دور الملك فيصل الاول في تاسيس مدرسة الغري

دور الملك فيصل الاول في تاسيس مدرسة الغري

د. عبد الستار شنين الجنابي
حققت ردود الفعل اتجاه سياسة الاحتلال البريطاني انجازات فعلية لصالح التعليم الحديث في النجف. اذ قادت القضية الوطنية الى ضرورة تأسيس مدرسة تكون مركزاً لنشاط الوطنيين والقوميين من الشباب النجفي الواعي، عوضاً من البيوت والدواوين وزوايا المدارس الدينية التي لم تعد تفي بالغرض بعد انتهاء ثورة عام (1920)، وتشكيل الحكومة العراقية سنة (1921).

كان تصور الطبقة الواعية بأن الجهاد السياسي لم ينته عهده، بل اضيف له واجب اخر لا يقل عنه اهمية، وهو الجهاد لنشر الثقافة والتعليم الحديث على وفق منظور وطني وقومي. وكان من بين هؤلاء مجموعة عملت على تطبيق الفكرة على ارض الواقع، خصوصاً ان بعضهم قد تخرج من دار المعلمين العالية فأصبح لديه القدرة والكفاءة الرسمية ما يؤهله لبدء مشروع ثقافي يتم من خلاله دعم التعليم الحديث على وفق التصورات الوطنية والعربية. فكانت الفكرة التي دعا اليها السيد سعيد كمال الدين، والتي طورت الى تشكيل هيأة ووضع منهاج ثم تقديم طلباً الى وزارة المعارف والصحة العمومية لغرض انشاء معهد علمي حديث بإشارة من السيد محمد علي كمال الدين.
باشرت الهيئة المؤسسة لمدرسة الغري بسعي ونشاط لبدء العمل بالمشروع قبل وصول الموافقات الرسمية. اذ تم استئجار داراً في محلة المشراق تبرع بدفع مبلغ بدل ايجاره مدة سنتين الحاج جاسم ال جياد احد مشايخ الشامية، كما تم تجميع بعض الاثاث الضروري من بيوت الاعضاء، ثم بدءَ بتسجيل الطلبة المسائيين في المدرسة وتم البدء بالدوام الفعلي في نهاية شهر (شباط 1922) اذ القيت اول محاضرة من قبل محمد علي كمال الدين المتخرج حديثاً من دار المعلمين العالية والذي قدم خدماته متطوعاً، و تطوع للتدريس ايضاً الشيخ قوام الدين نجم الدين احد معلمي المدرسة الاميرية في النجف.
بقيت الدراسة مقتصرة على القسم المسائي مدة شهر تقريباً حتى افتتاح القسم النهاري الذي تم في (27 رجب 1340هـ / 26 اذار 1922م)، اذ سبق ان تقرر اقامة حفل افتتاح كبير يتم فيه دعوة مختلف الشخصيات و الشيوخ والوجهاء في النجف والفرات الأوسط وبعض شخصيات العاصمة بغداد. ولغرض تسهيل عملية الحضور، وجمع التبرعات، تم تشكيل لجنة عليا للاحتفال من بعض اعيان النجف وهم : الشيخ جواد الجواهري، والسيد محمد علي بحر العلوم، والشيخ عبد الرضا الشيخ راضي، والعلامة الشيخ عبد الكريم الجزائري، والحاج عبد المحسن شلاش، والسيد سعيد كمال الدين، على ان تكون الدعوة للاحتفال باسمائهم، الا انه تم الاتفاق اخيراً على ان تكون الدعوة باسم (الهيئة العلمية) لمدرسة الغري. وتمت الدعوة وحضر عدد كبير من العناصر الوطنية في الفرات الأوسط، وبغداد، فضلاً عن الشخصيات النجفية. وجرى الاحتفال في اليوم المحدد له وهو يوم (27 رجب 1340 هـ) الذي يوافق حلول موعد الزيارة الخاصة الى النجف بمناسبة مبعث النبي محمد (ص) في بناية المدرسة وقد حضره متصرف لواء كربلاء حميد خان، وكان من المتحدثين في الحفل الدكتور محمد مهدي البصير الذي القى خطبه مسهبة دعا في نهايتها المدعوين على التبرع لدعم هذا المشروع العلمي الجديد. وقد بلغ مجموع التبرعات التي قدمت خلال الحفل (4000) روبية.
