من أسرارالأيام الأولى لثورة14تموز1958..عندما أصبح فؤادعارف متصرفا لكربلاء..كيف أيدعلماءالدين الثورة؟

من أسرارالأيام الأولى لثورة14تموز1958..عندما أصبح فؤادعارف متصرفا لكربلاء..كيف أيدعلماءالدين الثورة؟

محمد سلمان التميمي
بقي فؤاد عارف خلال المدة التي تلت نقله من معسكر المنصور في تشرين الثاني عام 1956 ولغاية اعلان ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 على اتصال مستمر ومباشر مع الضباط الاحرار، لا سيما مع عبد الكريم قاسم، الذي اصبح رئيسا للجنة العليا لتنظيم الضباط الاحرار في منتصف عام 1957، فقد كان يزور عبد الكريم قاسم في منزله في بغداد في ايام العطل الاسبوعية،

وكان اخر مرة التقى بها فؤاد عارف عبد الكريم قاسم قبل اعلان الثورة في يوم الخميس العاشر من تموز عام 1958، وكان عبد السلام محمد عارف حاضرا معهما، اذ استفسر عبد الكريم قاسم من فؤاد عارف عن مدير أمن الحلة (انور ثامر) وهو من اقارب عبد السلام محمد عارف، فكان جواب فؤاد عارف بانه عنصر جيد دون علمه بصله القرابة بين عبد السلام وانور ثامر، ويذكر فؤاد عارف ان عبد الكريم قاسم اوحى له بشكل غير مباشر عن قرب موعد الثورة، بقوله :((ستسمع هذه الايام اخبارا سارة)). ثم دعاه لتناول الغداء في اليوم التالي في منزله، فوافق فؤاد عارف على دعوة عبد الكريم قاسم، الا انه لم يتمكن من تلبيتها، فقد نسي الموعد ولم يتذكره الا وهو في منتصف الطريق بين بغداد والحلة.

تلقى فؤاد عارف نبأ قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، حين جاءه احد الجنود وابلغه بذلك الخبر الذي سمعه عن طريق المذياع، وبعد ان سمع الخبر بنفسه، قام بالسيطرة على لوائه من خلال تسييره للدوريات العسكرية في مدينة الحلة لضبط الامن فيها، كما صدرت تعليمات للوحدات العسكرية المرابطة في الحلة بان تتلقى اوامرها من فؤاد عارف، ومن الامور المهمة التي واجهت فؤاد عارف في ذلك اليوم، هو اتصال قائد الفرقة الاولى التي كان مقرها في مدينة الديوانية (محافظة القادسية حاليا) اللواء الركن (عمر علي) بفؤاد عارف، واعرب عمر علي عن عدم رضاه عما يجري، معبرا عن الثورة بانها (فوضى) فأجابه فؤاد عارف بانها ليست فوضى، وعليه تقبل الامر الواقع، وجاء ذلك الاتصال في محاولة من عمر علي لكشف موقف فؤاد عارف، الذي عبر له عن تأييده للثورة، ثم عاد عمر علي وتراجع عن موقفه، بعد ان لمس دعم وتأييد الجيش للثورة، كما لجأ متصرف الحلة انذاك (فاضل بابان) الى فؤاد عارف خوفا من ان يلحقه أي اذى، كما جيء بمتصرفي الديوانية والرمادي (محافظة الانبار حاليا) مخفورين اليه، فتعامل معهم باحترام ثم سفرهما الى بغداد واتصل بقيادة بغداد موصيا خيرا بالموقوفين الذين ارسلهم.
