صفحات من تاريخ يهود بغداد..  أسر اقتصادية كبيرة

صفحات من تاريخ يهود بغداد.. أسر اقتصادية كبيرة

د. سلمان درويش
تحدث المؤلف عن عدد من الاسر اليهودية البغدادية الكبيرة التي لعبت دورا فاعلا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق، غير انها نالت شهرة عالمية لما قدمته من اعمال تجارية وصناعية مبهرة خارج العراق، نلتقط منها هذه الشذرات المهمة عن ثلاث اسر، كثيرا ما يشار اليها في مكانة اليهود العراقيين في المحافل الدولية.

عائلة الشيخ ساسون صالح(1750-1830)
كان الشيخ ساسون عميداً(ناسي) للطائفة اليهودية في بغداد مدة 38 سنة ورئيس المحاسبين(صراف باشي) للحكومة وتعرض لمضايقات الولاة العثمانيين الذين كانوا يبتزون المال من اليهود الاغنياء متى شاءوا ويقال انه منذ سنة 1773 لم يجسر هو وابنه داود (ولد في بغداد سنة 1792) على الخروج من دارهما وذلك خوفاً من الارهاب الذي كان من المحتمل ان يتعرضا له في الشارع من قبل اتباع الباشا الحاكم..
وفر داود من مسقط رأسه بغداد الى البوشهر في ايران وسرعان ما التحق به والده الشيخ ساسون حيث وافته المنية فيها.
وقصد داود الشيخ ساسون الهند بعد وفاة والده وجعل من بومباي مركزاً يدير منها اعماله التجارية وسرعان ما حالفه النجاح وأصبحت لعلاقاته التجارية فروع منتشرة في شتى انحاء العالم.
وقد قام بخدمات جلى للحكومة البريطانية خلال العصيان الذي قام به الهنود سنة 1859 وكذلك خلال حرب الافغان بالاشتراك مع صديقه ملا موسى بن ابراهام ناثان من اهالي مشهد(ايران) استحسنها حاكم بومباي العام ونال داود لقب الشرف(سر) من اجلها.
واقام السر داود ساسون مشاريع خيرية لفائدة ابناء جلدته اليهود وابناء الهند على حد سواء فبنى كنيسا في بومباي(1861) وكنيسا مع مستشفى في بومباي واستقدم له أساتذة من اوروبا وجهزه بمكتبة عامة وكذلك شيد معهداً آخر في بومباي للخدمات الاجتماعية المجانية.
وانتقل الى رحمته تعالى في بونا عن عمر يناهز الاثنين والسبعين عاماً.
وفي سنة 1874 أنشأت في بغداد مدرسة للبنبن باسم ولده السر البيرت(1818-1896) والحقت ادارتها لجمعية الاليانس الاسرائيلية في باريس وتحتوي المدرسة بالاضافة الى صفوف الدراسة وملحقاتها على كنيس خاص بها يعتبر من اضخم وأنفس الكنس الحديثة في بغداد وأكثرها أناقة وهيبة!
ونقل السر البيرت مع شقيقته آرثر وروبين اعمالهم التجارية الى انكلترا حيث برزوا في المجتمع البريطاني واصبح الشقيقان من ضمن حاشية الملك ادورد السابع ومن المقربين اليه.
اما سولومون داود اسون(1841-1894) فبقي في الشرق يير الاعمال التجارية فيه تساعده عقيلته فلورا(1859-1936) التي كانت على قدر كبير من العلم والثقافة وكثيراً ما كانت تستثار لتفسير بعض القوانين الدينية المستعصية كما كان لابنهما ديفيد ولع في جمع الكتب اليهودية النادرة ولاسيما المخطوطات منها وألف كتاباً في تاريخ يهود بغداد أتمه سنة 1932 ونشره ولده الحاخام سولومون سنة 1949 والاخير من مواليد 1915 وسكن اورشليم- القدس سنة 1970.
ومن العائلات البغدادية التي لها قرابة الى عائلة الشيخ ساسون، عائلة بيت((ابو روبين)) وعائلة الاديب والشاعر الاستاذ انور شاؤل وشقيقه سلمان، وعائلة المحامي حسقيل ناجي وأبناؤه نعمت(صيدلي كيماوي) وكامل(طبيب اسنان) ولطيف(مدرس) وعائلة صالح اليشاع والابنان سليم وموشي وعائلة سلمان عزرا صالح(كندا) وغيرهم.

