الجواهري في كتاتيب النجف ...

الجواهري في كتاتيب النجف ...

جواد الرميثي
أرسل الشيخ عبد الحسين ابن صاحب الجواهر المشهور بالجواهري ابنه، ابن السادسة او السابعة من عمره (مهدي) وهو الاسم الأصلي للجواهري قبل أن تضاف أليه كلمة (محمد) حيث جرت العادة عند بعض العوائل العراقية المسلمة ان تسبق الاسم بكلمة (محمد) أو (عبد) على قاعدة (خـــير الأسماء ما عبد وحمد)، إلى الملا (جناب عالي) ليتعلم القراءة وكتابة النسخ وحفظ القران

وكان هذا (الملا) شيخا ً مهيباً يجمع بين البهاء والجمال والقسوة التي ما بعدها قسوة وقد ذاع صيته بين أبناء مدينة النجف الاشرف في التعلم بداية القرن العشرين المنصرم، الذي لا يكاد يخرج عن دائرة تعليمه أي من أبناء الأسر المعروفة في تلك المدينة وكان مكانه في الركن الثالث من الدور الأول للصحن الحيدري الشريف.

لقد عاش الجواهري مرعوباً من قساوة شيخه هذا فإذا صفا الجو عكره فهو يرسل على الولد منهم ويرعبه، بسبب أو من دونه وذلك بفتح صندوق رهيب كان يملكه يحتوي على أنواع من العقارب والأفاعي وبعدها يطرده بعيدا عنه وكان الشيخ يبتغي بذلك هيبة لنفسه فيهم وبالمقابل فأن تلك الصورة المخيفة (للعقارب والأفاعي) تبقى تقض مضاجع الأولاد..!
كان الشيخ يغلق باب الغرفة وينهال على الطلاب ضربا ويعد كل ذلك وسيلة ناجحة في التربية والتعليم!! حيث أن الرجل عندما يذهب بابنه إليه يقول له (الك اللحم والي الجلد والعظم!) وعندما يتأخر (مهدي) قليلا عن حضوره الدرس، لأي سبب كان، فأن جناب عالي تثور ثائرته ويظهر جبروته على هذا الطفل ويأخذ بملاحقته وهو يحمل حزمة من العصي، والطفل يركض خائفاَ مذعوراَ من هذا الأسد الجبار، وأضخم شخصية مرعبة في حياته: فأين يذهب؟..وجاءت الفكرة!!..
فلشيخ جناب عالي يمتلك حب ماء (بكسر الحاء) عزيز جداَ عليه، وكان فارغاَ كون الفصل شتاءَ، وبغريزة الدفاع عن النفس... قفز مهدي ورمى بنفسه وسط هذا الحب، وشعر بالامان، لانه من المستحيل ان يضحي الشيخ بحبه العزيز او ان يصبر اذ مسه احد بسوء..
واخذ الشيخ يتوعد مهدي ويلوح له بالعصي ويذكره بصندوق العقارب والافاعي ولكن الطفل ظل مقيماً في الحب، لأنه يعلم جيداً أن جناب عالي لن يضحي بالحب مهما كان الأمر، وبعد أن يئس الشيخ من ان يخرج الطفل، اعطاه الامان بان لا يمسه بسوء ان خرج، وانه (جناب عالي) إذا اعطى كلمة فأنه لن يتراجع عنها، وهنا طابت نفس مهدي الفزعة وخرج بهدوء من حب الشيخ كبطل منتصر.
وعادت المياه إلى مجاريها بين الاثنين، ولكن كان يعكر صفوها بين الحين والآخر تصرفات هذا الشيخ الجبار، واستمر مهدي يقرأ ويكتب النسخ على (التنكة).
كان من عادة الأطفال الدارسين عند الشيخ إذا حان وقت الغداء فأنهم يخرجون ما أعدته لهم امهاتهم من اكل (وهذا يختلف باختلاف المستوى الاقتصادي لتلك العوائل) وجناب عالي له ان يختار الطعام الافضل والافخر، يجمعه ويرسله الى بيته مع عدد من الاولاد يختارهم من الذين يتمتعون بالادب العالي وقبلها يجتمع اليهم ليحدثهم عن بيته (المسكون) بالجن والعفاريت ويعلمهم نشيداً خاصاً يبدأون به عند فتح الباب لهم من دون أن يرفعوا أنظارهم الى من يأخذ الطعام منهم، وكان الاولاد يطيعون كلامه ويطبقونه، خوفاً منه اولا ولسذاجتهم وتصديق كلامه ثانيا.
وفي احد الأيام وقع الاختيار على مهدي ليكون عضواً في مهمة إيصال الطعام الى بيت الشيخ وكالعادة انشد الجميع نشيدهم الخاص الذي علمهم اياه شيخهم وبعد فتح الباب لم يستطع مهدي الا ان ينظر الى من فتح الباب لهم ولم يكن بذلك يقصد شيئاً أو عاصياً للأوامر لكن حب الاستطلاع والميل الى خرق القاعدة دفعاه لذلك، فأذا به يرى فتاة غاية في الجمال، كفلقة القمر، وهنا فهم مهدي السر..! وظل يختلس النظر كلما جاء لإيصال الطعام لبيت شيخه جناب عالي، وربما كانت الفتاة الحبيسة نفسها تحب أن تتلاقى نظراتهم!.. ومن يدري؟!