توني موريسون.. تحويل الظلال إلى رومانس

توني موريسون.. تحويل الظلال إلى رومانس

روبرت بن وارن
ترجمة: أسامة إسبر
(كاتب ومترجم من سوريا)
يصف إدجار آلن بو في نهاية قصة آرثر جوردون بيم اليومين الأخيرين من رحلة فائقة للعادة:
21 آذار: خيمت ظلمة متجهمة فوقنا ثم بزغ وهج مضيء من الأعماق الزبدية للمحيط وتسلل على طول جانبي القارب. كنا على وشك الانسحاق من الدفق الأبيض الشاحب الذي استقر طينا وهى القارب ولكنه ذاب في الماء بينما هو يسقط..

22 آذار: ازدادت الظلمة وتخللها وهج الماء الذي كان يدفع الى الخلف من الستارة البيضاء التي كانت أمامنا. كانت طيور عملاقة بيضاء وشاحبة تطير باستمرار من خلف الستارة وكان صراخها مواصلا وهي تنحسر من مدى رؤيتنا، عندئذ تحرك نونو في قاع القارب ولكن حيث لمسناه وجدناه ميتا. اندفعنا نحو الشلال حيث انفتحت هوة لتتلقانا ثم نهض في طريقنا شكل بشري مكفن أكثر ضخامة في بنيته من أي مخلوق بشري وكان لون جلده ناصعا كبياض الثلج.

كان بيم وبطرس والمحلي نونو يبحرون في بحر دافيء أبيض كالحليب”تحت مطر شاحب أبيض". يموت الرجل الأسود ويندفع القارب عبر الستارة البيضاء التي ينهض خلفها عملاق أبيض. بعد ذلك لا يحدث شيء، لم تعد هناك قصة يضمن تعليق موجز شرح وخاتمة مضطربة مجمعة – يفيد أن البياض أرعب المحليين، وقتل نونو، ونقش النقش التالي على جدران المهاوي التي عبرها المسافران:”لقد نقشتها داخل التلال ونقشت انتقامي على الصخرة".

ليس هناك كاتب أمريكي، من الأ وائل، أكثر أهمية لمفهوم الأفريقية الأمريكية من بو. وليست هناك صورة أكثر افصاحا من التي وصفت لتوها: الشكل الأبيض المصور، ولكن المغلق والمجهول نوعا ما، والذي يبزغ من الضباب في نهاية الرحلة – أو على أي حال في نهاية طقس السرد. تظهر صور الستارة البيضاء والشكل البشري المكفن، الذي له جلد بلون بياض الثلج الناصع، بعد أن يقابل السرد السواد. ويبدو أن الصورة البيضاء الأولى، متعلقة باختفاء وامحاء الشكل الأسود الخادم والقابل للخدمة، نونو. وهذا تصوير رمزي لبياض لا يخترق، يطفو على السطح في الأدب الأمريكي أينما ظهر حضور افريقي، وغالبا ما يعثر على هذه الصور البيضاء المغلقة في نهاية السرد. وتظهر غالبا وتستدعي في ظروف خاصة كهذه وقفة. وتطالب بصخب، كما يبدو بانتباه يمنح المعنى الكامن في زجها وتكرارها وايحائها القوي بالشلل وغياب الانسجام وبالمأزق والاستنباط الخلفي.

تحتاج صور”البياض الذي لا يخترق”الى موضعة سياقية من أجل شرح قوتها الفائقة للعادة ونموذجها وتماسكها. ولأنها تظهر، في معظم الأحيان، في علاقة مع تمثيلات البشر السود أو الأفارقة الذين هم موتى، عاجزون، أو تحت سيطرة كاملة،تبدو صور البياض الذي يعمي، كأنها تعمل ترياقا للظل الذي يرافق البياض وتأملا في الظل، الذي هو حضور أسود وثابت يثير الخوف والتوق في قلوب ونصوص الأدب الأمريكي. يوحي هذا الشبح الساكن – الظلمة – الذي بدا أدبنا الأول غير قادر على تخليص نفسه منه، بالموقف المعقد والمتناقض الذي وجد فيه كتابنا الأمريكيون أنفسهم، في أثناء السنوات التأسيسية لأدب الأمة. وقد ميزت أمريكا الشابة نفسها وفهمتها على أنها تندفع نحو مستقبل من الحرية، نوع من الكرامة البشرية، اعتقد أنها لم تسبق في العالم. إن تراثا بأكمله من التوق الكوني انهار في العبارة المدللة جيدا: الحلم الأمريكي. ورغم أن هذا الحلم المهاجر يستحق الفحص الشامل الذي حصل عليه في الأنظمة البحثية والفنون، من المهم أن نعرف أيضا، ما الذي كان هؤلاء البشر يهربون منه كما من المهم أن نعرف ما الذي كانوا يندفعون نحوه إذا كان العالم الجديد قد غذى الأحلام، ما هي حقيقة العالم القديم التي أثارت شهيتهم؟ وكيف داعبت تلك الحقيقة تشكيل عالم جديد وأحاطت به؟ لقد نظر الى الهرب من العالم القديم الى العالم الجديد على أنه هرب من الظلم والقيد الى الحرية والاحتمال. ورغم أن الهرب كان أحيانا هربا من الانحراف، من مجتمع فهم على أنه اباحي بشكل غير مقبول، غير الهي، وغير منضبط، فقد كان هروب الذين قاموا بالرحلة لأسباب غير دينية ناتجا عن الحصر والقيود. كان كل ما قدمه العالم الجديد لأولئك المهاجرين هو البؤس والسجن والنبذ الاجتماعي وغالبا الموت. كانت هناك أيضا مجموعة إكليركية من الباحثين المهاجرين، الذين جاءوا ليؤسسوا مستعمرة من أجل وطن أم أو مسقط رأس وليس ضده. وبالطبع كان هناك التجار الذين جاءوا من أجل النقود.