التحق فؤاد عارف في الخامس عشر من تموز بمنصب متصرف لواء كربلاء، اذ صدر في اليوم الاول للثورة المرسوم الجمهوري رقم (6) الذي يقضي بتعيين فؤاد عارف متصرفا للواء كربلاء، ويعد فؤاد عارف المتصرف رقم (34) من المتصرفين الذين تولوا هذا المنصب منذ تشكيل اول حكومة عراقية في عام 1920، وبذلك التعيين غادر فؤاد عارف الحياة العسكرية الى مجال العمل المدني، اذ احيل على التقاعد وفقا لقانون التقاعد العسكري، مع عدد من الضباط ممن تولوا وظائف مدنية بعد الثورة. اما سبب اختياره لهذا المنصب فكان اولا وقبل كل شيء تكريما له من قادة الثورة، على اعتبار انه كان من الضباط المؤيدين لتنظيم الضباط الاحرار قبل الثورة وبعدها، على الرغم من عدم انضمامه اليهم بشكل رسمي، فضلاً عن علاقته القوية بعبد الكريم قاسم الذي اصبح الرجل الاول في العراق آنذاك. كما جمعت فؤاد عارف علاقات مودة واحترام باهالي كربلاء منذ عام 1947 كما ذكرنا سابقا، وهناك من يرجح اختياره لهذا المنصب لأنه ينحدر من اسرة علوية (السادة البرزنجية) ويذكر فؤاد عارف في هذا السياق موضحا : ((لقد كان عبد الكريم قاسم يعرف موقف اهالي المحافظة، لا سيما رجال الدين الافاضل مني (فؤاد عارف)، لذا فقد فضل ان اكون متصرفا لها (كربلاء) ولمحاولة كسب تأييد رجال الدين للثورة..)).
استهل فؤاد عارف عمله في كربلاء، بالقيام بمهمة الحصول على تاييد علماء الدين في كربلاء والنجف للثورة، اذ تم تكليفه بهذه المهمة من قبل عبد الكريم قاسم، على اثر لقاء الاخير بسفير الولايات المتحدة الاميركية في بغداد، الذي حضر في مساء يوم الخامس عشر من تموز عام 1958 الى مبنى وزارة الدفاع، الذي اتخذه عبد الكريم قاسم مقرا له، والتقى بعبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف، وخلال اللقاء اثار السفير الامريكي موضوع عدم تأييد قسم كبير من الشعب العراقي للثورة، اذ اعرب لهما ان اعتراف حكومته بالوضع الجديد في العراق يتوقف على تأكدها من التأييد الشعبي للثورة.
قام فؤاد عارف بالذهاب الى علماء الدين في النجف للحصول على تأييدهم للثورة، مصطحبا معه قائمقام قضاء النجف (محافظة النجف حاليا) السيد (تقي القزويني) وكان الاخير قد تلقى اتصالا مباشرا من وزارة الدفاع لتسهيل تلك المهمة، لما كان يتمتع به من علاقات طيبة مع علماء النجف، فكان له دورا كبير في مساعدة فؤاد عارف في الحصول على تأييد علماء الدين للثورة، وبذلك تمكن فؤاد عارف من انجاز اول وأهم عمل قام به حين كان يشغل منصب متصرف لواء كربلاء، فقد طمأن علماء الدين من اهداف الثورة ونيات القائمين عليها، فجاءت كتب التأييد على شكل رسائل تحريرية وبرقيات لمؤازرة الثورة والحكومة الجمهورية.
وفي الرابع والعشرين من تموز عام 1958، قام فؤاد عارف بزيارة وزارة الدفاع بصحبة السيد تقي القزويني، حاملا معه رسائل التأييد التي بعث بها علماء النجف و كربلاء للثورةوعند وصوله الى هناك كان عبد الكريم قاسم مجتمعا بالسفير الاميركي في بغداد، فطلب فؤاد عارف من المقدم (وصفي طاهر) الذي كان مرافقا لعبد الكريم قاسم، ان يدخل عليه ويبلغه بأن يخرج اليه، لان هناك امراً مهماً يجب ان يطلع عليه، اذ ابلغه الاخير بنجاح مهمته في الحصول على تأييد علماء النجف وكربلاء، فشكر عبد الكريم قاسم فؤاد عارف على ذلك، وقال له بانه سوف يقول للسفير الاميركي : ((افتح اذاعة بغداد هذا المساء، الساعة الثامنة، واصغ الى تأييد علماء الدين الافاضل لثورتنا)). وبعد انتهاء اجتماع عبد الكريم قاسم بالسفير الاميركي، جلس فؤاد عارف مع عبد الكريم قاسم ووزير الارشاد (محمد صديق شنشل)، اذ طلب عبد الكريم قاسم من وزير الارشاد كتابة رسائل شكر جوابية لعلماء الدين كل حسب درجته، كما طلب منه اذاعتها مع رسائل التأييد التي بعثوا بها، وتجدر الاشارة الى ان رسائل التأييد تلك ترجمت الى اللغة الانكليزية، واذيعت في وسائل الاعلام باللغتين العربية والانكليزية، التي تمت اذاعتها في السابع والعشرين من الشهر نفسه، ويبدو ان ذلك الاجراء جاء لكي يتأكد الاميركيون من تأييد غالبية الشعب للجمهورية التي جاءت بها الثورة، كي يعترفوا بها.
