طرائف وحقائق من سيرة مزاحم الباجه جي.. لماذا وجهت رئاسة الوزراء اليه سنة 1948؟

طرائف وحقائق من سيرة مزاحم الباجه جي.. لماذا وجهت رئاسة الوزراء اليه سنة 1948؟

د. فهد مسلم زغير
تعددت آراء المؤرخين حول تشكيل مزاحم الباجه جي لوزارته والأسباب التي جعلت الوصي عبدالاله يكلفه بهذه المهمة في مدة عصيبة كان يمر بها العراق اثر رفض الجماهير الشعبية لمعاهدة (بورتسموث) التي وقعتها حكومة صالح جبر مع بريطانيا في الخامس عشر من كانون الثاني 1948 وتكليف السيد محمد الصدر بتشكيل الوزارة عقب سقوط الوزارة التي ارتبط اسمها بالمعاهدة لتهدئة الأوضاع

وإعادتها إلى حالتها الطبيعية والسيطرة على الجماهير ومنعها من إسقاط النظام الملكي برمته، فعرض على نصرت الفارسي تأليف الوزارة المرتقبة، فلم يوفق في تشكيلها، فرأى الوصي انه ليس من الضرورة إعادة الوجوه القديمة التي ألفت وزارات سابقة مثل توفيق السويدي أو جميل المدفعي أو نوري السعيد، لذلك حاول البحث عن شخصية لم يرتبط اسمها بمعاهدة (بورتسموث)، ولم تكن داخل العراق، فوجد في مزاحم الباجه جي ضالته المنشودة، لاسيما انه كان ملماً بالسياسة العالمية الماماً لا بأس به، وتشرب بالمبادئ الديمقراطية”تشرباً كافياً وعاد الى بلاده وهو على جانب من سعة الاطلاع، ومعرفة ما تحتاج بلاده إليه من ضروب الإصلاح".
وبحسب رأي المخالفين لمزاحم الباجه جي والذين يكرهونه فان اختياره لرئاسة الوزراء جاء لانه”سياسي طيع قادر على تنفيذ السياسة المرسومة بما لديه من مؤهلات، وعن طريقه يمكن إرجاع الساسة القدماء إلى الحكم"، ويعلق سياسي آخر أمضى نصف قرن في “تاريخ العراق والقضية العربية”على كيفية تشكيل هذه الوزارة قائلاً : “تألفت وزارة مزاحم الباجه جي بشكل غريب وبطريقة دراماتيكية، فمزاحم كان قد ترك البلاد وعاش في الخارج مدة اثنتي عشرة سنة كوزير مفوض للعراق في روما وباريس ولم تكن له صلة بحياة بغداد السياسية والنيابية... فصار من المغمورين من رجال السياسة وغير المهمين في الحياة السياسية...".
ويسلط لنا أقرب من كان يعمل مع الوصي عبدالاله وكان شاهد عيان على كيفية تكليف مزاحم الباجه جي رئيساً للوزراء وهو أحمد مختار بابان رئيس الديوان الملكي الضوء على ذلك قائلاً :”لما عاد مزاحم الباجه جي الى العراق (على عهد وزارة حمدي الباجه جي) جاءني الى البلاط الملكي، وسلمني رسالة مفتوحة مؤكداً علي ضرورة الاطلاع عليها، ومن ثم تقديمها الى الأمير عبدالاله، فطلبت اليه الدخول على الأمير فوراً، فقال انه يكتفي برفع هذه الرسالة، فلما قرأتها، وجدت ان الرجل يطلب رفع الحيف الذي الحقه به السيد رشيد عالي بفصله من الخدمة في السلك الخارجي، ويرجو إعادته وزيراً مفوضاً في إحدى العواصم الأوربية (لم تأت عملية انهاء خدمات مزاحم الباجه جي من السلك الخارجي في عهد رشيد عالي الكيلاني، وانما انهت خدماته وزارة نوري السعيد السادسة، لذلك فان ما ذكره مزاحم الباجه جي كان يستهدف كسب عطف الوصي عبدالاله الذي كان يكره رشيد عالي الكيلاني بسبب احداث مايس 1941). ثم صار الرجل يتردد على البلاط بمناسبة وبدون مناسبة، حتى إذا استقال محمد الصدر من رئاسة الوزراء كلفه الأمير بتأليف الوزارة الجديدة، فاجاب انه يقبل التكليف بسرور وابتهاج....
وعلى ما يبدو فان مزاحم الباجه جي قبل بهذا التكليف لأنه كان يريد إعادة اعتباره الذي فقده بسبب إنهاء خدماته من السلك الخارجي، فضلاً عن ذلك فان هذا المنصب كان مغرياً له ولغيره لأنه أول تكليف له برئاسة وزارة يستطيع من خلالها مزاحم الباجه جي أن يثبت قدراته وإمكاناته ويحقق طموحاته التي لم تكن تقف عند حد معين، لاسيما انه لم يتردد سابقاً عن قبول منصب وزارة الاقتصاد والمواصلات في الخامس من كانون الثاني 1931 التي شكلها نوري السعيد ومفضلاً التعاون مع السلطة الحاكمة، على الإغراق في المعارضة، في حين يذكر اقرب الناس اليه أن الوصي اختاره لهذه المهمة لأنه”كان يسعى وراء شخص قوي يستخدمه أو يستعين به لإضعاف نوري السعيد الذي أصبح يقاسمه النفوذ والحكم في البلد”ولعله توسم في شخص مزاحم الباجه جي ذلك الأمر.
حدد ابنه عدنان ثلاثة كانوا يكرهون والده مزاحم الباجه جي وهم توفيق السويدي وخليل كنه وعبدالرزاق الحسني ويناصبونه العداء، ولم يتورعوا عن الافتراء عليه، ونعته بابشع النعوت، ولكل منهم اسبابه الخاصة، فالاول كان يكره والده بدافع الحسد والغيره، ولم يرق له ان يسطع نجم مزاحم الباجه جي في الحكم والمعارضة، أما الثاني فان عداءه لمزاحم الباجه جي يعود بسبب خلاف الاخير مع نوري السعيد الذي كان كنه اداة طيعة بيده ومخلصاً له ومنفذاً لرغباته، في حين كان عبدالرزاق الحسني أحد الشهود الذين شهدوا ضد مزاحم الباجه جي في قضية الرسائل السرية ضد الملك فيصل الأول، كما ان مزاحم الباجه جي اعتقله واودعه السجن في سنة 1931 لتحريضه على الاضراب.

