إطلالة على بيت جارتنا نازك الملائكة

إطلالة على بيت جارتنا نازك الملائكة

علاء الدين الأعرجي
في أيام صيف بغداد القائظ اعتاد أبي أن يقضي معظم وقته في الحديقة الواسعة الملحقة بالمنزل تحت عريشة العنب الوارفة. (نسميها قمرية، باللهجة العراقية الدارجة) وظلال النخيل الباسقة المكللة بعثوق) التمر الذهبية والفضية. يزوره غالبا أصدقاؤه المقربون من أمثال المؤرخ العراقي عبدالرازق الحسني صاحب سلسلة كتب (تاريخ الوزارات العراقية) و(تاريخ العراق الحديث) وغيرها،

والأستاذ/ الدكتور عبدالحميد الراضي، صاحب المسرحية الشعرية (ثورة العرب الكبري) و(ثورة العراق الكبري).

والدي، الذي كان لا يكاد يقرأ إلا في المجلدات الضخمة مثل تفسير ابن أبي الحديد أو تاريخ الطبري أو ديوان المتنبي، لاحظته ذات يوم يقرأ كتابا صغيرا كأنني أعرفه. فسألته عنه، قال إنه ديوان شعر حديث لجارتنا نازك الملائكة.

قلت فخورا:
اطلعت علي هذا الكتاب منذ أيام، فقد أهداني نسخة منه أخوها نزار.

قال معاتبا:
إذن أنت اطلعت عليه قبلي ولم تخبرني عنه.

قلت معتذرا ومفسرا:
أنت تعلم يا أبي أنني لست شغوفا بالشعر، ومن جهة أخري، أنت لا تقرأ الشعراء المحدثين، وهذه أول مرة أراك تقرأ لشاعر حديث، فما بالك بشاعرة؟

ولكن هذه الشابة الشاعرة تنبهت إلي ما لم يتنبه إليه أحد من قبل.
وفي هذه اللحظة رأيت عبدالحميد الراضي قادما من مدخل الحديقة البعيد نسبيا عن عريشة العنب التي كانت في الطرف الآخر من الحديقة بعد أن تجاوز ذلك الباب الأثري المتهالك الفضي الي الشارع العام مباشرة، وكان مفتوحا دائما تقريبا، يستقبل من يشاء بدون استئنان، لاسيما الأصدقاء المقربين. ولئن استقر بالزائر المقام علي كرسي مصنوع من جريد النخل، وضعت عليه وسادة رقيقة نسميها (مندر). وبعد تبادل التحيات، لمح عبدالحميد الكتاب فقال:
أراك تقرأ كتابا حديثا!!

يا أخي، يبدو أننا، أنت وأنا، متأخرون عن الاطلاع علي حركة الشعر المعاصر، فقد قرأ علاء هذا الكتاب الهام للشاعرة الشابة نازك الملائكة، قبلنا. وكنا بصدد الحديث عن الكتاب.
فلنستمع إذا إلي رأي علاء في هذه الشاعرة، التي سمعت عنها مؤخرا. قال الراضي.
أحرجني الطلب، ولكنني تمالكت نفسي وجمعت شجاعتي وشحذت فكري، للتخلص من هذا التحدي بلباقة علي الأقل، فأجبت بما معناه:

وكيف للتلميذ أن يتحدث عن قضايا الشعر في حضرة أساتذته، وقطبين من أقطابه؟!!
أبدي الراضي اعجابه بحسن التخلص، ولم يعلق والدي بشيء ربما لأنني عجزت عن الاجابة، ثم ساد الجلسة قدر من تجاذب أطراف الحديث، الذي تشعب وتناول عبقريات أسرة الملائكة، ابتداء من الشاعرية المتميزة لوالدة نازك، ثم طموحات والد نازك، الأستاذ صادق الملائكة، الذي كان بصدد كتابة مشروعه الخاص بموسوعة تحت عنوان (دائرة معارف الناس). وتحدثت أنا عن اهتمامات وطموحات الزميل نزار الذي كان يدرس لغات متعددة، والذي أتقن الانجليزية والفرنسية وهو يدرس اللاتينية، ثم عدنا الي نازك، فقال والدي:

