النحت في الزمن

النحت في الزمن

علاء المفرجي
النحت في الزمن سيرة ذاتية غير تقليدية لاندريه تاركوفسكي.. رحلة في السينما والزمن، مثلما هي رحلة في الشخصيات الأثيرة لديه، كتاب عن الوجود بوصفه حصيلة للرؤى والانثيالات، هو باختصار نحت في الزمن العصي على الاعتياد، نحت لإظهار الرؤية لنشكل منها صورة يقينية في ازميل هو السينما.

يقول تاركوفسكي عن وظيفة الفن لاتكمن كما يفترض غالباً، في ترجمة الافكار بنجاح، أو نشر الفكر، أو تقديم العبرة والمثال، بل أن هدف الفن هو تهيئة الفرد للموت، حرث روحه وتمهيدها، وجعلها قادرة على التوجه الى الخير.
الفرد عندما تحرك مشاعره، رائعة فنية، فإنه يسمع في داخله نداء الحقيقة ذاته، الذي حثّ الفنان على تحقيق الفعل الخلاق.
عن الزمن يقول صاحب (طفولة ايفان)”التاريخ ليس هو الزمن، ولا هو النشوء.. كلاهما نتائج. الزمن حالة؛ إنَّه اللهب الذي يعيش فيه سمندر النفس البشرية.”ليستدرك أن الزمن والذاكرة يندمجانِ في بعضهما البعض. فهما وجهان لعملةٍ واحدة إن قمت بمحو أحدهما، تنمحي بذلك قيمة الآخر. وقد كانت السينما بالنسبة إليه هي وسيلته في الإمساك بهذا الزمن، طبعه، ونسخه على الشاشة الكبيرة قدر ما يشاء، فيقول عن ولادة فن السينما :«لقد اكتسب الإنسان منبتاً للزمن الفعلي. بعد رؤية الزمن وتسجيله، صار بالإمكان الاحتفاظ به في عُلبٍ معدنية لفترةٍ طويلة وإلى الأبد».
وبرغم قلة أعماله (سينما، أشرطة، روائية) فإن تلك السينما ومؤرخيها يضعونه في مرتبة كيروساوا وبرغمان وبونويل وبازوليني والقلة الأخرى التي لا خلاف على موهبتها العميقة وعبقريتها الفذة.
فمن معطف ميخائيل روم ذلك المنتمي الى جيل مبدعي الأشرطة السيمية خرج اندريه تاركوفسكي وكان لابد له وهو الموهوب أن يصنع أشرطة مختلفة خاصة وأنه يدرك أن الإبحار في موج (السينما السوفيتية سابقاً) التي أذهلت عشاق السينما بمنجزها أمر تكتنفه الصعاب ويتطلب قدراً كبيراً من المغامرة.
إن أهمية سينما تاركوفسكي تكمن في جمال تلك السينما وشاعريتها، وفي مثل هذا النوع من السينما يواجه المتفرج تماسك البناء الفني-الفكري الذي يخلقه المخرج (الشاعر والفنان) وخروج هذا الإبداع كتعبير كامل ليس فقط عن مكنونات صاحب العمل بل عن الرغبة في خلق سينما مختلفة.
في فيلم (المرأة 1974) يتيح تاركوفسكي للشعر أن يتفجر في عمل سيمي.
ففي بداية الفيلم امرأة جالسة بالقرب من بيت في غابة ونظرها ممتد الى الحقول التي تتمايل نباتاتها بفعل الريح وكأنها تنتظر شيئاً ما... يقترب منها طبيب يتحدث معها تنشأ علاقة دافئة بين الاثنين يفكر الرجل بحزن يقف وينظر وراءه وكأن أحداً ناداه، لكنها لم تكن سوى الريح.
إن ما يجمع شخصيات تاركوفسكي أنها شخصيات مبدعة والشعر غالباً ما يكون سمة إبداعها.. وهكذا تراها شخصيات تعيش قلقاً وتمزقاً بين ما هو يومي وما هو فلسفي، بين الروحية والمادية مكونة رفضاً داخلياً.
في فيلم (سولاريس 1972) كان أكثر أيماناً بدواخل الإنسان، حيث يكتشف الحقيقة بسؤاله عن العلم الذي يبدأ كخطوة لصالح الإنسان وسرعان ما ينقلب ضده.
أما في فيلم (تضحية) فإنه يأخذنا الى عالم الرجل الذي يعيش عصراً غير إنساني.. في هذا الفيلم يسبر تاركوفسكي اغوار الشخصيات ويفصح عن دواخلها بمرايا شاعر ويقدم شريطاً مليئاً بالرغبات والهموم الإنسانية.
في فيلم (حنين) وهو أخر أعماله تتعامل الشخصية الرئيسة مع الصراع الداخلي بصمت وتسعى الى الى الغاء الحدود في الزمن، البطل هنا مدرس وباحث موسيقي يذهب في زيارة لقرية ايطالية يقتفي أثر حياة موسيقار روسي زار القرية نفسها قبل قرنين وينتاب هذا الموسيقار ألم وحنين الى بلاده، يتكرر الشيء نفسه مع الباحث.. يكفي أن نقف عند معنى عنوان الفيلم ومدلول هذه الكلمة في العربية، خاصة اذا ما عرفنا أن تاركوفسكي قد درس العربية وأتقنها.