؤكد أن الشعر الحر يبدو (أسهل) لكثيرين وهم أولئك الذين لا يحسنون نظمه ولا قراءته. ولكن أي شاعر حقيقي جرب النظم على الطريقتين : القديمة والجديدة، يستطيع أن يقرر أن كتابة شعر حر جيد تحتاج إلى حس موسيقي خاص، والى درجة عالية من التركيز والقدرة، لكي يحقق الشاعر الصياغة المثالية والتناغم الداخلي دون أن يقع في شرك النثرية، وهو ما لا ينجح فيه سوى قليل من الشعراء..
– يبرز هنا سؤال، استاذ محمود، فهل ترون أن في الأشكال الجديدة نقضاً للتراث القديم؟
* بالطبع كلا.. فالأشكال الجديدة ليست نقضاً للتراث القديم اطلاقاً، بل هي تطوير واعتناء، والحق إن التراث لا ينمو بالجمود والتكرار، بل بالتجديد والإضافة المستمرة. وأنا مثلاً أحب الشعر القديم كل الحب، وولائي عظيم للتاريخ الشعري، ولكني أجد للشعر الجديد طعماً خاصاً لأنني معاصر، والتحرر النسبي في الأوزان مستحسن بقدر ما يعني على تحقيق التجديد الشعري بمعناه الأعمق. أما أن يكون مجرد بدعة صورية، فلا.
– هل تعتقدون أنه اكتملت للشعر الحر المقومات الضرورية لكي يحيا ويستمر؟
* المهم امكانات الخلق، والشعر الحر أقدر على تجسيدها. الأكثرون يقلدون فيبتذلون كل شيء. أما المبدعون فيتخطون أنفسهم، وهؤلاء يحيون وتحيا معهم أشكالهم. للشعر مستقبل، هو نفسه مستقبل المواهب ليس لنمط الشعر الحر أي قيمة في ذاته، التجديد هو أولاً قضية روحية.
كلا، لست قلقاً على مصير الأوزان الحرة، ولكن هل تتحقق من خلالها إبداعات عظيمة؟ أن تبدع أو لاتبدع، هذه هي المسألة!
– المعروف أنكم يا استاذ، تعزفون كثيراً عن النشر، فهل تعتقدون أن هذه هي الطريقة الصحيحة في حياة الأديب؟ وبالنسبة للناشئين من الأدباء هل ترون الأقبال على النشر أم التحفظ فيه والأقلال منه أصلح لتقويم نتاجاتهم؟
* هذا موضوع دقيق، تصعب معالجته في كلمات قلائل. وليس هناك قانون واحد للأدباء، لأن الأدباء مختلفون طاقة وهدفاً. من الأدباء من يناسبهم ويكفيهم النشر في الصحف والمجلات والأذاعات. انهم يطفون فوق الأحداث اليومية، ويخاطبون الذوق السائد، ويطلبون شهرة لا تدوم ونجاحاً شخصياً خادعاً وقد يكون لبعضهم دوره وأثره الوقتي المحدود، ومن الأدباء من يتطلعون إلى مستويات خاصة، ويطمحون إلى إنجازات حقيقية باقية والى تحقيق اعمال فنية كبيرة. انهم يتمسكون باصالتهم أمام مختلف المؤثرات، فمن الطبيعي أن لا ينخرطوا في اية جوقة، وأن يبتعدوا عن الأجواء الأدبية الدعائية، أنهم مشغولون بالحياة والإبداع، وهم يريدون أن يخدموا قضية الإنسان بالطريقة التي تناسبهم فبالطبع يكتب المرء ليقرأه الآخرون، ولكن من حقه أن يقرر اسلوب التزامه ولماذا يجب على أي أديب أن يطل من نافذة الصحافة؟ أو يتكيف لما تقتضيه الإذاعات من اسفاف؟ أنا مقتنع أن وسائل الإعلام في وضعها الراهن تسيء بالجملة إلى القيم الثقافية الرفيعة، وهي تميل إلى تسطيح الأعماق وتحويل الفكر إلى نشاط استعراضي. أنت ترى أن القضية قضية قناعة شخصية، وعلى كل اديب أن يقرر طريقة وأن يحدد وسائله ومجالاته تبعاً لذلك. ولئن كان الأديب مسؤولاً فأنه حر في أن ينهض بمسؤوليته وفق ضميره الخاص أنني لا أثق بمقتضيات العرض والطلب في الحركة الأدبية. على الأديب أن يحمل مسؤوليته وحيداً. ومن الطبيعي أن يتخطى ما هو راهن وان يغامر على المستقبل.
– أخيراً اما هي اللوازم والشروط الضرورية للشاعر اليوم، في رأيكم؟
* التشبع بالتراث : الشعري والفكري، إلى الحد الضروري لتكوين حس تاريخي عميق بالموروثات وعبقرية اللغة.
التفتح على العصر، وتمثل ثقافته ووعي ظواهره وأحداثه.
حب الحقيقة. النقد الذاتي.
وأولاً وأخيراً : أن يكون المرء حياً ملء الحياة.


مجلة البيان
العدد 34 – يناير (كانون ثان) 1969