ومهما كانت الأسباب كانت الجاذبية تكمن في تنوع السجل الفارغ، في فرصة تسنح مرة واحدة في العمر، ليس من أجل أن تولد ثانية فحسب، بل أيضا من أجل أن تولد ثانية بثياب جديدة، كما حصل. قدمت الخلفية الجديدة ثيابا جديدة للذات واستطاعت هذه الفرصة الثانية أن تستفيد حتى من الأخطاء الأولى. كانت هناك في العالم الجديد رؤية مستقبل بلا حدود، جعله الحصر والسخط والفوضى التي تركت في الخلف، أكثر توهجا. كان وعدا يعد بشكل بارع ويستطيع المرء أن يكتشف من خلال الحظ والصبر، الحرية، وأن يعثر على طريقة ليجعل قانون الله متجليا أو ينتهي غنيا كأمير.

يسبق الظلم الرغبة بالحرية ويولد التوق الى قانون الله من مقت الانحراف البشري والفساد، ويستعبد البؤس والجوع والديون صخب الثروات. وكان هناك الكثير جدا في أواخر القرنين السابع والثامن عشر لجعل الرحلة جديرة بالمجازفة. حلت مكان عادة حني الركبة حماسة القيادة. وحلت القوة والتحكم بالمصير الشخصي مكان الضعف الذي شعر به أمام بوابات الطبقة والطائفة المنغلقة والاضطهاد الماكر. استطاع المرء أن ينتقل من الخضوع للنظام والعقاب الى القيام بالتنظيم والمعاقبة، من النبذ الى المرتبة الاجتماعية، من ماضي لا نفع فيه، ملزم وكريه، الى نوع من اللاتاريخية، الى صفحة بيضاء تنتظر أن يكتب عليها وكان هناك الكثير الذي سيكتب: بواعث نبيلة حولت الى قوانين وخصصت من أجل التراث القوس، وبواعث دنيئة، اكتسبت وتوضحت في الوطن النابذ والمنبوذ، حولت أيضا الى قانون وخصصت من أجل التراث.

خطت كمية الأدب التي انتجتها الأمة الشابة تقاطعها بطريقة واحدة مع هذه المخاوف والقوى والآمال. ومن الصعب أن نقرأ أدب امريكا الفتية دون أن يصعقنا تعارضه مع تراثنا الحديث عن الحلم الامريكي وكم هو واضح فيه غياب المزيج الخادع من الأعلى والواقعية والمادية والوعد الذي يوحي به ذلك المصطلح. وبالنسبة لبشر صنعوا كثيرا من جدتهم وطاقتهم وحريتهم وبراءتهم، من المذهل كم هو قاس أدبنا الأول ومخيف ومليء بالمشكلات.

نمتلك كلمات وأسماء لهذا الشبح الساكن كمثل قوطي ورومانسي ووعظي وبيوريتاني. ويمكن العثور على مصادره في أدب العالم الذي غادره أولئك المهاجرون، لكن القرابة القوية بين الروح الامريكية في القرن التاسع عشر والرومانس القوطي، لوحظت كثيرا بشكل صحيح، ما الذي يجعل بلادا فتية تنفر من فوضى أوروبا الأخلاقية والاجتماعية تدخل في نوبة رغبة ورفض وتوظف مواهبها لتنتج في بلادها، من جديد، طبولوجيا السلوك الشيطاني التي أرادت أن تتركها خلفها؟ يبدو الجواب على هذا السؤال في غاية الوضوح: إن طريقة الاستفادة من دروس الأخطاء الأولى والكارثة السابقة هو تسجيلها من أجل منع تكرارها من خلال الكشف والتلقيح.

كان الرومانس هو الشكل الذي يمكن أن نطرح من خلاله هذه المعالجة الوقائية الأمريكية. وبعد فترة طويلة من الحركة في أوروبا بقي الرومانس التعبير المدلل لأمريكا الفتية. ما الذي كان في الرومانسية الأمريكية حتى جعلها جذابة للامريكيين كسهل معركة يقاتلون فيه ويلتزمون ويتخيلون شياطين أخرى؟

لقد اقترح أن الرومانس هو هروب من التاريخ (وهكذا يصبح جذابا لبشر يحاولون التهرب من التاريخ الحديث). لكن حججا تجد فيه المقابلة المباشرة مع القوى التاريخية الحقيقية جدا، والضاغطة، والتناقضات التي تكمن فيها حين يجربها الكتاب، اقنعتني أكثر من غيرها.