لم تكن المهمة التي تكلف بها مزاحم الباجه جي سهلة لان ظروف تسنمه منصبه كانت محاطة بتحديات كبيرة وكثيرة في المجالين الداخلي والخارجي، فعلى الصعيد الداخلي كان الوضع العام صعباً، لاسيما ما شهده الشارع العراقي من تطورات نجمت عن إسقاط معاهدة”بورتسموث”وما ترتب عليها من دماء زكية سالت بسببها، لذلك علق عليها المواطنون آمالا كبيرة، وانتظروا ان تتقدم بمنهج صريح توضح فيه السياسة التي ستسير عليها،رغم ان بعض السياسيين توقعوا انه لا يستطيع البقاء في الحكم”سوى ايام معدودة". أما على الصعيد الخارجي فقد تزامن تشكيل مزاحم الباجه جي لوزارته مع قطع القضية الفلسطينية شوطاً من الصراع مع الصهاينة، وإصدار مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة قراره بقبول الهدنة الأولى بين الطرفين المتحاربين ابتداءً من الحادي عشر من حزيران 1948، الأمر الذي جعل حكومة مزاحم الباجه جي تضع هذه القضية في أولويات مهامها وكانت”عازمة على المضي في كفاحها من أجل فلسطين ووضع الأسس لذلك بالتعاون مع سائر الدول العربية، على حد ما جاء في خطاب العرش".
حرص مزاحم الباجه جي في تشكيل وزارته على ان تضم ممثلي الأحزاب ورجال السياسة الكبار بشكل يجعلها وزارة ائتلافية، فبعد ان وجه إليه الوصي عبدالاله كتاباً في السادس والعشرين من حزيران 1948 عاهداً اليه تأليف الوزارة الجديدة بما عرفه عنه من”دراية وإخلاص". أجرى مزاحم الباجه جي مشاوراته مع عدد من زعماء الاحزاب السياسية أمثال محمد مهدي كبه رئيس حزب الاستقلال ومحمد حديد من (الوطني الديمقراطي) اللذين رفضا الاشتراك فيها، وعدد من الوزراء السابقين أمثال علي جودت وتوفيق السويدي اللذين رفضا ايضاً الاشتراك فيها، اذ اعتذر الأول لأسباب صحية، في حين اعتذر الثاني فطلب منه مزاحم الباجه جي إقناع علي ممتاز الدفتري بأن يشترك فيها بدلاً منه، فوافق الدفتري على ذلك بعد ممانعة أولية.