في هذا الكتاب الذي أهداه الي والدها الأخ صادق الملائكة، لاحظت أن الشاعرة تحلل، في مقدمته المسهبة أن الشاعر العربي اليوم، كما كان في الماضي، يبذل جهده في تكملة البيت الشعري بكلمات قد تزيد غالبا عن مقتضيات المعني المراد، في الغالب، حفاظا علي الوزن وتكملة للشطرين، كما قد يتكلف وضع الكلمة الأخيرة لمراعاة القافية. والطريقة التي تقترحها نازك تجنب الشاعر هذا التكلف الذي قد يضر بالشعر العربي بوجه عام.

(وماهي الطريقة التي تقترحها؟) قال عبدالحميد، مستفسرا.
(أن يراعي الشاعر الجرس (بسكون الراء) الشعري، ملتزما بالوزن الخليلي، ولكن ليس من الضروري أن تكون الفعليات كاملة، ولا يلتزم لا بوحدة الشطر ولا استقلال البيت، فتأتي الأبيات أو بالأحري مقاطع الأبيات متكاملة متدفقة، بلا قطع معنوي في آخر كل بيت، بل في آخر المقطع.

والتفت الي صديقه عبدالحميد، قائلا:
اقرأ لنا، بإلقاء المتميز يا عزيزي سيد حميد، هذه القصيدة الجميلة وعنوانها (الكلمات)، التي خصني بها والدها.
لم يقرأ مباشرة، بل أخذ يتأمل الأبيات والكلمات باستغراق عميق. واحترمنا هذا الصمت، ولم يطل هذا السكوت، فقال الراضي معلقا:
(لسان الفتي نصف ونصف فؤاده)، وكنت أراجع فؤادي قبل أن ينطق فمي بهذه الكلمات الحلوة والعميقة، وأدعو الله أن يجعل عنقي كعنق البعير.
وطفق يتلو بإلقاء شعري ساحر: بنبرة رقيقة تناسب سياق موضوع القصيدة وجرسها الموسيقي المتميز.

فيم نخشي الكلمات
وهي أحيانا أكفٌ من ورودِ باردات العطر مرت عذبة فوق خدود
وهي أحيانا كؤوس من رحيق منعش
رشفتها ذات صيف، شفة في عطش
الي آخر القصيدة الجميلة والبليغة. قال الأستاذ الراضي معلقا: (حسن رقيق وفكر عميق، وأداء يدل عن شاعرية ملهمة صقلتها الحياة والدراسات. مع ذلك كنت أفضل أن تتحاشي استخدام لفظة (أحيانا)، في بداية القصيدة، فهي ثقيلة علي السمع في الشعر). فوافقه والدي وأضاف:
ألا تعتقد أنك استخدمت تقريبا نفس القواعد التي استخدمتها حين نظمت مسرحيتيك الشعريتين ثورة العراق الكبرى وثورة العرب الكبرى.
حقا، فلم ألتزم بوحدة البيت لأن طبيعة الحوار تقتضي تدفق الحديث وترابط المعني، بل حذفت أحيانا بعض التفعيلات لانتهاء الكلام، وأكملتها في البيت التالي. ولكن لم يخطر ببالي أن أطور هذا الأسلوب للتعبير الشعري عموما. ومع ذلك أري أن هذه الدعوة الجريئة التي تطلقها نازك الملائكة سوف تواجه معارضة شديدة وهجوما عنيفا من جانب بعض الشعراء التقليديين، ونحن منهم، ولكن قد لا نتفق معهم.
أري أن هذه الشاعرة ستفتح آفاقا جديدة في الشعر العربي وتحقق تحولات شعرية وأدبية غير مسبوقة.
***
كنا نعتبر بيت صادق الملائكة من بيوت الجيران لأنه لا يبعد عن بيتنا إلا دقائق قليلة. لذلك فإن (مغنية الحي لا تطرب). ومن جهة أخري، كنت في ذلك الوقت شابا ناشطا ومجاهدا مقتحما، في ميدان النضال السياسي والطلابي، من خلال تعاطفي مع التقدميين أو الشيوعيين (علما بأنني لم أنظم اليهم يوما)، الذين كانوا من أكثر الفئات السياسية حماسة في مقارعة النظام العراقي الحاكم الخاضع للانجليز. فضلا عن أن اهتمامي بالشعر كان منصبا علي القصائد الوطنية التي كنت ألقيها في المناسبات الطلابية والوطنية. وكان والدي يشجعني ويعلمني منذ صغري طرق الإلقاء، فكنت ألقي قصائده الوطنية والقومية في المدارس والمساجد، بل من إذاعة بغداد في بعض المناسبات. لذلك فإن اهتمامي بالشعر الإنساني والعاطفي كان محدودا، لأنني أعتبره غير هادف في معالجة قضايانا الساخنة. بل ربما كنت أعتبره مثبطا أو محولا الهموم الواقعية والسياسية للجماهير العربية، إلي موضوعات مثالية هلامية، لا تخدم الواقع المعاش، ولكن عندما طالعت بعض قصائد نازك، واستمعت الي هذه القصيدة الرائعة، بإلقاء هذا الشاعر الجليل، فضلا عن شرح والدي لبعض من أفكار الشاعرة العبقرية، وهو الشاعر العمودي المحافظ، والذي لم أسمعه مرة يعجب بشاعر حديث من قبل، كل هذه العوامل أثارت اهتمامي، فحرصت علي مطالعة أعماله بعناية. لذلك ذهبت في اليوم التالي لشرائها من شارع المتنبي، شارع سوق الكتب والثقافة في بغداد، الذي فجرته أياد خبيثة مؤخرا. (انظر مقالة الكاتب حول هذا الحدث بعنوان (أمة (اقرأ) تقتل من يقرأ، ذكريات بغدادية عتيقة: بعد تفجير شارع المعرفة والثقافة)، المنشور في هذه الصحيفة، بتاريخ 19/4/.2007
***

