من (هكذا مرت الأيام)  موت حياة شرارة في ذكريات شقيقتها بلقيس

من (هكذا مرت الأيام) موت حياة شرارة في ذكريات شقيقتها بلقيس

و كأن القدر لم يكتفِ بفقدان الأعزاء من الأصدقاء، و إذا بصاعقة تهّز كياننا، إذ لم نكن ندري ما تضمره الأيام لنا من مفاجآت! ففي يوم الأحد 1 آب 1997، كان عندنا ضيوف للغداء، عندما رنّ التلفون في الصباح الباكر، واستغربت من ذلك لأنه لا يتصل بنا أحد قبل التاسعة صباحاً، و لم أعر أية أهمية لذلك التلفون، و عدت إلى النوم، ولكن لم تغمض عيني، قفزت من الفراش و اتجهت إلى المطبخ من غير أن أمر برفعة في المكتبة،

وبدأت بتهيئة المواد للشروع في الطبخ، لكن بعد ساعة جاء رفعة إلى المطبخ، و غسل القدور و الصحون المتراكمة، و استغربت من ذلك إذ ليس من عادته أن يقوم بذلك إلا عندما ننتهي من الغداء أحياناً، و لكنه يوم الأحد، و معي الفتاة التي تساعدني في مثل هذه المناسبات!

رنّ التلفون ثانية قفز رفعة نحو التلفون، و صعد إلى غرفته و لم يتكلم أمامي أو يذكر عما تكلم، و هذا سلوك طبيعي بالنسبة لرفعة، إذ اعتاد آلا يذكر أسماء الذين يتحدث معهم عادة إلا إذا سألته.
بدأ الضيوف يصلون، فانشغلت معهم، و لكن رنّ التلفون مرة أخرى، رفعت السماعة، و إذا بالتلفون من بغداد، الكلمات خافتة متلجلجة، صمت التلفون، ليدق بعد لحظات، صرختُ بأعلى صوتي آلو آلو، و إذا برفعة ينتزع السماعة من يدي، و يذهب لغرفته بعيداً عني، و لكن بالرغم من انتزاع التلفون من يدي، لم أشعر بشيء غير طبيعي حولي، فقد كنت مشغولة أنا و مساعدتي في وضع الطعام على المائدة.
انصرف الضيوف بعد الخامسة عصراً، صعدت إلى غرفتي متعبة، قدّم لي رفعة نصف حبة مهدئ، قلت لا احتاج إليها و لكني احتاج إلى الراحة قبل أن يأتي كل من جيم و مريم في الساعة السابعة مساءً، و استغربت عندما لاحظته شرب الماء مع حبة مهدئ!
وصلت شقيقتي مريم برفقة زوجها جيم شو، في الساعة السابعة مساءً، حيث كان رفعة قد اتصل بهما مسبقاً. بدأ رفعة بالحديث، قائلاً بصوت هادئ، متحلياً بضبط النفس، لقد أنهت”حياة”حياتها مع ابنتها مها، و لكن نجت زينب بأعجوبة. اكتشفتُ عندئذ لِمَ كان رفعة يأخذ التلفون و يتكلم في غرفة أخرى، بعيداً عني، فقد كبتَ ما كان يعرفه عن المأساة التي حلت بالعائلة طيلة اليوم.
* * *
كنت قلقة على حياة، قلقة من رسائلها المتباعدة المتسمة بطابع الكآبة، كانت تتكلم عن روتين الحياة اليومي، و عن مصاعبها في ظل طاغية سد جميع المنافذ المضيئة في حياة الناس، عن الوقت الذي يتسرب من بين أصابعها في الطابور الطويل المصطفة به، لكي تحصل على ما يعينها و ابنتيها من القوت اليومي.
كانت حياة تشعر من أنها مراقبة في الكلية و الدار، إنه شعور مخيف، أبعدته مرات عديدة عنها. و لكن عندما نظرت من النافذة إلى حديقة دارها، التقت عيناها بعيون اخترقت الجدار، تجمدت بمكانها. عرفت أنها مراقبة كما كان زوجها قبل أن يصاب بجلطة في الدماغ. شعرت حياة أنها محاصرة من جميع الجهات، فطلبت عندئذ إحالتها على التقاعد، رفض العميد طلبها، ثم قدمت طلباً للسفر مع ابنتيها خارج العراق، و رفض طلبها، لأنها تحتاج إلى محرم.
كانت ابنتها مها تحس بنفس إحساس والدتها، تحس بإحباط كامل. عادت من المقابلة التي اجريت لها عندما قدمت على وظيفة، رُفضت بسبب أسم والدتها، و ليس على الكفاءة. فقد أثبتت كفاءتها في امتحان المقابلة، و قبلت من قبل مدير الدائرة لكنها رفضت من قبل الوزير! و وجدت جميع الأبواب موصدة أمامها، فاستغلت غياب والدتها و شقيقتها زينب عن الدار لتنفذ خطتها، ذهبت إلى الحمام و أغلقت الباب عليها و فتحت قنينة الغاز، و انساب رحيق الحياة من بين أطراف بدنها.
عادت حياة مع ابنتها زينب إلى الدار، و أحست برائحة الغاز، و توقعت ما كانت تفكر به هي، فقد خطرت لها فكرة الانتحار و التخلص من أعباء الحياة من قبل، لكنها فوجئت عندما سبقتها ابنتها مها. كانت مها ملقاة على أرض الحمام.
نظرتْ حياة حولها، مها ممدة أمامها، رفعتْ رأسها و نظرات اليأس تهيمن على ملامح وجهها عندما التقت نظراتها بنظرات ابنتها زينب! و لكن عادت و نظرت نظرة ساهمة و كأنها في عالم آخر. ما الذي ستفعله الآن، مها انتحرت، مها جثة هامدة أمامها!
* * *
* * *
أبعدتْ حياة فكرة الانتحار التي كانت تراودها لمدة من الزمن، فكيف تنهي حياتها و هي التي أعطت الحياة لابنتيها؟ كيف تخنق تلك الحياة. و لكن فكرة الانتحار و التخلص من الحياة ظلت تراودها ليلاً، في الكوابيس التي كانت ترزح تحتها. شممتُ رائحة اليأس في رسائلها المتقطعة المتباعدة. و قلت لا بد أن تخرج من تلك الأزمة كالعنقاء من الرماد.
لكن أحست حياة بوحدة المكان، بالغربة التي تطوقها و تطوق أبنتيها، كيف لها التخلص من هذا الطوق الذي أخذ يضغط عليها كطوق موت بطيء؟ لم تعد ترى ما حولها، حددت رؤيتها بين جدران الدار، و فكرت بالتوقف عن الوجود. شعرت أنها تحتضن الموت و تعيشه! لكن تراجعت عن الفكرة ثانية.

