أناييس نن تحويل الرغبات الى مادة سردية

أناييس نن تحويل الرغبات الى مادة سردية

إبراهيم حاج عبدي
تقول أناييس نِن"إنْ لم تتنفس عبر الكتابة، إنْ لم تصرخ في الكتابة، أو تغني في الكتابة، إذاً لا تكتب"لأن ثقافتنا ليست بحاجة إلى كتابة كهذه". بهذا الفهم لماهية الكتابة أنجزت نِن كتباً لا تزال تترجم وتنشر وتعثر على القارئ أينما كان. ولئن اشتهرت نِن بكتابة اليوميات، إذ سطرت عشرة مجلدات في هذا الإطار، توثق لنحو أربعة عقود من حياتها،

وتنطوي على رؤية بانورامية للقرن العشرين، ولحيوات مبدعيه... إلا أنها برعت، كذلك، في كتابة المقالة الصحافية والقصة القصيرة والرواية والنقد الأدبي.
من أهم كتبها:"شتاء الخديعة"،"جاسوس في بيت الحب"،"غرف القلب الأربع"،"أطفال القطرس"،"تحت الناقوس الزجاجي"،"بيت السفاح"... وغيرها، فضلاً عن رواية"دلتا فينوس"التي صدرت ترجمتها العربية، أخيراً عن دار المدى بترجمة الكاتب العراقي علي عبد الأمير. في قراءة السيرة الذاتية لهذه الكاتبة نجد أن ثقافات كثيرة أسهمت في صوغ هوياتها المتعددة، فقد ولدت أناييس نن في إحدى ضواحي باريس سنة 1903 لأب إسباني كان مؤلفاً موسيقياً، ولأم ألمانية الجذور. أمضت حياتها بين باريس والولايات المتحدة، كما قضت شطراً من حياتها في العاصمة الكوبية هافانا، وتوفيت سنة 1977 في مدينة لوس أنجليس.
عملت نِن، في مطلع شبابها، عارضة للأزياء وپ"موديلاً"للرسامين والنحاتين وراقصة تؤدي الرقصات الاسبانية ومساعدة للمحلل النفسي الشهير اوتو رانك. وكانت لا تزال كاتبة مبتدئة ومغمورة حين اقتحمت حياة باريس الثقافية والاجتماعية في عقد الثلاثينات من القرن الماضي وتعرفت إلى كتاب وفنانين مشهورين مثل: هنري ميللر، وأنطونين آرتو، ولورانس داريل... أسست دار نشر صغيرة، وكانت تنفق كل ما تحصل عليه من أموال لمساعدة أصدقائها المبدعين كهنري ميللر وآخرين ممن كانوا يعيشون في عوز دائم. وفي الولايات المتحدة حيث أمضت العقود الثلاثة الأخيرة من حياتها، بعد انفصال والديها، راحت تقتحم، بالحماسة ذاتها، الحياة الفنية والثقافية، وعقدت صداقات مع رموز الفن والأدب هناك من أمثال غور فيدال.
قدمت أناييس نِن عدداً هائلاً من المحاضرات في الجامعات والجمعيات الأدبية والفنية، فقد أهّلتها براعتها الفنية، وكتابتها المختلفة، لأن تتبوأ الموقع هذا من أجل تقديم خلاصة تجاربها للآخرين. ومنحتها جامعة فيلادلفيا درجة دكتوراه شرف تقديراً لإبداعها، علماً أن نِن لم تنل أي شهادة جامعية، فقد كان أداؤها المدرسي ضعيفاً، وكانت تؤثر أن تثقف نفسها عبر الكتب في المكتبات العامة، وحين انتقد أحد المعلمين أسلوب كتابتها، كونه طناناً ومتكلفاً، هجرت نِن، التي كان عمرها، آنذاك، 16 عاماً، المدرسة بصورة نهائية.
هذه الحياة الملونة والصاخبة منحتها تجربة واسعة وثرية، وكشفت لها الوجه الآخر للحياة بعيداً من أجواء أسرتها الأرستقراطية. وهي استطاعت أن توظف مغامرة الحياة هذه في كتاباتها التي لم تجلب لها الشهرة المأمولة إلا بعد رحيلها، إذ احتلت كتبها قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة وبريطانيا، ولا سيما بعد ظهور مجلدات يومياتها التي ترجمت إلى مختلف اللغات.