ومن ابرز العلماء الذين التقاهم فؤاد عارف، بغية كسب تأييدهم للثورة السيد (محسن الحكيم)، الذي بارك الثورة وايدها من خلال الرسالة التي بعث بها الى (مجلس السيادة) ورئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، اذ عبر فيها عن تمنياته لهم بحسن التوفيق لخدمة الدين والاسلام، والمحافظة على الصالح العام، وطالبهم بضرورة اقامة العدل بين الناس والعطف عليهم، كما حذرهم من الاستفراد بالحكم، موضحا ان : ((الظلم والاستئثار من اكبر عوامل الدمار)) كذلك اعرب الشيخ (عبد الكريم الجزائري) في رسالته التي حملها فؤاد عارف الى عبد الكريم قاسم، عن امله في ان يكون عهد الجمهورية ((عهدا مباركا تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة والقيم الروحية، ليشعر الفرد بقيمته كمواطن له حريته وكرامته في حدود ما امر الله..))، فضلا عن ذلك فقد التقى فؤاد عارف بعدد من علماء الدين البارزين في النجف وكربلاء حينذاك، والذين باركوا وايدوا الثورة.
ونظرا لما تتمتع به كربلاء من خصوصية، كونها وبعض الاقضية التابعة لها انذاك كقضائي النجف والكوفة، تعد من المدن المقدسة لدى المسلمين عامة والعراقيين بشكل خاص، لذا فان ادارتها تتطلب سلوكا مختلفا في الادارة عن نظيراتها من المدن العراقية الاخرى، وبسبب قلة خبرة فؤاد عارف في مجال الادارة المدنية، فقد كان ذلك اول منصب اداري مدني يتولاه، ولغرض تجاوز المشكلات التي واجهته خلال تلك المدة، سلك فؤاد عارف سياسة متوازنة في ادارة لواء كربلاء، من خلال اعتماده لمبدأين اساسيين، هما تطبيق سيادة القانون وفرضه اولا، ومراعاة ظروف المدينة، ووضعها الديني والاجتماعي ثانيا، للوصول الى سياسة ادارية اكثر انسجاما مع واقع المدينة، معتمدا بذلك على معرفته الشخصية بشؤون كربلاء وعلاقاته الجيدة باهاليها، مذ كان يشغل منصب مدير التجنيد فيها.
برزت ملامح تلك السياسة باتخاذه قرارات عدة تخص لواء كربلاء عند تسلمه منصبه الجديد، وكان من اهمها قراره باستثناء مدينتي كربلاء والنجف من قرارات منع التجول التي فرضت بعد الثورة على مدن العراق كافة، وذلك لاتاحة المجال امام اهالي اللواء باقامة الشعائر والطقوس الدينية الخاصة بمناسبة عاشوراء خلال شهر محرم. وقد اذيع ذلك على شكل بيان من خلال مكبرات الصوت التي جابت شوارع كربلاء، مما ادى الى استغراب عبد الكريم قاسم من ذلك الامر، اذ اتصل بفؤاد عارف هاتفيا قائلا له : ((فؤاد شنو، كربلاء مو عراق.؟)). فاجابه الاخير بقوله : ((كلا، هذه مدينة مقدسة، ليس لنا الا ان نحترم شعائرها.)). فوافق عبد الكريم قاسم على ذلك القرار، كما تصدى فؤاد عارف للتجاوزات التي طالت بعض الشخصيات الكربلائية المعروفة، من قبل بعض الذين استغلوا حالة الفوضى التي تلت الثورة، وكان ذلك من خلال مخاطبته للجماهير وافهامهم بأن الجيش العراقي هو صاحب الفضل الاول في الثورة التي قام بها، لذا ليس من حق أي شخص ان يتصرف بشكل يسيء لها.