حاولتْ مرات عديدة أن تتجنب السقوط في الهاوية بعد أن انقطع جسر الأمل و اغلقت جميع الأبواب أمامها. حاولت أن تمسك ببصيص من الأمل، و لكن ذابت الكلمات المعسولة الحلوة التي كانت تؤجج طموحها في الحياة، و انقلبت إلى أفكار صامتة في أعماقها.
أصبح الوعي بالوجود، ليلاً دامساً طويلاً بلا نهاية، و انتظرت الفجر ليغمر ضياءه ثانية و يجدد آمالها، و لكن الظلام غمر آخر ومضة من ومضات الضياء في داخل نفسها، عندما شاهدت مها ممدة في الحمام أمامها. خيم اليأس بفكيه و لا أمل من أن ينقذها من أظافره التي غرست بعمق تنهش أحشاءها. تدور في دوامة الإعصار الضاغط بفكيه، و أدركت أن كل شيء قد انتهى، و مها ما زالت ممدة أمامها.
دخلتْ الحمام و أوصدت بابه، و شعرت أنها تتجه نحو نهاية الهاوية، مرت لحظات من الرعب، ارتعشت أوصالها في الفراغ المظلم و مرت لحظة طويلة في ذلك السكون، حينما توقف قلبها عن النبض، و انتهت حياتها.