ذكر محمد علي كمال الدين في مذكراته والذي يؤيد ما ذكرته سابقا ً، وهو ان الموافقة لم ترد من الوزارة على ما يتذكر، لذلك تم تذكير وزير المعارف والصحة العمومية انذاك السيد محمد مهدي بحر العلوم عن طريق بعض المدعوين من بغداد، مما حدا به الى ارسال رسالة معنونة الى السيد حسين كمال الدين مدير المدرسة يعلمه فيها بسروره بافتتاح المدرسة، ويهنئه على هذا النجاح في سبيل خدمة العلم والمعرفة، ويقدم الشكر له ولكل من اسهم في هذا المشروع النبيل الذي سيخلد ذكرهم، وختم رسالته بأنه لن يتأخر في دعم هذا المشروع ماديا ً و ادبيا ً لا في الوقت الحالي ولا في المستقبل. وكما يذكر صاحب المذكرات بانه لا يمكن اعتبار هذه الرسالة موافقة رسمية لانها لم تكن تحمل رقما ً ولا تاريخا ً ولا ختما ً، و انها وصلت بصورة شخصية وليس عن طريق التسلسل الإداري بموجب مخاطبات رسمية. لذلك لا يمكن اعتبارها الا رسالة شخصية فقط. ولكن مع ذلك فقد تم اعتمادها من قبل الهيئة المؤسسة كوثيقة رسمية يُستند اليها في العمل.
وبعد حفلة الافتتاح تم المباشرة بالقسم النهاري، اذ تم القرار على فتح ثلاثة صفوف اولى في القسم النهاري، وصف واحد في القسم المسائي. وتم تحديد الاجور بروبية واحدة للطلبة النهاريين و روبيتان للطلبة المسائيين، وتم مسك السجلات،وتعيين اول ملاك للمدرسة.. اما المواد الدراسية فقد كان رأي الهيئة التأسيسية ان تقوم بتدريس المواد التي سبق ان ذكرناها في طلب التأسيس. ومن ملاحظة هذه المواد نجد ان الهيئة قد قررت جعل مادة النشيد – الذي ادخلته وزارة المعارف في مناهجها اعتباراً من سنة 1923- ومادة الخطابة دروس مستقلة، وهذا شيء جديد لم تألفه المدارس الرسمية انذاك. وكان الدافع الى ذلك كما يمكن استنتاجه من مذكرات محمد علي كمال الدين، هو جعل المدرسة تسير على وفق المبادئ العربية وجعلها مركزاً للتربية الوطنية والقومية. وقد بلغ الاندفاع في هذا الاتجاه حداً الى ان الاستاذ (يحيى ق افندي الموصلي) الذي كان قومياً متطرفاً متخرجاً من دار المعلمين العالية , ثم تحول لاحقاً الى شيوعي متطرف، قد ترك عمله مديراً لمدرسة الكفل الرسمية والتحق بمدرسة الغري الأهلية لما تأكد لديه منهجها الوطني والقومي، فزاد المدرسة حماساً بأعماله وخطبه وخطب الأساتذة والطلبة في كل يوم وليلة، إذ احدث ذلك انقلاباً في المدرسة وحولها. و يسجل لهذا الأستاذ ولمدرسة الغري الأهلية السبق والفضل في ابتكار الطريقة الهجائية إذ اعلن مديرها (يحيى ق) بأنه يستطيع تعليم الأميين القراءة والكتابة خلال ثلاثة اشهر بطريقة (الالف باء) أي الهجائية وهو بذلك يسبق ساطع الحصري في ابتكاره لهذه الطريقة التي وضعها في كتاب القراءة للصف الاول الابتدائي، والذي اطلق عليه اسم (القراءة الخلدونية).
وفي العام الدراسي الثاني (1922 / 1923) اوفدت الهيئة الإدارية المؤسسة رئيسها السيد حسين كمال الدين الى بغداد لمقابلة الملك فيصل , ونجح السيد حسين في مهمته وقابل الملك وعرض عليه ثلاثة امور هي :
1- جعل المدرسة تحت رعاية الملك.