ومن المشكلات التي واجهها فؤاد عارف في كربلاء، حالة الفوضى التي دبت في المدينة، نتيجة للخلافات والصراعات السياسية بين الجهات الحزبية المختلفة، التي برزت على الساحة السياسية بعد الثورة بشكل علني وواضح، مثل (الحزب الشيوعي العراقي) والتنظيمات ذات التوجهات القومية، ما سبب استياء الاوساط الدينية والاجتماعية المختلفة في كربلاء، وازاء ذلك ولغرض تخفيف حالة الاحتقان السياسي التي سادت في كربلاء خلال تلك المدة وعدم تطورها درجة الانفلات، قام فؤاد عارف باتخاذ قرار يقضي بتوقيف مسؤولي تلك المنظمات الحزبية، ومن مختلف الاتجاهات السياسية، وذلك لاعتقاده بانهم كانوا السبب في خلق الفوضى والشقاق بين الجماهير، ومن المفارقات الطريفة في هذا الشأن، انه امر بتوقيفهم في غرفة واحدة، ثم زارهم في الموقف وقال لهم : ((.. اذا شئتم فسأعطيكم مسدسات، كي يقضي احدكم على الاخر ويتخلص الناس من شروركم، ان لم تتركوا الخلافات جانبا..)). فلم تمض الا ساعات حتى اخبره مدير الشرطة بانهم تصالحوا، فأمر باطلاق سراحهم.
وعلى الرغم من ذلك الاجراء، فأن فؤاد عارف كان يسمح بقيام المظاهرات التي كانت تنظمها الاحزاب السياسية المختلفة، بعد ان يتعهد منظمو تلك المظاهرات بالحفاظ على الهدوء وعدم القيام بما يؤدي الى استفزاز الاخرين.
وازاء ذلك فسح فؤاد عارف المجال واسعا لرجال الدين في كربلاء، كي يقوموا بدورهم بحث الناس على عمل الخير والالتزام بالاعراف الاجتماعية وقيم ومبادئ الدين الاسلامي الحنيف، وقد حصل ذلك التقارب في وجهات النظر بين فؤاد عارف ورجال الدين في كربلاء بعد حوار طويل جرى بالصدفة بينه وبين السيد (محمد الحسيني الشيرازي)، والذي على اثره تعهد فؤاد عارف بمفاتحة عبد الكريم قاسم بشأن ارسال بعض رجال الدين الى دار الاذاعة العراقية في بغداد، لالقاء بعض الخطب والكلمات الدينية لوعظ وارشاد المواطنين.
وكان من ابرز من القى كلمة في الاذاعة انذاك الشيخ (عبد الزهراء الكعبي) الذي اذيع (المقتل الحسيني) بصوته لاول مرة في تأريخ العراق في ذلك الوقت، كما اقيم في كربلاء في الثاني والعشرين من كانون الثاني عام 1959، احتفالا دينيا كبيرا بمناسبة مولد الامام علي بن ابي طالب (ع) وجاء ذلك الاحتفال الديني بناء على رغبة اهالي كربلاء، لا سيما رجال الدين الذين طلبوا من فؤاد عارف الموافقة على اقامته،فرحب الاخير بذلك وتابع التحضيرات التي سبقت اقامة الاحتفال الذي كان برئاسته، ويعد ذلك الاحتفال فريدا من نوعه، اذ لم يشهد العراق بشكل عام وكربلاء بشكل خاص مثله من حيث حجم المشاركة والفعاليات فيه، اذ بدأت التحضيرات له قبل شهر كامل، وخلال هذا الوقت اقيمت عدة احتفالات تمهيدية عديدة قبل حلول اليوم الثالث عشر من شهر رجب للعام الهجري 1378، الذي اقيم فيه الاحتفال الديني الكبير، وقد تناقلت اخباره الاذاعات العالمية المختلفة، التي وصفته بـ(المهرجان).

عن رسالة
(فؤاد عارف ودوره العسكري والسياسي)