صدحت أغنية تفاؤل تحت ركام الحزن الذي خيم على الدار. فقد نجت ابنتها زينب من الموت!! لكن الطريق كان طويلا و شائكا بالنسبة لها، و هي الوحيدة في هذا العالم، عليها أن تجتث المأساة التي خلفت موت والدتها و شقيقتها من أعماقها. عليها أن تعيش بلا أوهام، و أن تنسج أحلاماً جديدة مليئة بالتفاؤل. قررت زينب آلا تخضع لنفس المصير الذي خضعت له والدتها. بالرغم من أنه لم يكن هنالك أحد ليأخذ بيدها و يقودها إلى شاطئ النجاة، بعيداً عن هوة الموت، إلى واحة التفاؤل و الحياة، حتى وصلت شقيقتي مريم بعد أيام قليلة من لندن.
* * *
وصلت شقيقتي مريم بغداد بعد أن دُفنت جثتي حياة و مها في المقبرة التي دفن بها أخي جهاد منذ خمس سنوات في بغداد. إذ أن موضوع الدفن كان مبحوث فيما بينهن، قبل الإقدام على الانتحار، و لم يكن الدفن في النجف موضوع بحث.
طلب مني رفعة أن اكتب نعي عن الفقيدة حياة. وافقت من دون أن أفكر بما سوف اكتبه، و أنا أمر في هذه الحالة العصيبة، دق جرس التلفون، الأصدقاء يعزوني و يواسوني بهذا المصاب الفريد من نوعه!! فالناس لا يقدمون على الانتحار بالرغم من كل ما يمرون به من مصاعب و نكبات. و الانتحار غريب علينا و على ثقافتنا و تقاليدنا، وما هز الناس و الأصدقاء أن مثل هذا الحادث يحدث في طبقتنا، الطبقة المتعلمة، طبقة المثقفين و المفكرين.
جلستُ معهم أصغي إلى مؤاساتهم لي، خرجت المجموعة الأولى من الأصدقاء، فاتجهت نحو الكمبيوتر، و بدأت الكتابة من دون توقف. أحسست بإعصار من الأفكار الغاضبة التي هيمنت عليّ، بفقدان أخت في أوج نتاجها الفكري و ابنة أخت في ريعان صباها. وبعثت النص إلى جريدة الحياة.
شعرت بتعب متواصل، و صداع لم أعهده من قبل. حاولتُ النوم و لكن أحاطتني الكوابيس بثقلها جاثمة على صدري. بدأ الأصدقاء و المعارف في اليوم التالي يتوافدون من الساعة الخامسة مساء. و بدأت الشائعات تنتشر و تنتقل بين الشفاه!
كما توالت الأسئلة، تتكرر، و الأجوبة تعاد. صدمتهم الصراحة التي فوجئوا بها في الإجابة عن أسئلتهم الكثيرة المتشابهة في مضمونها و محتواها، فالمتعارف في مثل هذه الحالة، أن أتجنب كلمة انتحار، و أقول إنها حادثة تسمم من طعام أو ما أشبه ذلك. أو حادث اصطدام سيارة. كانت ظاهرة غريبة على مجتمع مغلق لا ينطق بالحقيقة، إذ ان الانتحار غير وارد في مجتمعنا. خالفتُ العرف في الصراحة التي لا تواجهها شعوبنا في الشرق الأوسط في مثل هذه الحالات، كما خالفتُ العرف في أسلوب الكتابة عند فقدان عزيز من العائلة.
* * *
سافرنا – رفعة و أنا-إلى بيروت، و وجدت رسالة شقيقتي حياة الأخيرة، بانتظاري بعد ثلاثة أشهر من موتها! أمعنتُ النظر فيها، قلبتها بين يدي، قرأتها مرات عديدة، و انقلبت غمغمة الريح إلى صفير، ثم عويل. رسالة من وراء القبر!
يقول الكاتب كلود ستيبان عن الموت:
كل الأجساد المنسية
تريد أن تعرف هل يوجد شيء
تحت الأرض يجمعها، جزء
من مادة أم ليس هنالك سوى العتمة
جامدة مثل
الحجر
ربما الأمل
ليس سوى حزّة في الجسد
شرارة بلا مستقبل
في الذاكرة.
* * *
التقينا بالأصدقاء في لبنان، و عادت الأسئلة تتقمص الجو الذي كنتُ أعيشه، أسئلة الأصدقاء، أعيد الجواب، كشريط مسجل، «لا ندري بالضبط ما حدث»! و تحوم نظرات الاستغراب و الشك! و تطفو التساؤلات في العيون، تدينني، و كأني أخفي سراً عنهم! لا يودون سماع الحقيقة التي أقولها لهم! و إن كانت زينب موجودة بيننا، فتتجه الأسئلة صوبها، فتجيب عن بعضها و تصمت منفعلة عن البعض الآخر. زينب تريد أن تنسى المأساة التي حلت بها، و لكن يتلذذ الناس بتذكيرها المأساة التي مرت بها و ما زالت تعيشها في كل مناسبة!
مررنا بعمان قبل عودتنا إلى لندن، و التقيت بالكاتب عطا عبد الوهاب، سلمته مخطوطة رواية «إذا الأيام أغسقت»، قرأها و أعجب بها، و قال لي إنه مستعد لأن يفاتح «دار المؤسسة العربية للدراسات و النشر» و بعد أن وافقت المؤسسة على طبعها، طلب مني أن أكتب مقدمة ببضع صفحات عن حياة. بدأت بالكتابة و إذا بالأفكار تتداعى و تسحب بعضها البعض كخرز السبحة. و هكذا خرجت المقدمة للوجود بأكثر من ثمانين صفحة. شعرتُ براحة نفسية بعد أن انتهيتُ من كتابتها، و اختفت الكوابيس التي كانت تزورني ليلاً، و تقض مضجعي.
صدر الكتاب بعد عام، و حازت المقدمة على الإعجاب و لكن تناقضت الآراء حول الرواية، فقد وجدها البعض قاتمة كئيبة، و وجدها البعض الآخر قصة واقعية عن حياة المؤلفة، و البعض القليل وجدها نوع من الأدب الذي لم يطرقه العالم العربي، فهو أدب شبيه بالأدب الروسي خلال عصر ستالين. و اعتبرت الرواية بعد عام 2003، من قبل بعض الكتّاب، من بين أحسن عشرة روايات، كتبت خلال السنوات العشر الأخيرة في الأدب في العراق. و كتب عنها كثيراً في الصحف، لارتباطها بالحادثة الأليمة التي أنهت مسيرة كاتبة الرواية.