استطاع مزاحم الباجه جي بعد رفض زعماء الأحزاب وعدد من السياسيين القدماء ورؤساء الوزراء السابقين من ان يشكل وزارته في السادس والعشرين من حزيران 1948 من:
1. مزاحم أمين الباجه جي : رئيساً لمجلس الوزراء، ووزيراً للخارجية بالوكالة.
2. مصطفى العمري : وزيراً للداخلية.
3. علي ممتاز : وزيراً للمالية، ووكيلاً لوزارة التموين.
4. محمد حسن كبه : وزيراً للدولة.
5. جلال بابان : وزيراً للمواصلات ووكيلاً لوزارة الشؤون الاجتماعية.
6. صادق البصام : وزيراً للدفاع ثم شاكر الوادي.
7. عبدالوهاب مرجان : وزيراً للأقتصاد.
8. نجيب الراوي : وزيراً للمعارف.
اعتذر زعماء حزبي الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال عن المشاركة في حكومة مزاحم الباجه جي لان رئيس حزب الاستقلال مثلاً أشار على مزاحم الباجه جي بضرورة إسهام بقية الأحزاب الأخرى لتكون وزارة قوية، ووافق مزاحم الباجه جي على ذلك بمنح هؤلاء منصب وزير بلا وزارة، إلا أن كبه رفض ذلك، فضلاً عن ذلك فان زعماء الأحزاب فضلوا مراقبة الوضع القائم وعدم التورط في الاشتراك في المسؤولية الوزارية.