لعل أكثر ما يميز رواية”دلتا فينوس”هي أنها مكتوبة بقلم جريء. ولئن كان النقد الأدبي لا يعول كثيراً على"الجرأة”كقيمة أدبية أو كمعيار يصلح للفرز بين"غث"الكتابة وپ"سمينها"، غير أن هذه الصفة تشرع الأبواب واسعة أمام كاتبة تلج فضاءات وعوالم غير مكتشفة، فتقول كل ما هو مسكوت عنه، وتصرخ بأعلى صوت في"حقل كتابي"لطالما خشي الكتّاب الخوض فيه، وخصوصاً الكاتبات الأوروبيات في النصف الأول من القرن العشرين، اللواتي برعن في سرد الرومنطيقيات الحزينة الحالمة، والتعبير، بغنائية عذبة، عن دفق المشاعر، والعواطف المكبوتة من دون الاقتراب من خطيئة"الشهوة، واللذة، والجنس الصريح".
ففي مقابل هذه الكتابات النظيفة، الخالية من التهويمات الخيالية، والنزوات”المتدنية”بحسب التصنيف الذي كان شائعاً آنذاك، تأتي كتابة أناييس نِن لتقتحم هذا العالم المغلق. كتابة إيروتيكية تمزج بين العاطفة والجوع والأهواء والنزوات في محاولة لكسر"التابوات"وصولاً إلى نص صريح لا مجال فيه لأي مواربة أو التباس، بل إن الكاتبة التي تروي الكثير من الحالات والوقائع، تتورط أحياناً في رواية بعض الحالات"الشاذة"التي لم يسبق لأحد ربما أن وثقها في كتاب على هذا النحو من المباشرة والوضوح.
في مستهل الرواية نقرأ صفحات قليلة ليوميات الراوية، أو يوميات أناييس نن نفسها، تكشف فيها عن أن هنري ميللر كان يكتب قصصاً جنسية بناء على رغبة جامع كتب ويحصل في مقابل كل صفحة على دولار واحد، وعندما يحتاج ميللر إلى المزيد من الأموال لتغطية نفقات سفره، يقترح على صديقته الكاتبة نِن أن تكتب شيئاً مماثلاً، فتقول:"قررت أن أبدع مزيجاً من قصص سمعتها مع ابتكارات من جعبتي مدعية أنها كانت من يوميات امرأة". ولأن النزعة الأدبية قادتها إلى كتابة ذات لغة رفيعة تمزج بين الجنس والمشاعر في توليفة جديدة التبست على"جامع الكتب الجاهل"الذي كان يبدي ملاحظات تضمر مسعاه التجاري نحو الربح فحسب:"إنها كتابة رائعة. إنما اتركي الشعر ووصف الأشياء كلها إلا الجنس. ركزي على الجنس". في الواقع هي لم تبخل بهذا الطلب، لكن سرد الجنس في شكل ميكانيكي يفرغه من سحره وقوته، بل يغدو مصدر إزعاج للكاتبة التي تتحول، عندئذ، إلى مجرد ناقل حيادي لواقعة تفتقر إلى التشويق والإثارة. تقول الكاتبة مبدية وجهة نظرها في هذا السياق:"إن مصدر القوة الجنسية هو الفضول، الهيام. إنك تشاهد لهبها الصغير يخبو من جراء الخنق. الجنس لا ينمو في الرتابة. من دون إحساس، اختراعات، أمزجة، من دون مفاجآت...، الحب يجب أن يمتزج بالدموع، بالضحك، بالكلمات، بالوعود، بالانفجارات العاطفية، بالغيرة، بالحسد، بكل توابل الخوف، بالسفر عبر البلدان الأجنبية، بالوجوه الجديدة، بالروايات، بالقصص، بالأحلام، بالفانتازيات، بالموسيقى، بالرقص...".
وعلى رغم اعتراف نِن الصريح بان هذه الكتابة جاءت لكسب المال، وبناء على طلب جامع الكتب، لكنها لم تخضع لشروطه، ولا للموجة التي كانت سائدة، بل حاولت التعبير عن شخصيتها، وعن خصوصيتها في هذا الباب. كانت مخلصة لأسلوبها المتأثر بكتاب مثل د. هـ. لورانس ومارسيل بروست وفرجينيا وولف... فاستطاعت أن تبتعد من السوقية والابتذال، وتقدم نصاً يحمل خصوصية الأنثى التواقة إلى معرفة الحياة عبر الجسد، والقادرة على التعبير والبوح والمكاشفة دونما أية خشية من ردود الأفعال.
تقول، ماريا، بطلة رواية"إحدى عشرة دقيقة"للروائي البرازيلي باولو كويلو:"إن هؤلاء الذين لامسوا روحي لم ينجحوا في إيقاظ جسدي من كبوته، وأن هؤلاء الذين لامسوا سطح جسدي لم ينجحوا في بلوغ أعماق روحي". إذاً، تلك هي المعادلة الصعبة التي نجحت نِن في تحقيقها من خلال هذا الكتاب، إذ تضفي على الرغبات بعداً درامياً يجعل منها حدثاً روائياً يستحق التدوين.


سبق لهذا الموضوع ان نشر في
صحيفة المدى عام 2009