حبزبوز...!

حبزبوز...!

د. كامل خورشيد
كان المرحوم (الحاج نوري ثابت) من رواد الصحافة العراقية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، كتب في مطلع شبابه في صحف العراق آنذاك، وكان مولعا بالأسماء المستعارة، فكتب مدة من الزمن بتوقيع (خجة خان) في جريدة (الكرخ) لصاحبها الملا عبود الكرخي، ثم أستخدم أسم (حبزبز)، قبل أن يحوره إلى (حبزبوز) ويسمي جريدته الهزلية، اللاذعة، الساخرة، بهذا الاسم الغريب!

و قيل أن أحد (شقاوات) بغداد كان اسمه (أحمد حبزبز ابن ملا عليوي) كان فكهاً، ظريفا، سريع البديهة، حاضر النكتة، فاستعار نوري ثابت هذا الاسم الذي أشتهر وعرف به، وكاد الناس ينسون أسمه الحقيقي!!
ولد المرحوم نوري ثابت (حبزبوز) في مدينة السليمانية شمالي العراق عام 1897م، ودرس في بغداد قبل أن يذهب إلى الأستانة في تركيا، أيام كان العراق تابعا للدولة العثمانية، ودخل الكلية العسكرية وتخرج فيها ضابطا برتبة ملازم، وقد أصيب أثناء الحرب الأولى في معركة جنة قلعة الشهيرة فعاد إلى العراق وعمل معلما في المدرسة الجعفرية، وهذه المدرسة كانت شيعية كما هو معروف، ولكن لم يمنع الوضع الاجتماعي في العراق آنذاك من أن يشتغل فيها معلما سنيا مثل نوري ثابت، أو يدرس فيها طلبة من أبناء السنة، بل والغريب، ولم يكن غريبا آنذاك، أن يعمل بالمدرسة نفسها مدرسون نصارى يعلمون أبناء المسلمين دينهم وعلومهم!! وهذه الواقعة لم تكن ملفتة للنظر أيام ذاك ولكنها، للأسف، تصبح ملفتة للنظر أيامنا هذه!!
وعندما تأسست المملكة العراقية في العشرينيات من القرن العشرين، لم تكن هناك صحافة ساخرة بالمفهوم السياسي، فانبرى اثنان من أعلام العراق لإصدار صحف سياسية ساخرة، هما الملا عبود الكرخي، الذي اصدر صحيفة (الكرخ) في العشرينيات، التي تميزت بالشعر الشعبي الهجائي الذي كان الكرخي بارعا به أيما براعة، ونوري ثابت الذي اصدر جريدة (حبزبوز) التي صدرت بتاريخ 29/9/1931، وتميزت بظهور فن الكاريكاتير الصحفي لأول مرة في تاريخ الصحافة العراقية، وبالمقالات الساخرة التي كان يكتبها نوري ثابت نفسه بتوقيع حبزبوز ويغمز فيها من قناة الحكومة والسلطة!!
وحبزبوز الجريدة مازال صداها يتردد في سفر الصحافة العراقية، إذ ما برحت الذاكرة الوطنية تحتفظ لصاحب هذه الجريدة، الحاج نوري ثابت، بسجل وطني شريف في مساندة الفقراء والمسحوقين، ومقارعة بقايا النفوذ الأستعماري البريطاني، ومعارضة الحكومات المتعاقبة أيام العهد الملكي معارضة وطنية هدفها الإصلاح والتغيير نحو الأفضل من خلال الوقوف الى جانب الشعب مهما كلف الأمر، والأمر كلف المرحوم نوري ثابت الفصل من وظيفته الرفيعة في وزارة المعارف، وتفرغه للجريدة التي كانت تنطق بلسان الشعب حتى الرمق الأخير، فقد كان حبزبوز ضمير الشعب، ومرآة الرأي العام الشعبي والمثقف، المعبر عن آمال وتطلعات المجتمع تعبيرا صادقا، وحقيقيا، ومباشرا، بأسلوب هزلي وساخر وطريف بالوقت نفسه!!
عاش ومات حبزبوز، يرحمه الله، في فقر و عوز شديدين، ولكنه ظل غني النفس، عفيف اليد، نظيف الفكر، دون أن يطأطئ رأسه للسلطة الحاكمة، تعففا واحتراما لنفسه، ولعل مقالاته النقدية وأسلوبه الفريد يكشف جانبا من شخصيته العصامية وقدرته العجيبة على تطويع الفكاهة والهزل إلى جد وعمل، ففي رده على سؤال لأحد القراء عما يتمنى أن يكون، أجاب نوري ثابت على لسان حبزبوز بأنه يتمنى أن يصبح”حمارا حرا طليقا غير مقيد برشمة ولا بلجام، والأهم من ذلك أن يكون غير مقيد بقيود العقل و التفكير.”وأضاف متهكما :”فإذا ما قررت الحكومة عقد معاهدة جائرة أو شكلت مجلسا زائفا يغط نوابه بالنوم و يتثاءبون عند سماع خطبها في المجلس، فأنه سيستطيع بملء حريته كحمار أن يرفع ذيله ويشمخ برأسه ويكشر عن أنيابه ناهقا و يركض معنفصا... ضاحكا من حقوق المهضوم و المظلوم”!!
وجريدة (حبزبوز)، وإن كانت واحدة من صحف كثيرة متنوعة شهدها العهد الملكي الذي حكم العراق من بداية العشرينيات من القرن الماضي وحتى عام 1958، فإنها تؤرخ أيضا لتاريخ تلك الحقبة الغنية من تاريخ العراق في العهد الملكي، الذي كفل حرية التعبير وسمح للصحفيين إصدار الصحف على اختلاف مشاربها، حتى أن بغداد التي لم يكن تعداد نفوسها يتجاوز المليوني نسمة كان فيها المئات من الصحف اليومية والأسبوعية والحزبية والأدبية، ولكن هذه الحالة من حرية الصحافة قيدت عام 1956 قبل سنتين من إقصاء النظام الملكي وتأسيس العهد الجمهوري، حيث تغيرت الأحوال إلى الحد الذي صار فيه العهد الملكي، حلما يراود الأجيال اللاحقة، فقد كان صرحا من واقع نادر..... فهوى!!