حقق الرومانس. الذي هو استكشاف للقلق المستورد من ظلال الثقافة الأوروبية، القبول الآمن تارة، والخطير تارة أخرى، لمخاوف محددة وبشرية بشكل واضح: خوف الامريكيين من كونهم منبوذين، من الفشل ومن الضعف من غياب الحدود ومن الطبيعة المطلقة العنان والرابضة من أجل الهجوم وخوفهم من غياب ما يدعى بالحضارة وخوفهم من العزلة ومن الاعتداء الداخلي والخارجي. باختصار، رعب الحرية البشرية، الشيء الذي اشتهره أكثر من أي شيء آخر. قدم الرومانس للكتاب أشياء كثيرة: قدم لهم قماشا تاريخيا عريضا لا قماشا ضيقا وغير تاريخي، الاندماج لا الهرب، كان يحتوي بالنسبة لامريكا الفتية: الطبيعة كموضوع، نسقا رمزيا، أفكارا رئيسية للبحث عن تثبيت الذات واضفاء طابع شرعي عليها، وقبل كل شيء فرصة غزو الخوف خياليا وتهدئة المخاوف العميقة الناجمة عن عدم الاحساس بالأمن. قدم الرومانس منابر للتفسير الأخلاقي وصناعة الخرافة والتسلية الخيالية للعنف، اللامصداقية السامية والرعب، بالاضافة الى عنصر الرعب الأكثر دلالة وزهوا: الظلمة بكل القيم الضمنية التي أيقظتها.

ليس هناك رومانس حر مما سماه فيرمان ميلفل:”قوة السواد"، وخاصة في بلاد كان فيها سكان مقيمون، سود مسبقا، يستطيع الخيال أن يتلاعب بهم، ومن خلال هؤلاء السكان، يمكن أن تتوضح المخاوف التاريخية والأخلاقية والميتافيزيقية والاجتماعية والمشكلات والقطيعة. لقد افترض ويمكن أن يفترض أن السكان العبيد قدموا أنفسهم كذوات بديلة للتأمل في مشاكل الحرية البشرية واغر ائها وخداعها، كان السكان السود متوفرين للتأملات في الرعب، رعب المنبوذين الأوروبيين ومقتهم للفشل والضعف والطبيعة التي بلا حدود والعزلة الولادية والاعتداء الداخلي والشر والخطيئة والجشع. بمعنى آخر، فهم هؤلاء السكان السود على أنهم قدموا أنفسهم من أجل التأملات في الحرية البشرية بمعنى يختلف عن الأفكار التجريدية عن الطاقة البشرية وحقوق الانسان.

إن الطرق التي نقل بها الفنانون – والمجتمع الذي رباهم – الصراعات الداخلية الى ظلمة فارغة، الى أجساد سوداء مقيدة بشكل ملائم وسكتة بشكل عنيف، هي موضوع رئيسي في الأدب الأمريكي، وعلى سبيل المثال كانت حقوق الانسان مبدأ تنظيميا أسست الأمة على أرضيته وكان متصلا بالافريقية بشكل لا فكاك منه. إن تاريخه وأصله متحالفان دائما مع مفهوم إغوائي أخر:”تراتبية العرق". وكما نوه عالم الاجتماع أورلاندو باترسون يجب الا يدهشنا أن”التنوير”استطاع أن يلغي الاسترقاق، يجب أن نندهش إن لم يكن قد فعل ذلك، لم ينشأ مفهوم الحرية من فراغ، لا شيء أشاد بالحرية – هذا إن لم يكن في الحقيقة قد ابتكرها – مثل العبودية. لقد أغنت العبودية السوداء الامكانيات الابداعية للبلاد. ذلك أنه يمكن أن يعثر، في ذلك البناء للسواد والاسترقاق، ليس على غير الحر فحسب، بل أيضا على تصور الذي ليس أنا، وذلك من خلال التناقض الدرامي الذي خلقه لون الجلد. وكانت النتيجة ملعبا للخيال، وعبا نهض من الحاجات الجماعية لتسكين المخاوف الداخلية ولعقلنة الاستغلال الخارجي هو افريقية امريكية – شراب مختلق من”الظلام والغيرية والذعر والرغبة”التي هي أمريكية بشكل فريد. (هناك أيضا بالطبع افريقية أوروبية تمتلك نظيرا في الأدب الكولونيالي).

ما أرغب أن أفحصه هو كيف أصبحت صورة الظلمة المكبوحة والمقيدة والمكبوتة والمقموعة ذات بعد موضوعي في الأدب الأمريكي كشخصيات افريقية. أريد أن أظهر أن واجبات تلك الشخصيات، كطرد الأرواح الشريرة والتجسيد والتصوير، هي مطلوبة ومطروحة في جزء كبير من أدب البلاد وساعدت في تشكيل الخصائص المميزة لأدب أمريكي أول.

