صفحة مطوية من تاريخ العراق في عهد الاحتلال البريطاني 1917..جمعية سرية معارضة غير معروفة

صفحة مطوية من تاريخ العراق في عهد الاحتلال البريطاني 1917..جمعية سرية معارضة غير معروفة

أ. د. عماد عبدالسلام رؤوف
للجمعياتِ والأحزاب السياسية العراقية تاريخٌ حافل، ابتدأت فصوله باحتلال القوات البريطانية الغازية العراق إبان الحرب العالمية الأولى؛ فقد شهِدت المدن العراقية تكوينَ عددٍ من المنظمات، استهدفت مقاومةَ الوجود البريطاني الدخيل في العراق، وإنشاء السلطة الوطنية العربية على أراضيه، فتأسست في النجف سنة 1918 جمعية (النهضة الإسلامية) السرية،

التي مهَّدت لثورة المدينة على الحُكم البريطاني سنة 1919، ثم أعقبها تأسيس الفرع العراقي لجمعية (العهد) الشهيرة، في كانون الثاني من سنة 1919، و(جمعية حرس الاستقلال) في نهاية شباط من السنة نفسها، وكان لكلٍّ من هذه الجمعيات دورُه المعروف في النضال الوطني التحرري في العراق آنذاك، ولا نستبعد أن تكون هناك جمعياتٌ أخرى - عمِلت في هذا المجال إبان تلك السنوات - ضاعت أخبارُها بسبب سرِّيتها الشديدة، أو بسبب الشكوك التي أحاطت بعملها، ولقِصَر عمرها الزمني.

ولقد وقَفْنا عند بحثنا في وثائق تلك الحِقبة على وثيقتين فريدتين، باسم جمعية سرية عرفت بـ: (جمعية الدفاع المقدس)، يبدو أنها كانت تعمل في بغداد منذ أواخر العهد العثماني، واستمرَّت في عملها حتى بداية عهد الاحتلال.

والوثيقة الأولى عبارة عن مُلصَق جداري، مكتوب بخط اليد بعناية ظاهرة، وتاريخه هو 29 آذار سنة 1917؛ أي بعد 18 يومًا فقط من احتلال البريطانيين بغداد، الذين دخلوها في 11 آذار سنة 1917، أما الوثيقة الثانية فهي نسخةٌ بخط اليد أيضًا، منقولة عن ملصق جداري آخر، وتاريخه اليوم السادس من حزيران سنة 1917، وبهذا تكونُ هذه الجمعية هي أولَ جمعية سرية لها نشاط في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، واحتلال بغداد مباشرة.

ويُفهَم من الوثيقة المذكورة - في أسطرها الأولى - أنه قد مضت على تأسيس الجمعية آنذاك خمس سنين، فيكون تاريخ إنشائها إذًا هو سنة 1912؛ أي في مدة حُكم والي بغداد جمال بك (26 آب 1911 - 17 آب 1912م)، أو خلفه محمد زكي باشا (13 تشرين الثاني 1912 - 22 آيار 1913م، وكان هدفها آنذاك -على حد تعبيرها- هو”تقليص ظلِّ الحكومة التركية عدوةِ التمدُّن والإخاء من هذه الأصقاع العربية، والاستعاضة عنها بحكومة راقية تخلِّص البلادَ من ذلك الاستبداد الأسود".