عزرا ساسون اسحيق(1860-1950)
غادرا بغداد الى انكلترا مع افراد العائلة سنة 1923 واخذا على عاتقهما الاستمرار على ادارة وتمويل العمل الخيري الذي شرعا في انشاه في بغداد سنة 1917 وهو اقامة معهد للخياطة والتطريز للفتيات من الطبقة المتوسطة والفقيرة وذلك ليتسنى لهن الحصول على مهنة شريفة تنقذهم من العوز والفاقة وما قد يؤديان الى تدهور في الاخلاق وسقوط في احضان الرذيلة..
ثم اشتريا دارين مجاورين للمعهد الحقتا به وقد ارسلا من لندن أثاثاً عصرية فاخرة مع الآلات وأدوات الخياطة الحديثة المتطورة..
وسرعان ما تسابقت الفتيات للالتحاق بالمعهد وبلغ عددهن حوالي الاربعمائة فتاة...
واستمر(حاكولي) على ادارة المعهد مدة 26 سنة بصفته مديراً للادارة لقاء راتب وسمي المعهد باسمه(اتليه حاكولي) من قبل العوام خطأ!
أما عائلة اسحيق فقد استمرت على تغطية النفقات المترتبة على المعهد وكانت ترسل من لندن 400 باون سنوياً دون انقطاع..
وأخيرا أضيف الى المعهد مدرسة ابتدائية للبنات اللواتي يتراوح عمرهن بين الخمس والعشر سنوات ليحصلن على الدراسة الابتدائية بلا اجرة وتحملت عائلة اسحيق، وهي في لندن، النفقات اللازمة عن طيبة خاطر!
الوجيه يامين شماش
شيد مع أخويه يعقوب ويوسف في منطقة الحيدرخانة- شارع الرشيد، بغداد- مدرسة كبيرة للدراسة المتوسطة والثانوية مع كنيس واسه ومهيب واقتضى شراء 17 حانوتاً مع فندق وصيدلية لذلك.
تسلمت الطائفة البناية سنة 1928 بعد أن قبلت بأن تكون دراسة التوراة والدين ضمن البرامج الدراسية وكذلك دراسة اللغة الانكليزية بصورة مكثفة لاجتياز امتحان المتريكليشن بصورة اجبارية، بالاضافة الى تطبيق مناهج الحكومة الرسمية للدراسة الثانوية(البكلوريا)..

