أوّل كتاب قرأته... عبد العظيم فنجان  : انا و  زوربا اليوناني

أوّل كتاب قرأته... عبد العظيم فنجان : انا و زوربا اليوناني

هناك كتب لا جدوى من تعدادها، لأنها ضاعت دون أن تترك أثرا، وهناك كتب أخرى فعلت العكس : قلبت الموازين، وفتحت الاقفال والافق، لكن كتابا واحدا فقط، لاغيره، مهما مرّت الكتب الجميلة، لا يمكنها محو خطاه من على الطرق التي سلكتها. إنه الكتاب المحفّز الأول الذي رافقني دائما، منذ صباي، ومراهقتي، وحتى الآن :”زوربا اليوناني”.

أول تلامس مع زوربا كان عندما اصطحبني شقيقي الأكبر إلى السينما، أواخر الستينات، وعمري لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة، وشاهدت الفيلم الشهير، المأخوذ عن الرواية، الذي كان فوق مستوى مداركي، لكنه لعب معها دور المحفز. لأول مرة أصطدم بالثنائية المعروفة :”الروح والمادة”ولأول مرة أكتشف أن هناك طرقا أخرى للتعبير عن مختلف الاحاسيس، غير الكلام أو الكتابة، وأن الرقص ينطوي على معاني عميقة، وهو ليس مجرد حركات جسدية عابرة. هذا الاصطدام دفعني لمشاهدة الفيلم مرة ثانية، لكن بمفردي، وكان هذا هو العصيان الأول للعائلة.
كنتُ صبيا في عالم الكبار، عندما شاركت أبي العمل في مقهاه، ولذلك كان فيلم”زوربا اليوناني”وبالتالي روايته، من جنس ذلك العالم الذي دخلته مبكرا جدا. كان لموقع المقهى البعيد عن مركز المدينة ميزته في لملمة الضائعين، الضّالين والمخرّبين : الجنود الهاربين، الفنانين، ومثقفي الهوامش والشوارع الخلفية. ومن هؤلاء كان الفنان التشكيلي”حيدر الجاسم”الذي كان يرود المقهى، والذي حاول جاهدا أن يعلمني الرسم، ولمّا يئس منى، سألني :”ماذا تريد أن تكون؟”فأجبته فورا”مثل زوربا اليوناني”. ولم يتأخر، ففي اليوم الثاني كانت الرواية في مكتبتي.
لعلي نسيتُ أن أقول : إن والدي كان قد اختار ركنا في مقهاه، ليكون المكتبة، ولتكون هناك زاويتي، وعالمي الهشّ، الصغير والكبير، في آن واحد.
النموذج الزوربوي مازال يمثل الدافع الأول في سلوكي وفي آرائي، وقد أثّر حتى في طريقة تأويلي لمختلف أنواع الصراع، بل وفي خياراتي الفكرية، ومن الظريف أنني غالبا ما أمسك بهذا النموذج في تصرفات الآخرين العفوية أو المقصودة، بل وفي الكتب والروايات مثل رواية”الشمس في يوم غائم”لحنا مينة، و”الاشجار واغتيال مرزوق”لعبد الرحمن منيف، وغيرها.
هذا النموذج هو ما يجعل مني عابرا لمحنة العمر، انهدام الجسد، متجاوزا آلامي، خساراتي، بتحويلها إلى عمل جمالي، شِعرا وسلوكا..