كان انطلاقي في الكتابة متأخر جداً، و لكني بدأت أهرول لكي ألحق بالركب! شجعتني ردود الفعل عن المقدمة التي كتبتها لرواية «إذا الأيام أغسقت»، بكتابة كتاب ثاني عن سجن رفعة، و معاناتي. عرضت الفكرة على رفعة قبل أن أكتب النص، و اقترحتُ أن اكتب الفصول التي تتعلق بي خارج أسوار الزنزانة و السجن، و يكتب هو عن معناته داخل الزنزانة و السجن. و اتفقنا في أن يكتب كل منا بمعزل تام عن الآخر، كي لا يؤثر الواحد منا على الآخر. و أقترح رفعة عنوان الكتاب «جدار بين ظلمتين» أعجبني العنوان.
و هكذا بدأتُ في الكتابة عن مأساة عشتها، و امتحان قاس إجتزته. أما رفعة فبدأ في الكتابة عندما كنا في فيلا حالات، بعد أن أكملتُ الكتابة، و عزلَ نفسه شهراً كاملاً، عاش المأساة ثانية، و هيمنت عليه بشكل استطاع بها أن ينقل الجو بكل أمانة و صدق. لم يتحدث معي عما كان يكتبه، و لكن شعرتُ بهالة من الحزن تحوم حوله.
سلمني النص الذي كتبه، بعد شهر كامل، لكي أطلع عليه، و صعقت بما قرأت، بل تسمّرتُ في مكاني، جالسة على الكرسي، و عينيّ تتابع الكلمات و الجمل، تفترسها بسرعة، حتى انتهيت من الفصل الأول. رسخت أحداث اليوم الأول في ذهني كالوشم، و ظلت أصوات حراس الاستخبارات تطن في أذني في الليل، فأقضت مضجعي و أبعدتني عن النوم، مددت يدي إلى قدح ماء و بلعت حبة مهدئ!

لم يحدثني رفعة عما مرّ به من العنف النفسي في زنزانة المخابرات طيلة عقدين، و لم أسأله بدوري عن معاناته. كان يقص أحياناً في جلساتنا مع الأصدقاء بعض القصص المضحكة، و لكنه لم يذكر أمامي ما حدث له في المخابرات. إنها المرة الأولى التي أطلع فيها على الواقع القاسي الذي مرّ به من خلال ما كتبه. أصبحت الكلمات المكتوبة على الورق هي الواسطة بيني و بينه، و ليس الكلام المباشر عن العامين اللذين قضاهما بعيداً عن بيته و عائلته و أصدقائه.