2- تخصيص منحة ملكية شهرية للمدرسة مقدارها (350) روبية من خزينة الملك الخاصة.
3- توصية الملك لوزارة المعارف بتقديم منحة للمدرسة.
وقد استجاب الملك فيصل لهذه المطالب وقدم منحة شهرية مقدارها (200) روبية، و قدمت وزارة المعارف بتوصية منه منحة مقطوعة مقدارها (1000) روبية. وفي هذه السنة ايضاً استطاعت المدرسة استكمال المراحل الدراسية، فتم فتح الصف الرابع والخامس في القسم النهاري، وستة صفوف في القسم المسائي، على ان تدرس في الصف السادس بعض مناهج الصف الاول المتوسط فيسمى هذا الصف بـ(الصف الراقي) (). ومن الامور الطريفة ان النقمة على البريطانيين في النجف على اثر فشل ثورة سنة (1920) مازالت قائمة بين الناس، وكان من مظاهر هذه النقمة ان اضرب طلاب مدرسة الغري عن تعلم اللغة الانكليزية اعتقاداً منهم ان ذلك من دواعي الشعور الوطني.
لقد اثار نشاط مدرسة الغري وهيئتها الإدارية وتبنى الملك فيصل لها حسد الكثيرين، وخصوصاً بعض رجال الدين الأجانب، لانها استطاعت في وقت قصير ان تثير الانتباه، وتكون مركزاً ثقافياً وسياسياً للعناصر الوطنية والنشاط القومي العربي في المدينة، فضلاً عما كانت تقوم به من نشاط تعليمي حديث، وتنشأة وطنية وعربية للنشأ الجديد، لم يكن يراد لها ان تنمو او تزدهر في النجف. لذلك تم استفتاء احد المراجع الإيرانيين في امر المدرسة والدراسة فيها، فأفتى بحرمة الدراسة الحديثة. وقد اضطر ذلك الهيئة الإدارية الى استفتاء عالم عربي وهو الشيخ احمد كاشف الغطاء الذي افتي بحليتها، فتعارضت الفتوتان واحبط سعي”الرجعيين”. وحينما آل الامر الى هذه النتيجة قامت العناصر المحافظة من رجال الدين بتجنيد الخطيب سيد صالح الحلي لمحاربة المدرسة، فكان يرتقي المنبر في الصحن الحيدري الشريف ويطعن بالمدرسة، والهيئة، والطلاب، والمعلمين، في حملة قوية. الا ان الطلبة لم يدعوه يستمر في طعنه فردوا عليه علناً وامام الناس، ثم شكته المدرسة للسلطات المحلية، فتم اعتقاله ثم نفي الى الفاو وبعد انتهاء مدة نفيه وعودته اعتذر من سلوكه وطلب الصفح.
سعت الهيئة المؤسسة للمدرسة الى تثبيت اركان المدرسة من خلال الحصول على قطعة ارض وانشاء بنايتها الخاصة عليها، فقدمت طلباً الى المراجع العليا بوساطة قائممقام النجف علي مظلوم بتاريخ (9 تموز 1922) اشارت فيه الى كون مدرسة الغري من المعاهد العلمية الحديثة التي يعول عليها الاهالي في تعليم وتهذيب ناشئتهم وتثقيف ابنائهم، وان هذه المهمة تتطلب ان تكون للمدرسة بناية لائقة بها وبمهمتها. لذلك ان الهيئة المؤسسة تطلب من الحكومة ان تسمح لها باستغلال قطعة الارض الخاصة بالثكنة العسكرية (القشلة) مع الاكمخانة (المخبز) التابع لها التي هي الان خربة خالية لا يستفاد منها، ليتم انشاء عمارة المدرسة عليها من تبرعات الاهليين.
وقد سبق ان طلبت هيئة المدرسة منحها الثكنة العسكرية وما جاورها من أراضي المخبز لإنشاء بناية لها، ولما كانت بناية هذه الثكنة خربة ولا يستفاد منها شيئاً، و ان وجود المباني العسكرية داخل المدينة مخالفاً للقواعد الجارية. وعليه يرى المجلس ضرورة ترك الثكنة المذكورة لمدرسة الغري ومساعدتها على اعمارها مما يوافق المصلحة العامة وارتياح السكان. وقد وقع المذكرة قائممقام النجف صديق الدملوجي، و مدير المال، وكاتب التحرير، واربعة من الاعضاء.