وتشير الجمعية إلى أنها مارست العملَ المسلح في العهد العثماني؛ حيث كان لديها مخزن عامر بالقنابل، وتنسُب إلى نفسها مسؤولية إحراق مخزن الذخيرة (الجَبَه خانه) في تلك الأيام، وكان هذا المخزن يقع في قلعة بغداد، وإذ لم نعثُرْ على ما يفيد حدوثَ مثل ذلك الإحراق في السنين المذكورة، فليس من سبيل للتأكد من صحة هذا الادعاء، وإن كنا قد عثَرْنا على ما يدل على حدوثِ عدةِ حرائق خطيرة ببغداد سنة 1912، أحدها في معمل عسكري، فإن هذه الحرائق لم يكن أيٌّ منها في القلعة، وليست لها صلة ما بمخزون الذخيرة فيها، وأهم تلك الأحداث هو الحريقُ الهائل الذي نشب في خان النفط الواقع في محلة العُوينة، ودام أسبوعًا كاملاً، بلغ ما التهمته فيه النار ما يزيد على (13.000) صندوق من النفط، و(250) صندوقًا من مادة (السبرتو)، و(200) صندوق من البانزين، وكان هذا أعظمَ حريق عرَفته بغداد، على ما ذكر المعاصرون في عهد الدولة العثمانية.

ولم تكَدْ تمضي مدة قليلة، حتى نشب حريق هائل آخر في معمل (العبَّخانة) العسكري، المخصص لإنتاج الأقمشة والألبسة العسكرية، فاحترقت جميع الأقمشة المخزونة فيه، وقُدِّرت الأضرار التي نجمت من جراء هذا الحادث بنحو (5000) ليرة عثمانية.

وفي الوقت الذي تسكُتُ فيه المصادر عن بيان سبب هذه الحرائق المتلاحقة، فإننا نلاحظ بأنها حدَثت كلُّها في وقت واحد، وهو التاريخ الذي زعمت الوثيقتان بأنه تاريخُ تأسيس الجمعية المذكورة، وأن الحرائقَ أضرت بموادَّ ذاتِ صفة عسكرية مهمة.

وفضلاً عن أسلوب العنف الذي تُذكَر به (جمعية الدفاع المقدس)، فإنها تشير إلى سلوكها أسلوبًا آخر في العمل السياسي، هو نشر المبادئ القومية والسياسية العربية، على حد تعبيرها، الذي تعتبره واجبَ كل جمعية في العالم؛ ولهذا فإننا نجدُها توصي - في بعض مطالبيها (بيان 29 آذار 1917) - بضرورةِ مشاركة العرب من أبناء العراق في مصالح الحكومة الأهلية، وبوجوب جَعْل اللغة العربية لغة رسمية في العراق، واعتبار الأمة العربية”كأمة راقية ذات مقام كما هو حقيقتها".

وعلى الرغم من أن هذه المطالبَ وطنيَّة المظهر، فإن في الوثيقتين جملةَ أمور، من شأنها إثارة الريب حول نشأة الجمعية وأهدافها؛ فالجمعية لا تُخفي في أول بيان لها رأيَها بأن”حكومة بريطانيا هي البديل المرغوب لحكومة الترك الدابرة،”وأن أعضاءَها كانوا ينشرون الأفكار المؤيِّدة لبريطانيا حتى قبل الاحتلال، وجميع مطاليب الجمعية لا يصل إلى طلب استقلال البلاد، وإنما هي تقوم على اعتبار الاحتلال أمرًا واقعًا لا مناص منه؛ ولهذا فهي تدعو إلى أمور من قَبيل”معاملة الأهلين بالحسنى"، و"إعطاء بعض الحرية للمطبوعات"، و"حفظ الأمن العام"، و"ملاحظة الأسعار الغذائية"، ومشاركة بعض الأهالي في شؤون الحكومة.

وهذه المطالب -رغم طابعها العملي- فإنها لا تخرج في إطارِها العام عما وعَد به البريطانيون أنفسُهم في البيان الذي أذاعه الجنرال مود قائد جيش الاحتلال بتاريخ 19 آذار سنة 1917، وسنجد أن بيان وليم مارشال - الذي خلَفه في قيادة الجيش، في 11 تشرين الثاني سنة 1918. يُشابِهُ في بعض بنوده المطاليب التي دعت إليها الجمعية قبله في بيانها المذكور بنحو ثمانية شهور، فمطالبة الجمعية باعتبار الأمة العربية”أمة راقية ذات مقام"، للرد على ما يبثُّه رجالُ جمعية الاتحاد والترقي من”أن الإنكليز سوف يعاملون العرب في بغداد معاملتهم للطبقة المنحطة من الهنود"، تكرر - في الواقع - ما زعمه مود في بيانه من أن مأمول بريطانيا والأمم المتحالفة معها”أن تسموَ الأمة العربية مرة أخرى عظَمة وصِيتًا، وأن تسعى كتلة واحدة وراء هذه الغايةِ بالاتحاد والوئام".

