نصلٌ فوق الماء

نصلٌ فوق الماء

محمد خضير
يقول الشاعر محمود البريكان في قصيدته (حارس الفنار) : كان اليوم عيد، ومكبرات الصوت قالت : كل أنسان هنا، هو مجرم حتى يُقام على براءته الدليل.
ونحن نقيم الطقوس المأتمية في ذكرى البريكان نشعر أننا كلنا مذنبون، حتى نغسل أيدينا من دم الشاعر.

عندما تلقيت نبأ مقتله، كان عقربا الساعة يشيران إلى التاسعة من ليلة شباطية مبتلة، اكتريت سيارة أجرة، سارت بي بلا كوابح، في شوارع مقفرة، متناثرة الأضواء. المدينة الحجرية غافلة، والسماء مبللة صامتة، والأحياء مدثرون خلف الجدران بلا اكتراث. كنت أقصد الوصول إلى مسرح الجريمة لأتمرن على دوري القادم في مسرحية (العقاب الجماعي). يبدأ الدور بالسؤال : (لماذا تركتم البريكان وحيداً في ليلة داجية مثل هذه؟). سؤال تافه، لم يدفع بلاءً مبرماً كان قد تقدّم مثل (نصل فوق الماء) ليحصد برعماً ليلياً في حديقة العباقرة التي تصدح بين أفنانها ليليات (شوبان). أُقفل المسرح، وخُتم على الدور بسبعة أختام. نحن وحيدون، وحيدون، مثل غيتار غجري حزين.
بادرتُ بعد وفاته بأيام إلى استنساخ قصائده المنشورة، استخرجتها من أكداس المجلات المحفوظة في مخزن الدار، وكأني بهذا الأسترجاع الرمزي لآثار البريكان أبريء نفسي من لعنة (وهم) يطاردني، كما يطارد أصحاب الشاعر في المدينة، وأعلمُ أن أكثرهم يحتفظ بدفاتر نسخ فيها أشعار البريكان المتفرقة، بأعتبارها ديواناً سرياً يجهر به مزهواً في كل مناسبة تسمح بالكلام عن شخصية الشاعر المعتزل.
لقد ناء الشاعر بآلام البشر، وبكى دموعهم، وزفر آهاتهم، هكذا تقول قصائده، لا عن انتماء طبقي، أو عن تعصب عرقي، ولكن عن فطرة وجدان صادق، وشعور جمعي بالألم الإنساني الواحد، هكذا قال صديقه رشيد ياسين. إلا أن الشاعر لا يلبث أن يستدرك على تعاضده مع الآلام الجماعية التي تتدفق نحوه من كل جانب، بأقامة مرآة الوهم حاجزاً بين الوجود وعدمه، بين الحقيقة وظلها، فالبشر (يموتون بداء الوهم) على انفراد، كما يموتون بفعل الحروب والمجازر الجماعية على مرّ العصور.
أين تكمن حقيقة الموت الفردي والجماعي حول ملجأ الشاعر غير الحصين؟ إن إحصاءً كاملاً لمئات المفردات المتوارية في ظل مفردة (الموت) المتواترة في شعر البريكان، ستصفّي لنا أبعاد (الوهم) التي يتأرجح خلالها رقاص (الساعة السوداء) المعلقة على الجدار بين (البحر / الصحراء) و (التيه / الوجود) و (الماضي / الحاضر) و (الآن / الأبد) و (الماء / المرآة). والشاعر يحصي دقات الساعة : وهم.. وهم.. وهم..
إن الموت يظهر في (ظلمة الرؤيا) مثل (نصل فوق الماء) كما يتقدم في الوجود الخارجي مثل (مسخ من المسوخ المقنّعة) في (ظلال المرآة). وكلنا ينتظر موته مثل (قوس مشدود) ولكن لا علامة على الرحيل، والرحلة لم تبدأ بعد. إن (الانتظار) واحد من مراكز المعنى القوية في شعر البريكان، يمدده ويدوّره كما يمدّد خباز رغيفاً على لهب التنور أمام عيون الجياع المنتظرين عند بوابة الرحيل.