قلت سابقا إن الهويات الثقافية تشكل أدب الأمة ويشكلها هذا الأدب في الوقت نفسه وأن ما بدا أنه في ذهن أدب الولايات المتحدة كان البناء الواعي ذاتيا، لكن الاشكالي جدا للامريكي كرجل أبيض جديد وتشير دعوة إمرسون الى ذلك الرجل الجديد، في الباحث الامريكي، الى التعمد في ذلك البناء والضرورة الواعية لتأسيس الاختلاف. لكن الكتاب الذين استجابوا لهذه الدعوة، قابلين أو رافضين، لم ينظروا الى أوروبا ليؤسسوا مرجعا للاختلاف فحسب، كان هناك اختلاف مسرحي جدا تحت القدم. كان الكتاب قادرين على أن يستنكروا أو يحتفلوا بهوية مسبقة أو نأخذ بسرعة شكل عقدة الاختلاف العرقي قدم ذلك الاختلاف انفاقا عميقة من الاشارة والرمز والوساطة في عملية تنظيم وفصل وتدعيم الهوية عبر خطوط المصلحة ذات القيمة التاريخية. وقدم لنا برنارد بيلن استقصاء فائقا للعادة عن المستوطنين الأوروبيين في عملية التحول الى امريكيين، وأريد أن أقتبس مقطعا طويلا من كتابه”رحالة الى الغرب”لأنه يؤكد السمات البارزة للشخصية الامريكية التي كنت أصفها:

إذا نظر الى ويليم دنبر من خلال رسائله ويومياته يبدو خياليا أكثر من كونه واقعيا، يبدو مخلوقا ابتكره خيال ويليم فوكنر، وهو مثل الكولونيل ستبين أكثر تهذيبا لكنه ليس أقل غموضا. كان هو أيضا، مثل الشخصية الغريبة في رواية ابسالوم ابسالوم، رجلا في بداية سن العشرين ظهر فجأة في برية الميسيسبي ليدعي ملكية جزء كبير من الأرض ثم اختفى في الكاريبي ليعود قائدا لكتيبة المتوحشين،استطاع بعملهم وحدهم، أن يبني عزبة، حيث قبل ذلك لم يكن هناك الأشجار والتربة غير المحروثة. لكنه كان أكثر تعقيدا من ستبين، هذا اذا لم يكن أقل اندفاعا في طموحاته الأولى، ولا يقل عنه بوصفه السلف الأعلى لعائلة جنوبية بارزة من عالم ثنائي عرقي عنيف يمكن أن تقود توتراته الى جهات غريبة. ذلك أن زارع البرية هذا كان عالما استطاع فيما بعد أن يتراسل مع جيفرسون حول العلم والاستكشاف. كان مزارعا من الميسيسبي تضمنت اسهاماته في المجتمع الفلسفي الامريكي، الذي اقترحه جيفرسون عضوا فيه، اللسانيات والأركيولوجيا وعلم توازن الموائع وضواغطها وعلم المناخ وعلم الفلك. ونشرت عن اكتشافاته الجغرافية مجلات وصحف مشهورة، كان مثل ستبين شخصا غريبا في العالم الزراعي للميسيسبي – كان يعرف بالسيد ويليم تماما كما عرف ستبين بالكولونيل. استورد هو أيضا، الى عالم خام نصف متوحش، دقائق الثقافة الأوروبية: لا الشمعدانات والسجادات المكلفة بل الكتب وأجهزة مسح الأراضي من أفضل نوع وأحدث الأدوات العلمية.

كان دنبر اسكتلندي الأصل، الابن الأصغر للسير ارشيبالد دنبر من موريشير. تعلم في البداية على يد مدرسين في المنزل حيث نضج اهتمامه ثم في جامعة أبريدين حيث اهتم كثيرا بالرياضيات وعلم الفلك والأدب المحض. ما حدث له بعد عودته الى المنزل، وفيما بعد في لندن، حيث وزع مع مفكرين شبان ما دفعه، أو قاده خارج المدينة / العاصمة الى رحلته نحو الغرب، ليس معروفا. ولكن مهما كان باعثه ظهر دنبر في نيسان من عام 1771م في سن الواحد والعشرين في فيلادلفيا.

كان هذا المتلهف دائما للنبالة، هذا النتاج المثقف للتنوير الاسكتلندي، ولثقافة لندن الرفيعة، هذا الأديب الشاب، المولع بالكتب، والعالم الذي كان يكتب رسائل حول المشاكل العلمية ودعوات دين سوفيتز من أجل الحياة الفاضلة والسعيدة، وعن وصية الله بأن البشر يجب أن يحبوا بعضهم، كان فاقدا للاحساس تجاه معاناة أولئك الذين خدموه. في تموز 1776 لم يسجل استقلال المستعمرات الامريكية عن بريطانيا، بل قمع مؤامرة من أجل الحرية في مزرعته خطط لها ونفذها العبيد.

إن دنبر، الشاب الواسع المعرفة، العالم ورجل الأدب الاسكتلندي، لم يكن ماديا كان نظام مزرعته مرنا وفق معايير ذلك الوقت. كسا وغذى عبيده بشكل لائق وغالبا ما كان يلين في عقوباته الأكثر حدة. ولكن على بعد 4000 ميل من مصادر الثقافة،ووحيدا على الحافة البعيدة للحضارة البريطانية، حيث كان البقاء على قيد الحياة صراعا يوميا والاستغلال الذي لا يرحم، طريقه للحياة، حيث الفوضى والعنف والانحلال البشري أمور شائعة، انتصر من خلال التكيف الناجح. وبسبب مشاريعه الدائمة،وسعة خيلته، تبلدة حساسيته المصقولة بسبب سجع حياة الحدود، وشعر داخل نفسه بحس السلطة والاستقلال، اللذين لم يعرفهما من قبل، شعر بقوة تدفقت من سيطرته المطلقة على حيوات الآخرين وبزغ رجلا جديدا مميزا، سيد حدود، وصاحب ملكية في عالم خام نصف متوحش.