انتهى الامر عند مجلس الوزراء العراقي الذي عرض الموضوع بجلسته المنعقدة في (29 كانون الأول 1923) اذ صدر القرار بالموافقة على ترك الثكنة العسكرية والمخبز الكائنين في النجف الى مدرسة الغري وتسجيلها باسمها لإنشاء بناية المدرسة عليها. وهكذا استطاعت الهيئة المؤسسة لمدرسة الغري الأهلية في النجف الحصول على قطعة الارض الخاصة بها لإنشاء بناية المدرسة بعد تسع وعشرين شهراً من الانتظار والصبر.ويذكر محمد علي كمال الدين في مذكراته، ان مجلس الوزراء قد وافق على الموضوع بعد توسط الملك فيصل والحاح كل من كاطع العوادي، وعبد المحسن شلاش، ومحمد مهدي البصير، وسعد صالح .
وبعد تسجيل قطعة الارض باسم مدرسة الغري في سجلات طابو النجف باشرت الهيئة الإدارية بالعمل على جمع المبلغ الكافي لإنشاء عمارة المدرسة عن طريق اطلاق حملة تبرعات داخل النجف وخارجها. اذ قدمت طلباً بذلك للقائممقام عبد الله مظفر في (25 مايس 1925) بالموضوع راجين فيه ان يكون على رأس اللجنة. وقد حبذ متصرف لواء كربلاء عبد الله الدليمي بقيام حفلة لجمع التبرعات الا انه رفض ان تكون اللجنة برئاسة القائممقام لكي لا تأخذ شكلاً رسمياً.
و عند زيارة للملك فيصل مدينة النجف بتاريخ (11 كانون الاول 1923) قامت مدرسة الغري بإحياء حفلة ترحيبية له في المدرسة القيت فيها العديد من الكلمات والقصائد الشعرية. وقد استغلت هيئة المدرسة هذه المناسبة وطلبت من الملك ان يسعى لدى وزارة الأوقاف للتبرع بمبلغ معين للمدرسة مع مبلغ اخر مقطوع لمساعدتها في إنشاء بنايتها. وقد وافق الملك فيصل على ذلك وتعهد بدعم جهود المدرسة ورعايتها، وطلب من الهيئة ارسال من يمثلها الى بغداد لمتابعة الموضوع واقراره. و بالفعل اوفدت هيئة المدرسة السيد حسين كمال الدين لمراجعة وزير الأوقاف صالح باش اعيان لإتمام عملية التخصيص. وبناء على توجيهات الملك فيصل فاتح وزير الأوقاف مجلس الوزراء للموافقة على تخصيص مبلغ شهري ثابت مقداره (250) روبية كإعانة دائمة تدفع من واردات دفنية النجف ابتدءً من (1 كانون الثاني 1924).
وعند ذلك بدأت المباشرة بالعمل لإنشاء بناية المدرسة على الارض التي خصصت لها من الحكومة. الا ان مجموع المبالغ التي جمعت لهذا الغرض لم تكفِ لإتمام البناء. فجرت تشبثات جديدة، وتم تذكير الملك فيصل عند زيارته الجديدة للنجف في (أول مايس 1925) بوعده بإكمال البناية التي زارها موقعياً وشاهد البناء الذي لم يكتمل فأشار للسيد حسين كمال الدين بمراجعته في بغداد بعد عودته. وبالفعل تمت المراجعة، واقترح الملك فيصل تخصيص مبلغ (عشرة الاف روبية) لغرض اكمال البناية. وتم الصرف، وحوَّل المبلغ الى النجف وبوشر بالعمل من جديد، ولم يكتمل البناء الا في شهر (نيسان 1926) حيث شغلتها المدرسة واقيمت حفلة كبرى بالمناسبة. وقـــــد ارخها الشيخ محمد علي اليعقوبي :
مدرسة الغري حين ازدهرت
معاهد للعلم بها كالازهـــري
شادوا بها مدرسة أهليـــة
فأسست هذا أرخوا باسم الغـري.


عن رسالة
(التاريخ الاجتماعي للنجف 1932 ــ1968)