جاء الموت أخيراً، الموت الذي انتظره الشاعر طويلاً، بلا قناع، في ليلة لا كأس فيها ولا نغم، بل وحدة شديدة الوطأة، وصمت ثقيل. جاء الموت مسخاً حقيقياً انتزع روح الشاعر، غائصاً في ظلمة الليل. ولم يكن الموت وهماً.
انتظر البريكان الموت، ولم يكن مستعداً بما فيه الكفاية لمواجهته، فقد كان أوهى من أن يقاوم صخرة ثقيلة، جهمة الملامح، تدحرجت في الخفاء وسحقته على سفح الوجود الأملس. بل أن رعبه من الموت بلغ أقصاه عندما لمح في حدقتي القاتل، الذي يشهر نصل العدم البارد أمامه، بريق الألم الإنساني المتموجة مثل ضوء فنار بعيد. غاص الخنجر بين الأضلاع النحيلة، حينئذٍ جاء الشاعر يقين بابتداء الرحلة المنتظرة، مع طعنة الألم الحقيقي.
لم ينتظر البريكان موته كما انتظره القدريون والدهريون، ولم يخادعه بارتداء الأقنعة، أو يستمهله عمراً اضافياً، إذ لما واجه مصيره على ساعة الوجود المتحركة إقداماً وإدباراً، يساراً ويميناً، تخلّى عن (حقيقته واسمه) لـ (الرياح التاريخية) وانتمى إلى زمن الفكرة الجميلة، زمن الحرية. لقد رأى في مخادعة الموت عبودية للحياة واستزادة من أثقال الوجود، فاعتزل المصير الجماعي وواجه مصيره بمفرده. زودته موسيقى العزلة بأجمل الأفكار، وساعدته حرية الشعر على مقاومة العدم. إنّ الحرية – وقرينها الجمال، جمال الأفكار – أقوى اختراعات البريكان الشعرية. سار خارج الزمن لكي يتفادى ساعة الموت الحقيرة، واتخذ الشعر سبيلاً دائرياً حول قبور الماضي. كان الشعر درعاً صنعه البريكان من عيار الأفكار الخالدة. لكن الشاعر الذي ابتكر نوعاً قيماً من مقاومة العدم، فاجأه الموت بسلاح بدائي محمول بيد بشرية جاهلة، عدوانية بالغريزة، كان موته من عيار تافه لا يأبه بقلوب الشعراء وأغنياتهم الفطرية، ولو أن قاتله انتبه عند الطعنة الأولى لقيمة الشاعر لأمسك يده عن أن تتوالى على الجسد المتهاوي بخمس عشرة طعنة أخرى، بينما كانت غريزة العدم المجردة من الرحمة قد اسقطت كل تبرير عقلي عند القاتل الذي أمعن في انتزاع روح الشاعر.
يقال أن سائق السيارة الأهوج الذي دهس المفكر الفرنسي (رولان بارت) ندم ندماً شديداً على فعلته عندما وعى غفلته بحق رجل شهير. إن القتلة مصنوعون بمعايير لا يتصورها المغدورون. فلا بارت ولا منعم فرات ولا البريكان ولا غيرهم من أبرياء الحياة (السائرين في نومهم) قادرون على تجميد اللحظة المميتة التي تتقدم نحوهم مثل (نصل فوق الماء). إنها لحظة متماهية خارج الزمن والوجود في المرايا المنصوبة على الطرق غير المألوفة، ولا ينفع معها أي ندم. لقد أعدم قاتل البريكان خطط الشعراء لموت غير مألوف.
يقول (بورخس) في أحد أحاديثه : (الخلود الشخصي، مثل الموت الشخصي، أمر لا يصدق). لكننا ونحن الذين لم نشترك مع البريكان في حياته الشخصية التي صممها مثل ثوبٍ على مقاسه، نجد في موته خرقاً واسعاً في ثوب حياتنا. نحن الذين لم نصدّق (موته الشخصي) صرنا نتعزّى ببقاء قصائده شاهداً على (خلوده الشخصي).