أما مطالبة الجمعية”بمشاركة العرب من أبناء العراق الناهضين بمصالح الحكومة الأهلية"، فهي لا تخرج عما دعا إليه مود، حين أراد مشاركة عدد من العراقيين في الحُكم؛ لإكسابه مظهرًا شرعيًّا وطنيًّا زائفًا، فقال:”إني مأمور بدعوتكم بواسطة أشرافِكم، والمتقدمين فيكم سنًّا، وممثليكم إلى الاشتراك في إدارة مصالحكم الملكية؛ لمعاضدة ممثلي بريطانيا السياسيين المرافقين للجيش، كي تناضلوا مع ذوي قرباكم شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا في تحقيق أطماحكم المترامية!".

وتطالب الجمعية في بيانها الأول بعد الاحتلال بإعفاء الجنودِ العرب الذين انسحبوا مع القوات العثمانية الأخرى من وسط العراق، من حصر أسمائهم في سجلات السلطة المحتلة”لِما فيه من الخطر في المستقبل إذا عُدُّوا كأسرى حرب"، وقد نص بيان مارشال على تحقيق ذلك حين”سمح لأسرى الحرب المعتقلين في الهند بالرجوع إلى أوطانهم، ما عدا الذين من الجيش التركي (أي العرب فقط)، أما المطالبة”بملاحظة الأسعار الغذائية المتوقف عليها حالة الفقير والضعيف"، فهي ما أشار إليه بيان مارشال المذكور أيضًا بقوله:”يوزع طعام وألبسة على فقراء بغداد والمدن الأخرى، وتخفف القوانين الحالية بعض التخفيف"، ولو وازنَّا بين كل الفقرات الواردة في بيان الجمعية الأول، وبين بيانات الاحتلال الصادرة قبله وبعده، لوجدنا أنهما كُتِبا برُوح واحدة تقريبًا، هذا رغم زعم الجمعية بأنها ستلجأ إلى العنف”إذا لم يلتفت إلى مطاليبها الإصلاحية".

ويؤكد بيان الجمعية الثاني (6 حزيران 1917) على أن الجمعية لا تحمل عداءً لبريطانيا، وأنها”أول صديقة صادقة لدولة بريطانيا، بشرط ألا يكون لها غير النوايا الحسنة نحو العراقيين"، وأنها تؤيد السياسة البريطانية طالما وافقت هذه السياسة حقوقَ الشعب الأساسية، دون أن تبين ما تعنيه بهذه الحقوق، وعلى الرغم من تصريح الجمعية مجددًا بأن لجوءها إلى سبيل العنف غير بعيد، وأن أعضاءها مستعدُّون للتضحية بأنفسهم في سبيل”تأييد حقوق الأمة وواجباتها”- فإن البيان الثاني يسكت هو أيضًا عن أي تلميح إلى الاستقلال، هذا مع أن بيانات الاحتلال نفسها لم ترَ حرجًا من التلويح به في بعض الأحيان.

ويهتم البيان المذكور اهتمامًا خاصًّا بمسألة مشاركة بعض الشخصيات الكبيرة من أهل البلاد في”تمشية أمور الحكومة المحلية بصورة موافقةٍ للعدل والاستقامة"، وهو يرشح عشَرة من تلك الشخصيات بأسمائها، مؤكدًا على عدمِ وجود أدنى صلة للجمعية بهم، سوى ما تعرفه عن كفاحِهم ضد السُّلطة العثمانية.