فرنك عيني(1894-1976)
والده يعقوب عيني من مشاهير تجار بغداد، ولد فرنك في بغداد وتخرج من مدرسة الاليانس الاسرائيلية.
سافر الى الهند وهو في سن السادسة عشرة وأخذ يعنل في التجارة فأظهر قابلية ممتازة وحاز على ثقة الكثير من اصحاب ومدراء الشركات التجارية الهندية وشرع في التصدير بين الهند والعراق وايران.
قصد برلين بعد الحرب العالمية الاولى وهنا أيضاً قام بالتصدير الى العراق وايران والشرق الاوسط وانتقل الى بلجيكا وأسس مصنعاً للأنسجة وتسبب في ايجاد العمل لعدد غير قليل من العمال خاصة عندما اصاب العالم الركود الاقتصادي سنة 1930. وتقديراً لمجهوداته هذه منحته الحكومة البلجيكية وسام البرت الاول كما حصل على وسام ليوبولد الثالث بعد الحرب العالمية الثانية وذلك لارساله من ايران الى العمال في بلجيكا رزم الاغذية دون مقابل ولتبرعه بالأموال اللازمة لاعادة تشغيلهم بعد ارجاع قدرة معمل الانسجة على الانتاج والتصدير.
وعرف فرنك بأمانته واخلاصه في معاملاته التجارية واتقانها كما عرف بحبه للاحسان والاخذ بيد الضعفاء بهدوء تام ودون اعلان او تهريج واقترن فرنك بالسيدة مزلي كريمة التاجر المعروف رحمين مصري سنة 1924 في بغداد وجاء بها الى بلجيكا ثم رافقته في تنقلاته بين مختلف العواصم بما فيها بغداد ونيويورك وعرفت برجاحة العقل ومساهمتها في مشاريعه الخيرية والاخذ بيده الى النجاح والتوفيق في اعماله.
ترك فرنك عيني بغداد مع افراد عائلته سنة 1948 وسكن نيويورك واستمر على زيارة العراق كلما سنحت له الفرصة.
وعندما قصد بغداد سنة 1941 بعد الفرهود وعلم بما يقاسيه الطلاب اليهود خاصة ابناء الفقراء والمعوزين من صعوبة لقبولهم في المدارس الرسمية حيث الدراسة فيها مجانية وكذلك لما علم بعدم قدرة الطائفة على فتح مدرسة ثانوية لهم نظراً لما تتطلبه المدارس من نفقات واجور لا قدرة للطائفة على انفاقها تقدم فرنك عيني بمشروع بناء مدرسة ثانوية على نفقته الخاصة لانقاذ الموقف وسد الفراغ وعلى هذا فقد أجر محلاً واسعاً ليكون مدرسة بصورة مؤقتة ودفع ايجار المحل وما لزم لشراء الاثاث وادوات المدرسة وتعهد أيضاً بدفع جميع العجز المتأتي من استيفاء اية اجور مهما كانت ضئيلة من الطلاب الفقراء ومحدودي الدخل وافتتحت المدرسة في تشرين الاول 1941 وسميت باسمه.
ثم بادر فرنك عيني الى شراء ارض مناسبة شيدت عليها المدرسة حالاً وتسلمتها الطائفة كاملة سنة 1949 وتحتوي على اثني عشر صفاً بالاضافة الى عدة غرف مؤثثة منها للمديرية واخرى للادارة وللسكرتيرة وغيرها للمحاسب وللمكتبة وللمطالعة وغرفتين لمختبرين اثنين وساحة للألعاب الرياضية كالتنس وكرة السلة وكرة القدم والكرة الطائرة وقاعة كبيرة للمحاضرات والمؤتمرات وقاعة غيرها خاصة بالمسرخ والسينما.
وأذت المدرسة تطبق مناهج الدراسة الثانوية حسب توجيهات الحكومة وكان مستوى الطلاب عالياً في الامتحانات العامة الحكومية واخذ أولياء الطلاب من يهود وغيرهم يتسابقون ويوسطون لتسجيل ابنائهم في المدرسة.
وازداد عدد الطلاب سنة بعد أخرى وأصبح عددهم 483 سنة 1949 بين طالب وطالبة بعد ان كان 186 سنة 1942.
وبعد الهجرة الجماعية سنة 1950-1951 جمعت مدرسة فرنك عيني جميع الطلاب الباقين من مختلف المدارس بعد اغلاقها واصبحت المدرسة الوحيدة لليهود لجميع درجات الدراسة ولمختلف الاعمار لكلا الجنسين.
لقد عاش اليهود مع اخوانهم المسلمين في العراق ما يربو على الالف سنة بكل أمان واطمئنان واقتبسوا الكثير من عاداتهم وتلكموا بلغتهم وكتب فلاسفتهم وشعراؤهم واداباؤهم باللغة العربي الفصيح ولم يستعملوا اللغة العبرية للتخاطب وانما لقراءة التوراة وللصلاة فقط.

عن كتاب (كل شيء هاديء في العيادة)