دعوني أسلط الانتباه على بعض عناصر الصورة، على بعض المزاوجات والروابط التي حددت في قصة ويليم دنبر أولا، هناك العلاقة التاريخية بين التنوير ومؤسسة العبودية – حقوق الانسان واسترقاقه. ثانيا لدينا العلاقة بين ثقافة دنبر ومشروعه في العالم الجديد. كانت الثقافة التي امتلكها استثنائية ومصقولة: تضمنت الفكرة الأخيرة حول علم اللاهوت والعلم،وهو جهد ربما لجعلهما قابلين للتفسير بشكل متبادل، ولجعل أحدهما يدعم الآخر. انه ليس نتاج التنوير الاسكتلندي فحسب، بل أيضا مفكر لندني. قرأ جوناثان سويفت وناقش الوصية المسيحية التي تنص على المحبة المتبادلة،ووصف بأنه كان مفتقدا، بشكل غريب لاحساسه بمعاناة عبيده. في تموز 1776 أشار، مدهوشا ومتألما الى تمرد العبيد في مزرعته:”احكموا على دهشتي. ما نفع اللطف والمعاملة الحسنة حين يكافآن بعدم امتنان كهذا". يتابع بيلي:”محتارا بشكل مستمر.. من سلوك عبيده.. استعاد دنبر هاربين وحكم عليهما بـ500 جلدة لكل منهما في خمسة أوقات مختلفة وأن يحملا سلسلة وزند خشب مثبتا الى الكاحل".

أخذ هذا ليكون صورة بليغة عن العملية التي شكل بها الامريكي كجديد وأبيض وذكر. انه تشكيل بأربع نتائج مرغوبة على الأقل أشير اليها جميعها في تلخيص بيلي لشخصية أنبر وهي موجودة في ذلك الشعور الذي أعترى دنبر. دعوني أكرر:”حس بالسلطة والاستقلال لم يعرفه من قبل، قوة تدفقت من سيطرته المطلقة على حيوات الآخرين، بزغ رجلا جديدا مميزا، سيد حدود، رجل ملكية في عالم خام نصف متوحش". سلطة، احساس بالحرية لم يعرفه من قبل، لكن ما الذي عرفه من قبل؟ الثقافة الرفيعة، ثقافة لندن الرفيعة، الفكر اللاهوتي والديني، ويستنتج المرء أن لا شيء من هذه يستطيع أن يقدم له السلطة والاستقلال الذي قدمته حياة مزارع الميسيسيبي. يفهم هذا الاحساس أيضا على أنه قوة تتدفق، حاضرة مسبقا، وجاهزة للتدفق، نتيجة”سيطرته المطلقة على حيوات الآخرين". ليست هذه القوة هيمنة ارادية، أو خيارا مفكرا به ومحسوبا، بل بالأحرى نوع من المورد الطبيعي، شلالات نيا جارا تنتظر أن تسقي دنبر حالما يصبح في موقع يستلم فيه السيطرة المطلقة، وحالما انتقل الى ذلك الموقع انبعث رجلا جديدا، رجلا مميزا ومختلفا. ومهما كان وضعه الاجتماعي في لندن، فهو في العالم الجديد سيد أكثر نبالة ورجولة. إن موقع تحولاته هو داخل العالم الخام والاسترقاق يشكل خلفية له.

أريد أن أقترح أن هذه الاهتمامات – الاستقلال والسلطة والاختلاف والقوة المطلقة – لم تصبح موضوعات وفرضيات رئيسية للأدب الامريكي فحسب، بل إن كلا منها جعل ممكنا ونشطا وشكل من خلال وعي معقد وتوظيف لافريقية مؤلفة. وهذه الافريقية، التي نشرت كبدائية ووحشية، هي التي قدمت أرضية مسرحية وساحة لتطوير جوهر الهوية الامريكية.

إن الاستقلال هو الحرية ويترجم الى الفردية التي أيدت واحترمت كثيرا. الجدة تترجم الى البراءة ويصبح التميز اختلافا وتشيد استراتيجيات لتحصينه. تصبح السلطة والقوة المطلقة بطولة رومانسية فاتحة، رجولة ومشكلات استلام سلطة مطلقة على حيوات الآخرين. ويبدو أن هذه الأخيرة تجعل كل شيء ممكنا، وقد استدعيت القوة المطلقة ولعبت ضد وداخل مشهد طبيعي وذهني صور”كعالم خام نصف متوحش". لماذا نظر اليه كخام ومتوحش؟ هل لأنه مأهول بسكان محليين وليسوا بيضا؟ ربما، ولكن بالتأكيد، بسبب وجود سكان سود مقيدين وغير أحرار، متمردين ولكنهم جاهزون للخدمة، إزاءهم أصبح دنبر – مثل جميع الرجال البيض – قادرا على قياس الاختلافات التي تمنح امتيازات وتمتلك امتيازات.