أهمية الريادة التي حققتها الشاعرة نازك، حسب اعتقادي، لم تنبثق من كونها سبقت الآخرين في تاريخ نشر أول قصائدها الحرة فحسب. فهي تعترف أن بدر شاكر السياب نشر أول انتاجه في الشعر الحر في وقت يتأخر أسابيع فقط عن نشرها قصيدة (الكوليرا). كما تعترف بأن هناك عددا من الشعراء الذين سبقوها في نشر قصائد ومقطوعات تعتبر من فصيلة الشعر الحر، مع أنها لم تكن مطلعة عليها إلا بعد نشر كتابها (شظايا ورماد)، الذي يتضمن عددا من القصائد الحرة. فضلا عن أنها لاحظت أن أسلوب البندي البغدادي الذي كان معروفا في العراق قبل ذلك التاريخ بفترة طويلة، يتسم بما يمكن اعتباره من قبيل الشعر الحر. والخلاصة فإن الجدل القائم منذ أكثر من نصف قرن حول أحقية نازك الملائكة في الحصول علي شرف الريادة للشعر الحر، ليس له معني، إذا قام علي مجرد تاريخ نشرها أول القصائد الحرة، والتساؤل عمن سبقها في هذا الشأن، ذلك لأننا نعتقد أن هذا المعيار بمفرده لا يؤدي معني الريادة إلا إذا اقترن بمعايير أخري أهم وأجدي منها الوعي بالمبادرة الإبداعية بالإعلان رسميا عن عصر افتتاح الشعر الحر، ووضع نظرية جديدة متكاملة في الشعر العربي الحر.
ومن جهة أخري، فإن كون نازك الملائكة (امرأة) يثير إشكاليات، كما أرى، على صعيد (العقل المجتمعي) العربي والاسلامي الذكوري، المتعصب للمحافظة على مركز الرجل المتفوق على المرأة في جميع الميادين، ولاسيما ميدان الابداع الأدبي والشعري. لذلك قوبلت دعوة نازك الملائكة الابداعية بالرفض والنقد والهجوم من جانب الكثير من الأدباء والشعراء والنقاد من الرجال. إن هذه النقطة جديرة بمزيد من التحليل والتعميق، في مناسبة أخرى.

عن صحيفة اخبار الأدب