حدد مزاحم الباجه جي في أول كلمة له في اليوم التالي لتسنمه منصبه الجديد سياسة حكومته أمام جمع من الصحفيين، مركزاً على انه لا يستهدف”إلا الخدمة”، واستطرد قائلاً”ان فلسطين هي شغلنا الشاغل، واني مضطر لان أترككم الآن لاني على موعد بشأن فلسطين".
واجهت وزارة مزاحم الباجه جي مشاكل داخلية أخرى تمثلت بمضاعفة الحزب الشيوعي العراقي لنشاطه بشكل ملحوظ في عهد هذه الوزارة، فعثرت الشرطة ليلة الحادي عشر / الثاني عشر من تشرين الثاني 1948 على مطبعة الحزب، وضبطت كميات كبيرة من الوثائق والنشرات السرية في الدار الواقعة في محلة فضوة عرب والمرقمة 11/1/224 بعد ان اعترف مالك سيف أحد أعضاء الحزب الشيوعي للشرطة بكل إسرار الحزب وكوادره واماكن مناشيره وما إلى ذلك من سجلات ومنشورات ومسودات من جريدتي القاعدة، و(آزادي) الجديدة والقديمة.
ضعفت وزارة مزاحم الباجه جي كثيراً بسبب الاستقالات التي قدمها عدد من وزرائها والانتقادات التي وجهت لرئيسها لقبوله أسماء وزراء أيدوا معاهدة بورتسموث، فقد استقال منها صادق البصام وزير الدفاع في السابع والعشرين من ايلول 1948، ولم يكن هناك وزير خارجية لان مزاحم الباجه جي تولاها بالوكالة، وأدخل عمر نظمي وزيراً للداخلية بأمر من الوصي عبدالاله، وأصبح محمد الحبيب الأمير وزيراً بلا وزارة، وتم تعيين شاكر الوادي وزيراً للدفاع بدلا من صادق البصام، وصدرت ارادة ملكية بهذه التعديلات الوزارية.
وبسبب هذا التعديل الوزاري الذي جرى في العشرين من تشرين الاول 1948 تحقيقاً للمساعي التي بذلتها السفارة البريطانية في بغداد والوصي عبدالاله لإعادة الاعتبار إلى الضالعين في سياسة التساهل مع بريطانيا، والموقعين على معاهدة بورتسموث، تعرض مزاحم الباجه جي الى انتقادات حادة من قبل نواب المعارضة في البرلمان ضد هذا التوجه الذي اقدمت عليه وزارته.حدثت مشادات كلامية بين المؤيدين لوزارة مزاحم الباجه جي حول التعديل الوزاري الذي قامت به وبين المعارضين لذلك وصلت الى حد استخدام الكلمات النابية
لم يقتصر الأمر على انتقاد وزارة مزاحم الباجه جي ورئيسها لهذا التعديل الوزاري، وانما شنت الصحافة حملة ضده، فعلى سبيل المثال لا الحصر كتبت إحدى الصحف العراقية مقالاً مطولاًَ هاجمت فيه الوزارة المعدلة وعلى شاكر الوادي بالذات، وحملت رئيس الوزراء مسؤولية فتح الباب على مصراعيه أمام العناصر القديمة للعودة الى دست الحكم.
وعندما دافع مزاحم الباجه جي عن شاكر الوادي في مجلس النواب بتاريخ الثالث والعشرين من تشرين الاول 1948 قائلاً عنه بانه لم يكن له دور فعال في التوقيع على معاهدة”بورتسموت”وهو رجل درس في بريطانيا وفي الاستانة وتخرج من كلية اركان الحرب، لذلك، حسب رأي مزاحم الباجه جي، فهو”من المع ضباط العراق"،تعرض لانتقادات حادة من نواب المعارضة، إذ طالب نائب الموصل محمد حديد بان تأتي الحكومات على أساس منهجها لا على أساس علاقات وتعهدات شخصية،
بالمقابل شهدت وزارة مزاحم الباجه جي مظاهرات صاخبة ضدها خرجت في مدينة الكاظمية يوم السابع عشر من أيلول 1948، وكان المتظاهرون يطالبون بالغذاء والكساء، فاصطدمت الشرطة بهم، وأدى ذلك الى وقوع عدد من الإصابات بينهم، كما تم توقيف اكثر من (250) من المتظاهرين، حوكموا عن جريمة قيامهم بمظاهرة غير مرخص بها من قبل السلطات العسكرية، فافرج عن ثلثي الموقوفين، وقضى المجلس العرفي بحبس الثلث الآخر مدداً مختلفة.
أدت المظاهرات التي خرجت ضد وزارة مزاحم الباجه جي في أيلول وكانون الأول 1948 الى إضعاف الوزارة وتهيئتها للاستقالة، وعزا مزاحم الباجه جي هذا الأمر الى قيام حزب الاستقلال بتحريض طلاب المدارس وبعض الطبقات الشعبية وطلاب المعاهد العالية ضد وزارته، التي ضعفت بالأساس من جراء التعديل الوزاري الذي جرى فيها ودفاعه عن بعض الوزراء الجدد، فارتكب بذلك خطأً فادحاً أفقده الكثير من رصيده التاريخي، فقد كان عليه ان لا يوافق على استيزار شاكر الوادي، والتلويح بالاستقالة، لكنه لم يفعل ذلك لانه”كان يعتقد ان عليه واجباً وطنياً لمعالجة قضية فلسطين

وعلى الرغم من الجهود التي بذلها مزاحم الباجه جي تجاه القضية الفلسطينية، الا انها كانت واحدة من اسباب سقوط وزارته، فقد انعكست تطوراتها على الوضع الداخلي في العراق. اذ خرجت تظاهرات واسعة طالبت فيها الجماهير بنجدة الجيش المصري في منطقة الفالوجة يوم الحادي والثلاثين من كانون الأول 1948 وتسببت بوقوع صدامات بين المتظاهرين والشرطة،جرح فيها اكثر من مائتي متظاهر، واعتقل نحو عشرين شخصاً فلم ير مزاحم الباجه جي مجالاً لانقاذ سمعة وزارته، والتخلص من الانتقادات المتعددة التي كانت توجه له في مجلس الأمة وفي الصحف العراقية، الا ان يقدم الى الوصي كتاب استقالة وزارته في السادس من كانون الثاني 1949.

عن رسالة (مزاحم الباجه جي ودوره السياسي...)