في النهاية تنصهر الفردية مع نمط الامريكيين كمنعزلين ومغتربين وساخطين. يريد المرء أن يسأل ما الذي يغترب الامريكيون عنه؟ ما هو الشيء الذي يتبرأ منه الامريكيون بشكل ملح؟ عمن هم مختلفون؟ وفوق من تمارس القوة المطلقة؟ ممن انتزعت؟ ولمن منحت؟

تكمن أجوبة تلك الأسئلة في حضور السكان الافارقة القوي والداعم للأنا وهؤلاء السكان ملائمون بجميع الطرق، وليس أقلها تعريف الذات. يستطيع هذا الذكر الأبيض الجديد أن يقنع نفسه الآن بأن الوحشية هي”هناك. وضربات السياط التي أمر بها – 500 نفذت خمس مرات هي 2500- ليست وحشية المرء الخاصة. والانتفاضات المتكررة والخطيرة من أجل الحرية، توكيدات محيرة حول لاعقلانية السود، ومزيج دعوات دين سويفتن وحياة عنف منظم تم تحضيره. واذا كان الاحساس قد تبلد بما يكفي، تبقى حالة الخام خارجية.

تشق تلك التناقضات طريقها عبر صفحات الأدب الامريكي. كيف يمكن أن يتجل هذا بشكل آخر؟ وكما يذكرنا دومينيك لا كابرا:”لم تنتج الروايات الكلاسيكية من قوى سياقية شائعة فحسب (مثل الايديولوجيات) بل تعاود أيضا العمل، على الأقل جزئيا، من خلال تلك القوى، بأسلوب نقدي وأحيانا بشكل تحويلي كامل". أما بالنسبة للثقافة فإن الحقل الخيالي والتاريخي الذي سافر فيه الكتاب الامريكيون الأوائل، صاغه حضور آخر عرقي بشكل كبير، والمقولات التي تقول العكس، ملحة أن العرق لا معنى له بالنسبة للهوية الامريكية، هي نفسها مليئة بالمعنى، لا يتحرر العالم من العرقية. ولن يخلو منها، من خلال الجزم. إن فعل فرض اللاعرقية في الخطاب الأدبي هو نفسا فعل عنصري. إن صب الحمض البلاغي على أصابع يد سوداء يمكن بالفعل أن يدمر البصمات لكن لا اليد. بالاضافة الى ذلك، ماذا يحدث في فعل المحو العنيف ذاك، الخادم للذات ليدي وأصابع وبصمات الشخص الذي يقوم بالصب؟ أتنجو من الحمض؟ إن الأدب نفسه يوحي بخلاف ذلك.

يشكل الحضور الافريقي، سواء أعان ضمنيا أم علنيا، نسيج الأدب الامريكي بشكل اجباري لا فكاك منه. إنه حضور مظلم وثابت للخيال الأدبي كقوة وسيطة مرئية وغير مرئية. وحتى حين لا تكون النصوص الامريكية عن الحضور الافريقي أو الشخصيات أو السرد أو المصطلح، فإن الظل يرفرف في التضمين والاشارة وخط الترسيم. ولم يكن من قبيل الصدفة أو الخطأ أن السكان المهاجرين (وكثيرا من الأدب المهاجر) فهموا أمريكيتهم كتعارض مع السكان السود المقيمين. وفي الحقيقة يعمل العرق الآن كاستعارة ضرورية جدا لبناء الامريكية بحيث ينافس النزعات العرقية العلمية والزائفة والمكونة طبقيا، التي أصبحنا أكثر تعودا على تفسير دينامياتها. وكاستعارة للقيام بعملية الامركة كلها. بينما تدفن مكوناتها العنصرية الخاصة، يمكن أن يكون هذا الحضور الافريقي شيئا لا تستطيع أن تعيش الولايات المتحدة بدونه. ترتبط كلمة”أمريكي”بالعرق على المستوى العميق. ولتحديد شخص كافريقي جنوبي، هو أن نقول شيئا قليلا جدا، ونحتاج الى صفة أبيض أو أسود أو ملون لنجعل كلامنا واضحا. ان المسألة في هذه البلاد معكوسة تماما تشير كلمة «امريكي”الى البياض. ويصارع الافارقة العرقية لجعل المصطلح قابلا للتطبيق على أنفسهم وواصلة بعد واصلة بعد واصلة؟

لم يمتلك الامريكيون نبالة مسرفة ومسبقة تنزع منها هوية فضيلة قومية بينما يستمرون في اشتهاء الفسق والترف الارستقراطي. ناقشت الأمة الامريكية احتقارها وحسدها بالطريقة التي اتبعها أنبر وذلك من خلال تأمل، منعكس على الذات في افريقية مختلفة ومؤسطرة.

وبالنسبة للمستوطنين والكتاب الامريكيين بعامة، أصبح ذلك الافريقي الآخر وسائل للتفكير بالجسد والذهن والعماء واللطف والحب، وقدم فرصة لممارسات في غياب القيود وحضورها، وفي تأمل الحرية والعدوان، وقدم فرصا لاستكشاف علم الاخلاق وقواعد السلوك وللقيام بالتزامات العقد الاجتماعي وحمل صليب الدين واتباع تشعبات القوة.