والناظر إلى الأسماء المرشحة يلاحظ أنها تضم خليطًا عجيبًا من شخصيات، بعضها معروف تمامًا وله تراثه الوطني والثقافي الكبير، والبعض الآخر مغمور ليس له ماضٍ يعرف به أصلاً، ولا يجمع بينهم سوى أن أكثرهم كانت له مواقفُ مناوئة للسلطة العثمانية في أواخر عهدها في العراق، وأن بعضهم لقي عنتًا شديدًا من تلك السلطة، بلغ حد أمرها بنفيه وإبعاده.

وإذا تتبعنا تراجم المرشحين نجد أن بعضًا منهم عُرِضت عليه مناصب مهمة فعلاً في السلطة المحلية التي أقامتها قوات الاحتلال وقَبِلَها، والبعض الآخر أبى المشاركة فيما دُعي إليه بأية صورة من الصور، مما يؤكد عدم وجود صلة ما بينه وبين ترشيح الجمعية له في بيانها المذكور، وواضح أن أولئك المرشَّحين كانوا ينتمون إلى الديانات الثلاث جميعًا: الإسلامية، والنصرانية، واليهودية، على النسب الآتية:
مسلمون، ينتمون جميعًا إلى أُسَر مهمة أدت أدوارًا مؤثِّرة في تاريخ العراق الحديث، ثلاثة منهم من العلماء الذين تولوا مناصب شرعية وإدارية وتجارية بارزة، هم:
1- محمود شكري الآلوسي (عالم ومدرس.
2- عبدالمجيد بك الشاوي (أديب وإداري).
3- عبدالرحمن أفندي بن مصطفى جميل (عالم ومدرس).
4- السيد موسى الكيلاني (عالم ومن الملاكين).
5- حمدي أفندي الباجه جي (تاجر ووجيه)، وعبداللطيف ثنيان (صحفي).

ولنا أن نلاحظ أن الوثيقة تلقِّب السيد محمود شكري الآلوسي باسم (سيادة)، وهو اسم لم يكن يُعرَف به العلماء المسلمون، وإنما كانوا يعرفون باسم (شيخ) مطلقًا، بينما كان اسم (سيادة) يختص به المطارنة دون غيرهم، فيعرف أحدهم باسم (سيدنا) تمييزًا له عن سائر الدرجات الكهنوتية.

يمكننا القولُ إذًا - بناءً على ما تقدم - بأن الجمعيةَ كانت:
1- لا تميل إلى أيِّ استقلال سريع عن بريطانيا.

2- تريد تشكيل حكومة محلية من الأهالي - أو يشارك فيها الأهالي - تتولى تنفيذ الإصلاحات التي تراها ضرورية، وربما كان ذلك تحت إشراف بريطانيا نفسها.

وإذا طرحنا جانبًا أن تكون الوثيقتان من إصدار سلطة الاحتلال، أرادت بهما إظهار سياستها وكأنها استجابة لمطالب شعبية عامة، وافترضنا وجود الجمعية على ما أعلنت هي عنه، وأنها المسؤولة فعلاً عن إحداث الحرائق في المنشآت الحيوية ببغداد إبَّان العهد العثماني: فإن الجمعية - كما نستنتج من كل ما عرضناه - كانت تضم بعض الفئات التي شعرت بأن مصالحها مرتبطة - بعد انقضاء الحُكم العثماني في الأقل - باستمرار وجود نوع من الإشراف البريطاني على الحُكم في العراق، ولو إلى حين، ومن ناحية أخرى فإن اسم الجمعية نفسه لا يقع في ضمن سياق أسماء الجمعيات الوطنية التي أسسها العرب المسلمون عهد ذاك، لا سيما بإضافة صفة (المقدس) بعد اسمها الأول (الدفاع)، ولعل الأيام تكشف لنا عن حقيقة هذه الجمعية، مما يُلقي ضوءًا جديدًا على تاريخ الجمعيات السرية في العراق.