إن قراءة ورسم خريطة الشخصيات الافريقية في تطور أدب قومي هو مشروع جذاب وملح في آن، هذا إذا أردنا أن يصبح تاريخ ونقد أدبنا صحيحين. وجاء التماس امرسون للاستقلال الفكري كتقديم صحن فارغ يستطيع الكتاب أن يملاه بغذاء من قائمة فطرية. ولا شك أن اللغة ينبغي أن تكون انجليزية لكن مضمون تلك اللغة أو موضوعها ينبغي أن يكون، بشكل متعمد، غير انجليزي وضد أوروبي، بقدر ما تنكر بلاغيا عبادة العالم القديم وتعرف المامي على أنه فاسد لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه، وفي الدراسات التي كتبت حول تشكيل شخصية امريكية وانتاج أدب قومي صنف عدد من البنود والبند الرئيسي الذي أضيف الى القائمة يجب أن يكون حضورا افريقيا – غير امريكي، وآخر من غير ريب. ولم تنبعث الحاجة لتأسيس الاختلاف من العالم القديم فحسب بل من اختلاف في الجديد. ما كان مميزا في العالم الجديد هو، قبل كل شيء، ادعاؤه الحرية، ثانيا حضور اللا أحرار في قلب التجربة الديمقراطية والغياب الحرج للديمقراطية وصداها وظلها وقوتها الصامتة في النشاط السياسي والفكري لبعض غير الامريكيين. كانت الملامح المميزة لغير الامريكيين وضعهم العبودي والاجتماعي ولونهم. ويوسعنا تخيل أن العالم الأول كان سيدمر ذاتيا بطرق متنوعة لو أنه لم يجهز عليه. كان هؤلاء العبيد مرئيين بإفراط على عكس كثيرين في تاريخ العالم. وقد ورثوا، بين أشياء أخرى، تاريخا طويلا حول معنى اللون. ولم يحدث ببساطة أن امتلك أولئك السكان العبيد لونا مميزا، بل عنى هذا اللون شيئا ما. سمى ذلك المعنى ونشره باحثون، على الأقل، منذ تلك اللحظة في القرن الثامن عشر حين بدأ باحثون آ خررن – وأحيانا الباحثون أنفسهم – باستقصاء كل من التاريخ الطبيعي وحقوق الانسان غير القابلة للتحويل، أي الحرية البشرية.

يفترض المرء أنه لو كان الافارقة جميعا يمتلكون ثلاث أعين أو أذنا واحدة، فإن دلالة ذلك الاختلاف عن الغزاة الأوروبيين الفاتحين، لكن الأقل عددا، ستظهر أنها تمتلك معنى على أية حال، لا يمكن أن تطرح الأسئلة في هذا الوقت المتأخر من القرن العشرين على الطبيعة الذاتية في اضفاء القيمة والمعنى على اللون. وميزة هذا النقاش هو التحالف بين أفكار استخلصت بصريا وتعبيرات لغوية. ويقود هذا الى الطبيعة السياسية والاجتماعية للمعرفة المحصلة كما هو ظاهر في الأدب الأمريكي. والمعرفة مهما كانت دنيوية ونفعية، تلعب في صور لغوية، وتشكل ممارسة ثقافية. وما يفعله الفنانون في كل مكان هو الاستجابة للثقافة والتوضيح والتفسير والتثبيت والترجمة والتحويل والنقد. ويقوم بهذا الكتاب المنخرطون في تأسيس أمة جديدة. ومهما كانت استجاباتهم الشخصية والسياسية الرسمية للتناقض الكامن في جمهورية حرة ملتزمة عميقا بالاسترقاق، كان كتاب القرن التاسع عشر منتبهين لحضور البشر السود. والأكثر أهمية هو أنهم خاطبوا، بطرق عاطفية قليلا أو كثيرا، وجهات نظرهم في ذلك الحضور الصعب.

لم ينحصر الانتباه للسكان العبيد في المقابلات الشخصية التي يمكن أن يكون الكتاب قد قاموا بها، كان نشر قصص العبيد مزدهرا في القرن التاسع عشر وكانت الصحافة والحملات السياسية وسياسة أحزاب مختلفة وبرامج المسؤولين المنتخبين مليئة بخطاب الاسترقاق والحرية. ومن كان يجهل المسألة أكثر انفجارا في الأمة كان في حالة عزلة كيف يقدر المرء أن يتحدث عن الربح والاقتصاد والعمل والتقدم وحق الاقتراع والدين المسيحي والحدود وتشكيل ولايات جديدة والاستيطان في أراض جديدة، وعن التربية والنقل (الشحن والركاب) والحارات والجيش وتقريبا عن كل شيء تهتم به الأمة، دون أن يمتلك في قلب الخطاب، في قلب التعريف، حضور الافارقة والمنحدرين منهم.
لم يكن هذا ممكنا ولم يحصل ما حدث غالبا كان جهدا للتحدث عن هذه المسائل بمفردات مصممة لتمويه الموضوع. لم ينجح هذا دائما ولم يكن التمويه مقصودا في عمل كتاب كثيرين، لكن النتيجة كانت سردا رئيسيا تحدث من أجل الأفارقة والمنحدرين منهم وليس عنهم. لم يستطع سرد المشرع أن يتعايش مع استجابة من الشخصيات الافريقية. ومهما كانت الشعبية التي حظيت بها قصص العبيد ومهما كان قويا تأثيرها في دعاة إلغاء الاسترقاق وتحويلها للمضادين لهم، فإن سرد العبد الخاص، حرر الراوي بطرق عديدة لكنه لم يدمر سرد السيد. كان بوسع سرد السيد أن يقوم بأي عدد من التعديلات ليبقى سليما. كان الصمت حيال الموضوع نظام اليوم. حطمت بعض حالات الصمت وحصن بعضها مؤلفون عاشوا مع السرد التنظيمي وفي داخله. وما يهمني هو استراتيجيات صيانة الصمت واستراتيجيات تحطيمه. كيف اندمج الكتاب المؤسسون لأمريكا الفتية مع الشخصيات الافريقية وتخيلوها وابتكروا حضورها؟ كيف يقود التنقيب في هذه الممرات الى تحليلات جديدة وأكثر عمقا لما تتضمنه ولكيفية احتوائها له؟

دعوني أقترح بعض الموضوعات التي تحتاج الى استقصاء نقدي:

أولا، الشخصية الافريقية كبديل ومساعد (مدعم). كيف تمكن المقابلة الخيالية، مع الافريقية، الكتاب البيض أن يفكروا بأنفسهم؟ ما هي ديناميات صفات الافريقية المنعكسة ذاتيا؟ انتبهوا مثلا الى الطريقة التي تستخدم بها الافريقية لتدير حوارا بخصوص المكان الامريكي في قصة آرثر جوردون بيم، فمن خلال استخدام الافريقية يتأمل بو المكان كوسيلة تحتوي خوفا من التعدي وغياب الحدود ولكن أيضا كوسيلة لاطلاق واستكشاف الرغبة في تخم فارغ وبلا حدود. فكروا بالطرق التي تخدم بها الافريقية لدى كتاب امريكيين آخرين (مارك توين، ميلفل، وهوثورن) كأداة لتنظيم الحب والخيال كدفاعات ضد التبعية النفسية للخطيئة واليأس. إن الافريقية هي الأداة التي تعرف الذات الامريكية نفسها بها كذات غير مستعبدة، بل حرة، غير منفرة، بل مرغوبة، غير ضعيفة بل قوية، ليست بدون تاريخ، بل تاريخية، غير ملعونة، بل بريئة، ليست صدفة عمياء للتطور، بل انجاز تعاقبي للقدر.

الموضوع الثاني الذي يحتاج الى انتباه نقدي هو الطريقة التي يستخدم بها مصطلح افريقي لتأسيس الاختلاف أو فيما بعد، ليشير الى الحداثة. نحتاج الى شرح الطرق التي تكمن فيها موضوعات محددة ومخاوف وأشكال من الوعي وعلاقات طبقية في استخدام مصطلح الافريقية: كيف يفسر حوار الشخصيات السوداء كلهجة غريبة تخريبية جعلت، بشكل مدبر، غامضة من خلال تهجئة اخترعت لجعلها مبهمة. كيف توظف ممارسات اللغة الافريقية لاثارة التوتر بين الكلام واللاكلام؟ كيف استخدمت لتأسيس عالم قابل للادراك، منقسم بين الكلام والنص، ولتدعيم الفروقات الطبقية والغيرية، وأيضا لتؤكد الامتياز والقوة؟ كيف تخدم كمعلم وأداة للجنسانية غير الشرعية والخوف من الجنون والنفور ومقت الذات؟ أخيرا، يجب أن ننظر الى كيف أن مصطلح أسود – والحساسيات التي يتضمنها – كيف من أجل القيمة الترابطية التي يعيرها للحداثة كونها أنيقة ورفيعة ومصقولة جدا!

ثالثا، نحتاج الى دراسة الطرق التقنية التي استخدمت بها الشخصية الأفريقية لتخطط وتدعم اختراع ومدلولات البياض. نحتاج الى دراسات تحلل الاستخدام الاستراتيجي للشخصيات السوداء لتحديد الأهداف وتدعيم صفات الشخصيات البيضاء. ستكشف دراسات كهذه عملية تأسيس الآخرين من أجل معرفتهم، وعملية عرض معرفة الآخر من أجل تسهيل وتنظيم العماء الداخلي والخارجي. ستبين دراسات كهذه العملية التي تمكن من استكشاف واختراق المرء لجسده بقناع جنسانية الآخر وفوضاه وقابليته للانجراح والسيطرة على انبعاثات الفوضى بالجهاز التنظيمي للعقاب والسخاء.

رابعا، نحتاج الى تحليل التلاعب بالسرد الافريقي (أي قصة شخص أسود، تجربة كونه مقيدا أو منبوذا) كوسيلة للتأمل – آمنة وخطيرة – في انسانية المرء الخاصة. ستكشف تحليلات كهذه كيف يقدم تمثيل ذلك السرد، والاستيلاء عليه، فرصا لتأمل القيود والمعاناة والتمرد وللتأمل في القدر والمصير. ستحلل كيف استخدم ذلك السرد من أجل خطاب في علم الاخلاق والشفرات الاجتماعية والكونية لعلم السلوك، وتوكيدات حول تعريفات الحضارة والعقل. سيظهر نقد من هذا النمط كيف استخدم السرد في بناء تاريخ وسياق للبيض من خلال افتراض اللاتاريخية واللاسياقية للسود.

تظهر هذه الموضوعات على السطح باستمرار حين يبدأ المرء النظر بانتباه، بدون جدول عمل مسبق مقيد ووقائي. وتبدو بالنسبة لي على أنها تقدم لأدب الأمة جسدا معرفيا أكثر تعقيدا وفائدة. ويمكن أن يوضح هذا مثالان: رواية امريكية رئيسية هي في الوقت نفسه مصدر للرومانس ونقد له كنوع أدبي، الآخر هو انجاز الوعد الذي قمت به مبكرا حول العودة الى صور بو البيضاء الساكنة.

عن مجلة نزوى العمانية